نوال مصطفى
نوال مصطفى


يوميات الأخبار

الحرية للنبلاء

نوال مصطفى

الثلاثاء، 22 فبراير 2022 - 07:50 م

 

 «قصة مصرية إنسانية مؤثرة، بطلها طبيب كان يحلم أن يكون قسًا ليخدم الضعفاء والمحتاجين، لكنه قرر أن يخدم الناس بصورة واقعية وحقيقية أكثر.. فما هى؟»

 قصة إنسانية، بسيطة لأسرة مكافحة، يشتغل كل أفرادها معاً على مركب صيد، يبيعون ما يجود به البحر عليهم من صيد، يقومون بتنظيفه، وتجهيزه معبأ للبيع، يسلمونه للتاجر الكبير، الذى يستغل فقرهم وحاجتهم، يشترى صيدهم بسعر بخس، لا يساوى كد وتعب أب وأم، وابن شاب، وابنة شابة فى المدرسة الثانوية تدرس فى الصباح ثم تركض سريعًا إلى حيث تعمل عائلتها لتقوم بواجبها معهم بكل همة ونشاط، والأهم من هذا كله، بشعور كامل بالمسئولية عن كل فرد من أفراد هذه الأسرة الجميلة المترابطة، التى شاء قدرهم أن يكونوا جميعا من الصم والبكم إلا هى «روبى» وتجسد شخصيتها «إيميليا جونز».


اسم فيلم Coda وهو مقتبس عن الفيلم الفرنسى «La Famille Bélier»، إلا أن النقاد أشادوا بالنسخة الأمريكية. Coda هى اختصار لـ Child Of Deaf Adults، وتعنى طفلا لوالدين من الصم.


الفكرة جديدة ومدهشة، أن تكون شخصا (تملك لسانا، وأذنا) وسط ثلاثة من الصم والبكم هم أقرب الناس إليك. الرائع هو كيف تم تناولها درامياً، كيف تحولت القصة إلى لغة السينما التى توصل المشاعر الداخلية عبر وسائط متعددة ليس من بينها الصوت بل الصورة، الإضاءة، الكادرات المصنوعة بحرفية عالية. من خلال هذا كله استطاعت الكاتبة والمخرجة «سيان هيدر» أن تورطنا مع أبطال القصة، لنصبح جزءا منها. ركزت بكاميرا حساسة على تفاصيل يومية لمجتمع واقعى حقيقى، لا نعرف عنه إلا القليل لأننا لسنا منهم، ولأن البشر المنتمين إليه ربما لا يريدون أن يرى معاناتهم أحد.


عائلة «روسى» المختلفة عن كل العائلات التى نعرفها، أو فى دائرة حياتنا، مكونة من الأب «فرانك روسى»، الأم «جاكى» والابن «ليو» والابنة «روبى» جميع هؤلاء ما عدا الابنة من الصم والبكم. يعيشون فى ماساتشوستس، حيث يستيقظ أفراد الأسرة مع شروق الفجر لركوب البحر بواسطة مركبهم، لاهثين وراء لقمة العيش. ولصيد الأسماك قوانين مفروضة من قبل السلطات العليا، حيث يجب توافر شخص متكلم على الأقل فى المجموعة. وهنا نجد روبى إحدى أفراد العائلة، والبطلة الرئيسية للحكاية، تتصدى دوماً لهذه المهمة. العمل يتكلم عنها وعائلتها، ومعاناتها فى محاولة الخروج من سجن صمتهم الذى وجدت نفسها محاصرة داخله. روبى تريد أن تحقق حلمها فى الغناء، يعوق هذا الحلم أنها لسان حال تلك العائلة الصماء، المتحدث الرسمى، الذى ينقل طلباتهم إلى الآخرين، والمترجمة المجانية التى تكاد تتخلى عن حلمها حينما يتعلق الأمر بمصير مزاولة مهنة عائلتها، المصدر الوحيد الذى يرتزقون منه.


«روبى» ابنة العائلة الصماء، لا يتوقف دورها على مساعدة أهلها فقط، بل هى طالبة فى المرحلة الأخيرة من الثانوية. تتعرض للتنمر والسخرية من زملاء الدراسة، بسبب خصوصية أهلها. فلا يخلو يومها المدرسى من بعض النكات عنها من قبلهم. تقرر فى يوم من الأيام، الانضمام لجوقة الغناء فى المدرسة، لأنها معجبة بصديقها «مايلز»، رغم عدم معرفتها إن كانت تجيد الغناء أصلا أم لا. لكنها تغنى طوال الوقت. تكتشف «روبى» أن الغناء حلمها وشغفها من خلال مدرس الموسيقى مستر «إف» وتدرك أنها تمتلك صوتاً جميلاً. فينصحها بالتقدم إلى جامعة بيركلى للموسيقى فى بوسطن، ويساعدها فى دروس خاصة للتحضير لفحص القبول.


قصة فيلم Coda بسيطة جدا، ممتعة وعميقة. الخط الدرامى للشخصية المحورية فى الفيلم «روبى» والتغيرات التى تطرأ على حياتها، وهى تعبر سن المراهقة وبداية الشباب، والقرارات المصيرية التى تجد نفسها فى مواجهتها، والتى تتقاطع مع مصلحة عائلتها الصماء المعتمدة عليها بالكامل.
السيناريو والحوار أكثر من رائع، رغم أن أكثر من نصف الفيلم يسير بلغة الإشارة التى يستخدمها الصم والبكم. المشاهد الإنسانية فى الفيلم تفتح عقلك، قلبك وروحك، كل مشهد له دور فى الفيلم، كل شيء يدور فى فلك القصة يخدمها ويغنيها.


من المشاهد العظيمة فى الفيلم مشهد الحفل الغنائى المدرسى أثناء أداء «روبى ومايلز» لإحدى الأغنيات، فجأةً تتوقف الأصوات، صورة يغمرها السكون المطبق، أصبحنا مثل عائلة «روسى»، نشعر بما يشعرون، وهم يروون الكل منسجم مع صوت وغناء ابنتهما، بينما هما وابنهما الأبكم لا يسمعون شيئا.
أحبت المخرجة العبقرية أن تضعنا فى هذه الحالة، أن نعيشها، ونحس للحظات بما يعيشه هؤلاء طوال عمرهم. وفى مشهد آخر، أصابنى بالقشعريرة من فرط جماله، يطلب الأب من «روبى» الغناء له، يضع يديه على رقبتها، وحلقها حتى يترجم ذبذبات الحبال الصوتية، ويسمعها بطريقته.


الشيء الرائع الذى فعلته المخرجة فى فيلم Coda أن طاقم العمل الذى قام بأدوار الصم، هم بالفعل من الممثلين الصم. وهى خطوة غير مسبوقة، خاصة فى الأفلام الدرامية الطويلة، وهى بذلك تضع هذه النوعية من الأفلام على خريطة السينما، وتجعلها أكثر حضورًا فى السنوات المقبلة، خاصة بعد النجاح الذى حظى به الفيلم الجميل من الجماهير والنقاد. كذلك يفتح الفيلم باباً أمام مجتمع الصم، للانخراط أكثر مع الأفلام ضمن صالات السينما، دون الحاجة للترجمة عبر الشاشات.


أمتعنى فيلم Coda فعلاً، فكرة، إخراجًا، تمثيلًا، كل شيء كان رائعًا، الفيلم طبعاً مرشح لأكثر من جائزة من جوائز الأوسكار لهذا العام. جائزة أحسن فيلم، وأحسن سيناريو وحوار مأخوذ عن رواية أدبية، وأحسن ممثل مساعد «دور الأب». فاز فيلم Coda بجائزة لجنة التحكيم الكبرى، وجائزة الجمهور فى مهرجان صن دانس السينمائى لعام 2021.


طبيب بقلب «قس»


وهذه قصة مصرية إنسانية مؤثرة، وملهمة، بطلها طبيب كان يحلم أن يكون قساً ليخدم الضعفاء والمحتاجين، لكنه اقتنع بعد تفكير عميق فى الأمر إنه يمكنه أن يخدم الناس بصورة واقعية وحقيقية أكثر من خلال عمله كطبيب. وهكذا مضت حياته ليقدم تجربة إنسانية، طبية، اجتماعية فريدة من نوعها فى إنقاذ آلاف المدمنين وأسرهم فى مصر والوطن العربى.


هناك نوع من البشر لا يستطيعون العيش داخل دائرتهم الخاصة فحسب، تجدهم مهمومين بعذابات الآخرين، خاصة من هؤلاء الذين لا حول لهم ولا قوة، وبطل تلك القصة الحقيقية الملهمة واحد من هؤلاء، إنه الدكتور إيهاب الخراط أستاذ الطب النفسى وعلاج الإدمان. كان يمكنه أن يعيش ملكاً من دخل عيادته التى ينتظر المرضى دورهم بها فى قائمة الانتظار طويلا، لكنه ومنذ بداية مشواره كان مشغولا بقضية إنسانية نبيلة وهى: كيف يمكن إنقاذ مئات بل آلاف الشباب الذى يقع فى فخ الإدمان، يواجه الدمار فى حياته هو وأسرته التى تعيش فى عذاب مقيم.


فكر دكتور إيهاب فى برنامج متكامل، لا يتوقف عند العلاج الدوائى للعلاج من أعراض الانسحاب من جسد المدمن، بل يكمل معه الطريق من خلال برنامج تأهيل مكون من 12 خطوة، يمهد لعودته للحياة الطبيعية مرة أخرى وهو قادر على مواجهة التحديات والبيئة المحيطة به، قادرًا على البقاء بعيدًا عن المخدرات، متعافيًا، دون عودة لما كان عليه قبل علاجه، واستكماله للبرنامج.


قصة برنامج «الحرية» منذ كانت فكرة بدأت عام 1989 أى منذ 33 سنة، وحتى الآن تستحق أن تروى. هى باختصار تجربة طبية، تعقبها فترة تأهيل للمدمن داخل بيوت ضيافة انتشرت الآن لتغطى الجمهورية كلها من الإسكندرية حتى سوهاج، خمسون بيت ضيافة يتلقى فيها المدمن بعد العلاج الدوائى تأهيلًا نفسيًا، روحانيًا، اجتماعيًا يقدمه أطباء شباب ومتعافون سابقون، ومجموعات دعم.


يعمل برنامج الحرية تحت رعاية: الكنيسة الإنجيلية بقصر الدوبارة، وجمعية فاتحة خير بالإسكندرية، والجمعية العربية للتنمية. والبرنامج له إدارة مستقلة مكونة من ممثلين لتلك الهيئات الثلاث وبترخيص من وزارتى الصحة والتضامن الاجتماعى.


هذه بيوت «منتصف الطريق» بين الإدمان والتعافى التام، تقدم الخدمة للإقامة فى مزرعة وادى النطرون باعتبارها الأكبر بين بيوت الإقامة، وهذه الخدمات تقدم لكافة الطبقات القادرة وغير القادرة أيضاً على دفع تكاليف العلاج بمبالغ رمزية التى تصل إلى مبالغ كبيرة جداً فى المصحات النفسية، كما تكفل أعدادًا ممن لا يملكون شيئًا من فقراء المدمنين عن طريق تغطية تكاليفهم من رجال الأعمال، والميسورين من المتعافين السابقين، والكنيسة الإنجيلية. أليست قصة تستحق أن تروى؟
قميص لتغليف الهدايا
سبع عشرة قصة فى مائة وخمسة وعشرين صفحة من المتعة الخالصة. قصص قصيرة مكثفة تروى بعذوبة وتأمل مذهل للتفاصيل مواقف إنسانية بسيطة، لكن الكاتب يملك القدرة على تصويرها بإحساس رائق يلتقط اللحظات الخاصة، تعبير قوى ولغة غنية يصيغان مشاهد تحرك المشاعر بصدق ملهم. اسم المجموعة القصصية هو: قميص لتغليف الهدايا للأديب أحمد القرملاوى.


«وليمة الحواس» هى قصة من قصص المجموعة، أعجبتنى جدا وفيها يحكى الراوى العليم، وهو صحفى حصل على موعد مهم مع فنان كبير، وذهب يجرى معه حوارًا ينفرد به لجريدته، كان الموعد فى مطعم، وطلب منه الفنان أن يتناول الغداء معه. كان الفنان يأكل بشهية وإقبال على الطعام، ثم فاجأه بمعلومة غريبة عنه، وهى أنه فقد حاستى الشم والتذوق منذ عدة سنوات بسبب خراج عميق نال من أعصاب الفك، ونتيجة لذلك فقد هاتين الحاستين.
ذهل الصحفى، وسأله: لكنك كنت تأكل بشهية ونهم؟! فرد الفنان قائلًا: عندما تفقد حاسة من حواسك، تحاول التركيز فى الحواس المتبقية لك، فأنا أرى الأكل، ألمسه، واستمع له. اندهش الصحفى وقال: تستمع للأكل؟ قال النجم: نعم أسمع صوت الشوكة والسكين وهى تلامس الطبق وتقطع قطعة اللحم، أركز فى شكل الأكل، وأحسه فى فمى، واستمتع بصوته.


لن أحرق القصة بالكامل على قارئى العزيز، بل أدعو محبى القراءة إلى الاستمتاع بهذه المجموعة القصصية التى تفوح منها روح الصوفية، وعمق الفلسفة. الحديث عن كل قصة يطول، لكنى سأكتفى هنا بالإشارة إلى بعض عناوين القصص: صلاة ق4، بيت من جير، الموت على صدر السندريلا، سجال الليل الصامت، كفان وأربعة أصابع، صفحة بيضاء، خزانة المائة نفس، الأحجية، موت حلو المذاق، قميص لتغليف الهدايا، وغيرها من القصص.
أحمد القرملاوى روائى من العيار الثقيل، حصلت روايته البديعة «ورثة آل الشيخ» التى صدرت عام 2020 على جائزة كاتارا للأدب عن جدارة واستحقاق.
كلمات:
  كلما اتسعت الرؤية؛ ضاقت العبارة «النفّرى»

الكلمات الدالة

مشاركه الخبر :

 
 
 
 
 
 
 
 
 

 
 
 

 
 
 

مشاركة