توماس جورجيسيان
توماس جورجيسيان


يوميات الاخبار

الحب فى زماننا هذا

الأخبار

الأحد، 20 فبراير 2022 - 07:40 م

توماس جورجيسيان

الحكيم ليس حكيما إلا لأنه يحب، والأحمق ليس أحمق إلا لأنه يزعم أنه يفهم الحب

ربما قد تتساءل لماذا لم أضع علامة التعجب أو علامة الاستفهام بعد العنوان ـ الحب فى زماننا هذا ـ على أساس أن الشك فى امكانية وجود الحب واستمراره فى زماننا هذا صار أمرا مشاعا وغالبا محسوما لدى الكثيرين ـ نساء ورجالا على السواء . خاصة بعد أن عشنا ونعايش منذ فترة عصر السوشيال ميديا وأيضا نعيش زمن الجائحة ـ بتبعاتها النفسية والاجتماعية.. إلا أن ما يبدو لافتا للانتباه ومثيرا للتعجب أن الحب مهما كان وصفه أو تصنيفه لا يزال حيا يرزق وأملا لا يمكن الاستغناء عنه وكما يبدو مازال له سحره ومعزته ونفوذه وبصماته وعشاقه فى هذا الزمن.. فى عام ٢٠٢٢ أيضا.
الشاعر أنسى الحاج يطل علينا من لبنان ليذكرنا: «.. لنا حياة وليس لنا غيرها، وإذا لم نطرب بالحب فمتى نصنع ذلك؟» ثم يضيف : «لنا حب وليس لنا غيره، إذا احتقرناه فأين نصنع مجدنا؟».


وبما أن الروائى البرازيلى باولو كويلهو له خبرة وتجربة فى أمور الحب فلا يتردد فى تنبيهنا ـ لعلنا نتعلم ـ : ..الحكيم ليس حكيما إلا لأنه يحب، والأحمق ليس أحمق إلا لأنه يزعم أنه يفهم الحب».
وهل يمكن أن نأتى بسيرة الحب بدون أن نلتفت للشاعر العظيم بابلو نيرودا واعترافه الآتى من تشيلي:
أحبك دون أعرف كيف؟ أو متى؟ أو أين؟
أحبك بلا مواربة, بلا عقد و بلا غرور
هكذا أحبك لأنى لا أعرف طريقة أخرى
وفى كل الأحوال لا شك أن هناك تعطشا دائما لتلك النظرة (سواء كانت الأولى أو بعد الأولي) وذلك الخفقان فى القلب .. وتلك اللهفة للتلاقى والرغبة فى تكرار اللقاء. سواء كنا فى العصر الحجرى أو عصر الانترنيت .. سواء كنا فى فصل دراسى .. أو فى مطعم فاخر.


ولا يعتقد الكاتب الأمريكى دانيال جونز أن الحب نفسه مختلف فى زماننا هذا عما كان فى الماضي. جونز حرر الباب الأسبوعى «الحب الحديث» فى صحيفة «نيويورك تايمز» لأكثر من ١٥ عاما وقرأ عشرات الآلاف من الرسائل تتضمن تجارب القراء مع الحب .. وحسب ما قاله جونز فإن الشعور بالحب لم يتغير وإن اختلفت التجربة وشدد على أن الإنسان يتفاعل ويتعامل مع التجربة وليس مع تعريف معنى أو معانى الحب. ويبدو أن لهفة القلب للاقتراب من قلوب الآخرين لم تتغير. ورغبة القلب فى خوض هذه المغامرة أو التجربة لم تخمد أبدا مهما كان الثمن أو كان الألم. مازال لتجربة الحب فرحها وألمها..فرحة اللقاء وألم الفراق..
ـ “لو كنت أعرف خاتمتى ما كنت بدأت” .. هكذا كتب الشاعر نزار قبانى كلمات غناها عبد الحليم حافظ ..قد يراها البعض بأنها اعتراف بالانكسار والفقد ولحظة ندم وربما محاسبة للذات .. كم من لحظات مثلها عشناها فى حياتنا
أما الشاعر الفلسطينى محمود درويش فله طريقته فى تجاوز الحزن والفقد فيذكر بأنه يدرب قلبه على الحب كى « يسع الورد والشوك» وأنه يتوق لتكرار اللقاء فيكتب:ـ
من سوء حظى أنى نجوت من الموت حبا
ومن حسن حظى أنى مازلت هشا
لأدخل فى التجربة
إن قصص الحب ولدت لكى تبقى وتعيش ـ ولو فى الذاكرة. هكذا أخذنا ونأخذ الخطوة الأولى رغم عدم معرفتنا بالخطوة التالية أو تلك الخطوة أو الخطوات التى سنأخذها بعد أيام أو أسابيع أو أشهر أو سنوات. بالتأكيد كنا نعرف أننا بدأنا قصة حب وكان حلمنا أنها ستستمر وتمتد وستكون معنا الى الأبد. لا أحد يستطيع أن يسلب منا حق الحب وحق الحلم. ونحن لا ننظر للوراء بحزن أو غضب بل ننظر بالرضا وهدوء النفس .. ونتذكر الحب وسنينه وحواديته بحلوها ومرها. هكذا الحياة .. حياتنا.
أن تكون بصحبة يحيى حقى
ما أحلاها من صحبة .. أن تكون مع أسطى الكتابة الجميلة الساحرة .. من آمن بأن “خليها على الله” فلسفة وأسلوب حياته وأختار “أنشودة البساطة” بوصلته فى دروب الحياة . وقد أسعدنى كثيرا أن العظيم يحيى حقى كان شخصية معرض الكتاب هذا العام لأن تسليط الأضواء على حضوره المميز فى تاريخنا الأدبى والثقافى وعلى كتاباته القيمة فرصة لكى نعرفه أكثر ونقدر قيمته وأن نقرأه من جديد لكى نفهم وندرك “معنى يحيى حقي” .. وهذا التعبير الأخير صاغه الناقد رجاء النقاش وهو يأخذنا الى عالم كاتب “قنديل أم هاشم”ـ


وبالطبع أعتبر نفسى محظوظا أنى ألتقيت بصاحب «عطر الأحباب» العديد من المرات وتحاورنا وتواصلنا روحيا وفكريا.. ينبهنى بقيمة صديقه المقرب محمود محمد شاكر ويسألنى عما أعتبره إلهاما لى وأنا أكتب وكيف أتعامل معه .. وعندما يلفت نظرى لوحة للفنان حسن سليمان ينصحنى بقراءة كتاب حرية الفنان .. غالبا كنت السائل فأنا فى حضور المعلم تلميذ يريد أن يسمع ويتعلم من الكبير الحميم.. وعندما عرف بأن زفافى قريب أبدى رغبة فى حضوره ومشاطرتى فى فرحي..هكذا شرفنى يحيى حقى بصحبة زوجته جان بحضور زفافى فى الكنيسة الأرمينية بشارع رمسيس ..ديسمبر ١٩٨٧ وفى تقديم التهنئة للعروسين حضننى الجميل وقال لي:» ربنا يسعدك ويسعدها .. ويسعدكم معا».. فيما بعد أبلغنى كم كان استمتاعه يالموسيقى الكنسية الأرمينية التى سمعها فى الكنيسة.


ولن أنسى أبدا تلك الدردشة الحميمة صباح يوم مشمس فى الثمانينيات فى منزله بمصر الجديدة حول لحظة نشوء الفكرة .. عن الكلمة التى تلفت نظرك وتحركك أو تحرك سعيك للارتقاء بها الى نص تصيغه وحكاية ترويها.
وأسأله لماذا لا تقوم بإملاء ما تريد أن تكتبه طالما أن بصرك خذلك ولم يعد فى استطاعتك أن ترى بوضوح الكلمات ـ قراءة وكتابة؟
بعد تأمله للسؤال بسرحة يذكر حقى كيف أن المتعة فى الكتابة بالنسبة له هى أن يرى الكلمة التى يكتبها فى الجملة التى صاغها وأن يراها وسط الكلمات الأخرى وأن تلفت هذه الكلمة انتباهه وإعجابه فيداعبها ويلاعبها ويلاغيها ويدلعها ويحضنها بعينيه وبيديه ليأخذ منها أجمل ما عندها وتأخذ هى (الكلمة) منه الكاتب أجمل ما لديه.
ثم يكمل العاشق للكلمة حديثه: أحيانا تجد الكلمة التى كتبتها تقف فى مكانها الصحيح .. وانها منسجمة مع الآخريات من الكلمات .. وهن أيضا منسجمات معها.. ولكن تتكشف لك أحيانا بأن عليك أن تسحبها من سياق النص المكتوب .. تلغى وجودها من إبداعك وتفعل ذلك وكلك ألم ولكن ما الحل طالما أنك غير راض عما كتبته أو عما أردت أن تكتبه وأنت حريص على كل كلمة وعلى كل لحظة إبداع عشتها بكل مشاعرك وأحاسيسك.


ثم يسألنى هل تستطيع أن تعيش كل هذه البهجة وأنت تملى على أحد ما تريد أن تكتبه ؟
أتذكر هذه اللحظات المبهجة حتى الآن وأستمتع بالكتابة عنها وقراءتها من جديد.
حدث فى مصر عام ١٩١١
عام ١٩١١ زار مصر كل من الأب جوميداس والفنان ساريان.. الأول كان أبا كاهنا بالكنيسة الأرمينية إلا أنه كرس حياته للموسيقى والغناء الأرمنى وأعظم ما قام به هو تدوين وتجميع موسيقى وكلمات الأغانى الشعبية الأرمينية أينما كانت وبالتالى حماها من الاندثار والنسيان ـ آفة شعوب كثيرة. أما الثانى فكان الفنان الرسام مارديروس ساريان من كبار فنانى الأرمن.


حياة جوميداس الفنية مثيرة للاهتمام خاصة أنه سافر الى دول أوربية عديدة من خلال فرق موسيقية وغنائية كونها وقادها بنفسه. ومن هذه الدول ألمانيا تحديدا كان فيها دارسا ومحاضرا للموسيقى. وفى أبريل عام ١٩١١ جاء الى الإسكندرية وكون كورالا يتكون من ١٤٠ تلميذا وتلميذة وقدم حفلات فى كل من الأسكندرية والقاهرة . ويذكر أن أرغنا عزف عليه جوميداس متواجد فى مدرسة نوباريان بمصر الجديدة.


وفى متحف خاص به فى يريفان توجد صور له تم تصويرها فى القاهرة. وأيضا صورة لقائمة طعام مكتوبة باللغة الأرمينية من صاحب مطعم أرمنى بشاطبى الاسكندرية أقام حفل عشاء احتفالا بالأب جوميداس فى يوليو ١٩١١ قبل أن يغادر مصر فى أغسطس.


أما ساريان (من مواليد ١٨٨٠) خلال زيارته لمصر كان فى بداية الثلاثينات من عمره.وزيارة لمنزل ومتحف ساريان فى الشارع المسمى باسمه فى يريفان العاصمة الأرمينية تعطى الفرصة للتعرف على لوحاته المصرية إلهاما وموضوعا وهى كثيرة.فى هذا المتحف نشاهد أيضا القناع المصرى القديم مستخدما فى لوحاته. وصورة له وهو فى منطقة الأهرامات راكبا الجمل وبعض التذكارات التى أتى بها من مصر. الريف المصرى نراه فى لوحات ساريان المبهجة بألوانها. مصر الطبيعة والتاريخ والحضارة ألهمت ساريان وأثرت عالمه الإبداعى وانعكس هذا التأثير المصرى على تعامله مع الألوان والطبيعية والبشر من حوله. مكونات ومكنونات لوحاته المصرية ـ اذا جاز هذا التعبير ـ تحتاج الى اعادة تأمل ودراسة وتحليل خاصة أن هذا الفنان خلال فترة قصيرة قضاها فى مصر رسم لوحات عديدة شكلت مرحلة مهمة ولافتة للانتباه من تاريخه الفني. ساريان توفى عام ١٩٧٢ وكان فى ال٩٢ من عمره.

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة