محمد السيد عيد
محمد السيد عيد


يوميات الاخبار

مائة عام على تصريح 28 فبراير

محمد السيد عيد

الأحد، 27 فبراير 2022 - 07:04 م

تصريح 28 فبراير حدث بالغ الأهمية فى التاريخ المصرى الحديث، فهو الخطوة الأولى لاستقلال مصر، بعد أربعين عاماً من الاحتلال البريطانى، وقد دفع المصريون دماءهم وأرواحهم ثمناً له

7 ديسمبر 1919 كان الشتاء يغمر بور سعيد بأجواء باردة. الشمس غابت فى هذا اليوم. السماء كانت غائمة، لونها قاتم، فى الساعة التاسعة من صباح هذا اليوم كان اللورد ملنر (وزير المستعمرات البريطاني) ينزل من السفينة التى أقلته من بريطانيا لمصر، هو وأعضاء لجنته.  نزلوا دون ضجة. حين وصلوا للرصيف وجدوا فى استقبالهم عدداً من الإنجليز، على رأسهم الجنرال كونجريف نائب القائد العام للجيش البريطانى فى مصر. تبادلوا التحية بسرعة، وتحركوا نحو محطة القطارات. كان كل شيء معداً سلفاً. ركبوا القطار، وسبقهم فى التحرك قطار آخر للحراسة، وحلقت فوقهم  خمس طائرات حربية للتأمين. لم تعلن بريطانيا عن الزيارة قبل وصولها، ولم تعرف بها الصحف المصرية. كان كل شيء يتم فى سرية تامة.


فى الثانية بعد الظهر وصل القطار إلى محطة القاهرة. كانت المحطة موصدة الأبواب. تخلو من الركاب. نزل الجميع من القطار. ركبوا العربات التى تنتظرهم، تحركوا فى صمت نحو دار الحماية البريطانية تحت حراسة مشددة.


فى دار الحماية استقبلهم اللورد اللنبي، المندوب السامى البريطاني. وبعد أن اطمأن على سلامة وصولهم أعلن عن الزيارة، واشتعلت النار فى كل مكان. خرج الطلبة فى مظاهرات حاشدة، وأضرب المحامون، واجتمعت النساء مسلمات ومسيحيات فى الكاتدرائية ليعلن احتجاجهن على زيارة اللجنة، وأضرب الموظفون عن العمل يوماً كاملاً ليعلنوا عدم رضاهم عن الزيارة، وتوالت عرائض الاحتجاج على الصحف، وعلى مقر اللجنة نفسها، حتى أمراء أسرة محمد على أصدروا بياناً يعلنون فيه احتجاجهم على الزيارة. سمع ملنر الهتافات المدوية تنادى بسقوطه وسقوط لجنته، وأدرك أن المهمة لن تكون سهلة.
محاولة للفهم .. فى لقاء بين اللورد ملنر واللورد اللنبى  سأله ملنر: ما هو الموقف هنا يا جنرال اللنبي؟


قال اللنبى مخلصاً: الموقف سييء جداً.
- لم؟
- لأن الخارجية البريطانية أعلنت أن مهمتك هى بحث أوضاع مصر تحت الحماية، والمصريون يرفضون الحماية، ولا يرضون بغير الاستقلال بديلاً.
- هل معنى هذا أن مهمتى فشلت قبل أن تبدأ؟
- هذه هى الحقيقة.
- لكن لا بد أن أجد من أتكلم معه. مستحيل أن أعود كما جئت
- أقترح أن تقابل مجموعة المعتدلين
- ماذا تقصد بالمعتدلين؟
- أقصد ثلاثة أشخاص بالتحديد، هم: عدلى يكن باشا، عبد الخالق ثروت باشا، حسين رشدى باشا. فهذه المجموعة تختلف عن غيرها من الثوار. إنهم مستعدون للتفاهم والحديث الهاديء.


- هل تعنى أنهم معنا ضد الثورة؟
- لا. الكل هنا مع الثورة، لكن هؤلاء الثلاثة واقعيون، يطبقون سياسة المنفعة مثل الإنجليز.
- لا بأس. أريد أن أقابلهم.


المعتدلون يقدمون النصيحة.. استمع المعتدلون الثلاثة للورد ملنر، وفى النهاية صارحوه أن الوحيد المسيطر على الشارع هو سعد باشا زغلول، وأى محاولة لتهدئة الجماهير الثائرة لن تمر إلا من خلال زغلول باشا. كان زغلول باشا وقتئذ فى باريس، هو والوفد، يحاولون عرض قضية مصر على مؤتمر الصلح الذى انعقد بعد الحرب العالمية الأولى لتسوية الأمور بين المتحاربين. قال عدلى باشا بصراحة للرجل الإنجليزى إنه سيكتب بكل ما دار فى هذا الاجتماع للوفد، وسيبلغ به سعد باشا. وأحس ملنر أنه يسير فى طريق مسدود. حاول أن يجتذب إليه أى طرف، فأعلن أنه لم يأتِ لحرمان مصر من حقوقها، وأن هدفه التوفيق بين أمانى الأمة المصرية والمصالح الإنجليزية، وإنه يريد أن تتمتع مصر بالحكم الذاتي، لكن الجميع أصروا على رفض التفاوض، ورأوا أنه متمسك بالحماية الإنجليزية على مصر، ولم يأتِ للحديث عن الاستقلال. وعاد ملنر يجرجر أذيال الخيبة بعد ثلاثة أشهر فى مصر. عاد بخفى حنين وأغلب الظن أنه لم يجد الخفين أصلاً.


اغتيال الوزراء..  كان المصريون فى هذه الفترة يرون أن على الساسة المصريين أن يمتنعوا عن الاشتراك فى أى وزارة، لأن الوزارات لا بد أن تنفذ تعليمات الإنجليز، لذلك قرروا اغتيال رؤساء الوزراء والوزراء الذين يشتركون فى أى تشكيل وزارى. كان رئيس الوزراء خلال زيارة ملنر رجلاً مسيحياً، هو يوسف وهبة باشا، فقام شاب مسيحى (عريان سعد) بمحاولة اغتياله حتى لا يقول الإنجليز إن المسلمين قتلوه لأنهم متعصبون دينياً. وحاول آخر اغتيال إسماعيل سرى وزير الأشغال، وحاول ثالث  اغتيال محمد شفيق باشا وزير الزراعة، وأمام كل هذا استقالت الوزارة.


بعدها جاءت وزارة نسيم باشا، وحاول الثوار اغتياله أيضاً. وصار الوضع قمة فى الاضطراب.

 


الحل هو سعد.. لعب عدلى باشا يكن دوراً مهماً فى التوسط بين ملنر وسعد. كان سعد فى باريس قد أصابه الإحباط بعد أن وجد جميع الأبواب موصدة فى وجهه هو والوفد، وأن بريطانيا جعلت الحماية واقعاً من خلال مؤتمر الصلح. وكان ملنر محبطاً من زيارته الفاشلة، واستمرار الثورة الهادرة. لذا كان الطرفان فى حاجة لأن يلتقيا ويتفاوضا.


واشترط سعد أن تأتيه دعوة رسمية من ملنر، فأرسل له ملنر أحد أعضاء لجنته ليدعوه للتفاوض فى لندن. وسافر سعد وعدد من زملائه إلى لندن. وجلس الطرفان فى مواجهة:  فلاح مصرى عنيد ولورد إنجليزى مراوغ. وقدم الجانب البريطانى فى 17 يوليه 1920 مشروعا للاتفاق، لا يختلف فى جوهره عن نظام الحماية القائم، لكنه مكتوب بعبارات جديدة. وقال سعد إنه لا يملك أن يقول رأيه فيه، لأن الرأى للشعب. وأرسل المشروع إلى مصر، وعرضه الوفد على الشعب، وكانت النتيجة هى إبداء ملاحظات عديدة على المشروع، وقد احتفظ الوفديون بالبرقيات والرسائل التى أرسلها الشعب فى ملفات لا تزال موجودة ببيت الأمة حتى الآن، وقد اطلعت عليها، ورأيت كيف شارك الجميع فى إبداء الرأى.


9 نوفمبر..  قدم سعد لملنر تحفظات المصريين على مشروع الاتفاق فرفض أن ينظر إليها، لأنه اشترط أن يقبل المصريون المشروع كله أو يرفضوه كله، واعتبر التحفظات إيذانا بانتهاء المشروع. وعقدت اللجنة اجتماعها الأخير يوم 9 نوفمبر 1920. ووقف ملنر يتلو خطاباً ينهى به المفاوضات. قال:
- حضرات السادة، ليس من الملائم المناقشة الآن فى التحفظات، وإذا تقرر عقد معاهدة بين بريطانيا العظمى ومصر فإنها لن تكون إلا نتيجة لمفاوضات رسمية بين الحكومتين.. كان الرد معناه أنه لا يعترف بكل ما دار بينه وبين الوفد، وأنه يعتبر هذه الجلسات والمفاوضات غير رسمية. ووقف سعد ليرد عليه. قال: أنا شديد الرغبة فى إيجاد حالة موافقة للتسوية، كما أن لجنتكم شديدة الرغبة فى ذلك. لكن مساعيّ، أنا والوفد المرافق لي، تضعف جداً إذا لم تستطع أن تحقق شيئاً من تحفظات الأمة، ولا سيما إذا عَجَزتُ عن أن أقول للمصريين إن بريطانيا العظمى ألغت الحماية نهائياً.


انفض الاجتماع، وعلم الشعب المصرى بالنتيجة، ولم تهدأ مصر، وقدم المصريون أرواحهم رخيصة فى مواجهة رصاص البوليس والإنجليز، وعرفت مصر حوادث اغتيال الإنجليز فى هذه الأيام بصورة غير مسبوقة، وقدم ملنر استقالته، لكنه قدم أيضاً حزمة مقترحات، تؤكد على ضرورة منح مصر استقلالها، وحل محله ونستون تشرشل، وفى 26 فبراير 1921 أرسل اللورد اللنبي، المندوب السامى البريطانى رسالة تاريخية للسلطان فؤاد، سلطان مصر.
رسالة لعظمة السلطان..  فض السلطان أحمد فؤاد الرسالة، قرأ ما فيها. أحس أن ثورة الأمة لم تضع سدى. كانت الرسالة تقول:
«إن حكومة جلالة الملك (ملك انجلترا) بعد درس الاقتراحات التى اقترحها اللورد ملنر استنتجت أن نظام الحماية لا يكون علاقة مرضية تبقى فيها مصر تجاه بريطانيا العظمي....» وتحرك السلطان بسرعة. فشكل وزارة برئاسة عدلى يكن للدخول فى مفاوضات مع الإنجليز بشأن العلاقة الجديدة بين مصر وبريطانيا. وهنا حدث انشقاق تاريخى بين سعد وعدلي، أو بين زعيم الثوار والحكومة.


كان عدلى يرى أنه هو الذى ينبغى أن يرأس وفد المفاوضات باعتباره رئيس وزراء مصر، وأن يكون سعد عضواً فى الوفد، وكان سعد يرى أنه هو الذى يجب أن يقود المفاوضات، لأن عدلى مجرد رئيس حكومة لم تعين إلا بموافقة الإنجليز، ولا تعمل إلا ما يوافقون عليه، وأن موقف عدلى لا يختلف بالتالى عن موقف الإنجليز، وقال عبارته الشهيرة عن عدلى إذا تولى مفاوضة الإنجليز. قال «جورج الخامس يفاوض جورج الخامس». المهم أنه تم تجاهل سعد واعتراضه،  وسافر عدلى لمفاوضة الإنجليز، وفشلت المفاوضات هذه المرة أيضاً.
نفى سعد قامت الدنيا ولم تقعد بعد نفى سعد، وعرفت الأمة نوعاً جديداً من المقاومة، هو المقاومة السلبية، ونادى المصريون بمقاطعة البضائع الإنجليزية، ووقفت النساء أمام المتاجر ليؤنبن من يدخل لشراء هذه البضائع، وأحس اللنبى بأن الأمر فيه خطورة اقتصادية على بريطانيا، لذلك أرسل فى يناير 1922  للمعتدلين يدعوهم لاجتماع عاجل. ذهبوا إليه. تناقشوا معه فى الحل الممكن. اقترح عليه عدلى أن تصدر بريطانيا تصريحاً من جانب واحد، دون مفاوضات، تعلن فيه استقلال مصر، وتذكر فيه تحفظاتها، ويقول إسماعيل صدقى فى مذكراته إنه هو الذى كتب مسودة التصريح بخط يده، وقال اللنبى لهم إنه سيسافر إلى لندن وإما أن تصدر الحكومة البريطانية هذا التصريح أو يستقيل من منصبه.


وصدر التصريح
فى 28 فبراير 1922، أى منذ مائة عام بالتمام والكمال، صدر التصريح باستقلال مصر مع أربعة تحفظات، هي:
(أ) تأمين مواصلات الإمبراطورية البريطانية فى مصر.
(ب) الدفاع عن مصر من كل اعتداء أو تدخل أجنبى بالذات أو بالواسطة.
(ج) حماية المصالح الأجنبية فى مصر وحماية الأقليات.
(د) السودان.
كان استقلالاً منقوصاً، لكنه كان الخطوة الأولى نحو الاستقلال التام الذى لم يتم إلا بعد ثورة يوليو 1952.

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة