عبدالله البقالى
عبدالله البقالى


حديث الاسبوع

لعـب الكــبار

الأخبار

السبت، 05 مارس 2022 - 07:48 م

عبدالله البقالى

لعـب الكــبار

لحظة أخرى من اللحظات الكاشفة لوجوه متعددة لنفس العملة تلك التى عاشتها منظمة الأمم المتحدة فى تعاطيها مع الأوضاع العالمية السائدة، ومع التطورات التى تفرزها تباعا هذه الأوضاع، و تجسدت فيها صورة واضحة تعكس طبيعة تدبير شئون النظام العالمى الذى يسود من طرف أكبر وأهم تنظيم دولي، و كشفت عن كثير من الحقائق المرتبطة بطبيعة المهام التى يقوم بها المنتظم الأممي، الذى تقع المراهنة عليه فيما يتعلق بتحقيق العدالة الدولية لفائدة جميع دول و شعوب العالم دون تمييز بينها، وعرت عن خلفيات لم تنجح محاولات وجهود التجميل إخفاءها للعيان.


فبغض النظر عن طبيعة الحرب، أو العدوان، أو الهجوم، (حسب التعبير الذى تستخدمه كل جهة انطلاقا من موقفها مما يجرى ويحدث) التى تقودها روسيا الفيدرالية ضد دولة أوكرانيا، وعن خلفيات هذه الحرب وعن جميع الحسابات الصغيرة والكبيرة المرتبطة بها، وهى مهمة نتركها للمتخصصين من الخبراء الأكفاء، الذين قد يكون بمقدورهم فك خيوط هذه التطورات الخطيرة التى تهدد الأمن العالمي، فإن الطريقة التى تعاملت بها منظمة الأمم المتحدة عبر مجلس الأمن الدولي، وعبر الجمعية العمومية، وطبيعة الإخراج الذى تمت بواسطته هذه المعالجة، يطرحان علامات استفهام حقيقية تهم مصداقية الأداء، من طرف أكبر تجمع عالمى وقعت المراهنة عليه لحظة التأسيس من أجل سيادة عالم متحد وعادل ومتضامن.


هذا التنظيم الأممى الدولى طلع بدوره من رماد الحرب بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، حيث ما أن أوشكت هذه الحرب على وضع أوزارها ، وكان العالم بأسره فى حالة خراب، حتى تنادت على إثره أصوات مطالبة بتأسيس تنظيم دولى يعمل على تجنيب العالم مآسى الحروب. وأفضت الجهود إلى تنظيم مؤتمر دولى بمدينة سان فرانسيسكو الأمريكية فى بحر شهر أبريل من سنة 1945، لمناقشة التنظيم الدولي، وبعد شهرين كاملين تم إعداد ميثاق هذه المنظمة والتوقيع عليه، وخرجت هذه المنظمة إلى الوجود فى شهر أكتوبر من سنة 1945. والتذكير بظروف النشأة سيساعد لا محالة على فهم ما حدث أخيرا فى هذا المنتظم، والكشف عن خلفياته الكاملة، خصوصا وأن الحرب هذه المرة تجرى فى صيغة حروب متعددة فى حرب واحدة، حرب عسكرية تستخدم فيها أكثر الأسلحة فتكا ودمارا، وحرب اقتصادية بين تكتلين رئيسيين فى النظام الاقتصادى العالمي، وحرب رياضية و ثقافية بعد أن تم خلط كل الأوراق بحثا عن واحدة قد تكون قادرة على تعميق الإنهاك العسكرى أو الاقتصادى أو حتى النفسى للحسم فى هذه الحرب.


فمن المثير حقا أن يجتمع مجلس الأمن الدولى لإصدار قرار إدانة لروسيا بسبب ما يمكن وصفه بعدوانها العسكرى الخطير على أوكرانيا، والذى فتح الأوضاع العالمية على احتمالات حرب عالمية ثالثة، والولايات المتحدة هى التى أعدت هذا المشروع ، الذى كان فى صيغته الأولى يدين الرئيس الروسى فلاديمير بوتين، قبل أن تنتهى المشاورات إلى تعديله ليعوض إدانة الرئيس الروسى بإدانة دولة روسيا. ويجتمع مجلس الأمن تحت رئاسة روسيا التى وافقت على برمجة مناقشة مشروع القرار الذى كان سيدين روسيا، وتشرف شخصية روسية رسمية تمثل الدولة الروسية على إدارة الجلسة بما عرفته من مناوشات وخلافات وتجاذبات بين أعضاء مجلس الأمن، الذين توزعوا بين حليف لروسيا ومناوئ ومعارض لها، بين من يبحث فى جميع الاتجاهات على استصدار قرار الإدانة، وبين من يسعى بكل جهده لتجنيب الحليف الروسى هذه الإدانة، وسواء تعلق الأمر بهذا الطرف أو ذاك، فإن الجميع كان يعلم مسبقا أن قرار الإدانة لن يصدر، لأن روسيا التى تقود حربا ضروسا على أوكرانيا، والتى تتحمل المسئولية الدورية لرئاسة مجلس الأمن والتى يرأس ممثل عن حكومتها نفس الجلسة، هى نفسها روسيا التى تملك حق «الفيتو» الذى تحوزه القوى الكبرى، والذى يبطل كل ما من شأنه الإضرار بمصالحها الصغيرة قبل الكبيرة، ولكنهم مع ذلك أصروا على مواصلة تفاصيل اللعبة من خلال مناقشة مشروع القرار ومحاولة الإقناع باتخاذه، والذى حصل أنه بعدما فرغ الجميع من كل مراحل معالجة مشروع القرار فى إطار أجواء جذبت اهتمام الرأى العام العالمى أخرج مندوب روسيا فى مجلس الأمن الذى ترأس الجلسة من جيبه سلاح «الفيتو»، وأبطل القرار وجعله كالعدم، ولم تتوقف الفرجة عند هذا الحد، بل انتقلت إلى مستوى ثان فى حلبة تجاذب أخرى، حيث ما أن عجز مجلس الأمن عن إصدار قرار الإدانة الذى حظى بموافقة غالبية أعضاء مجلس الأمن، حتى انتقلت الفرجة إلى الجمعية العمومية للأمم المتحدة، حيث سعت الدول الداعمة للمشروع إلى توسيع دائرة الإدانة، و فى رقعة هذا الركح لا تملك لا روسيا ولا غيرها سلاحا ما، كما الشأن بالنسبة لسلاح «الفيتو»، يكون من شأنه إعدام آلية الإدانة، لكن مع الفارق الواضح، أن قرار الجمعية العمومية للأمم المتحدة لا يكتسى أية قوة،

و يبقى تأثيره معنويا ويمثل انتصارا ديبلوماسيا لا أقل ولا أكثر، بخلاف القرارات الصادرة عن مجلس الأمن الدولى التى تكتسب فى كثير من الأحيان قوة إلزامية التنفيذ، خصوصا إذا ارتبطت بالفصل السابع، وهذا ما حدث مع كثير من القضايا والحالات التى صدرت فى شأنها قرارات أممية صارمة، وكان مجلس الأمن بأعضائه الدائمين الذين يتحكمون فى مسار المجلس وتوجهاته وقراراته فى إطار لعبة تقتصر على الكبار، وبأعضائه الطارئين من الذين سمح لهم الكبار بالحضور الدورى مجردين من أية قوة تضفى على عضويتهم الشرعية والمصداقية، سخيا فى إصدار رزم من القرارات الزجرية والعقابية التى أطاحت بأنظمة، وجاءت ببدائل لها، وجوعت شعوبا وقهرت وأذلت أخرى بما لا ذنب لها فيه، واستخدمت بذلك حطبا لنيران لم تشعلها، وحتى على هذا المستوى فإن الكبار الذين يتواجهون اليوم على خلفية ما يجرى فى أوكرانيا، هم أنفسهم الذين ساهموا وشاركوا فى إصدار قرارات كثيرة من طرف مجلس الأمن الدولي، وتهم قضايا ونزاعات لشعوب وأمم، ولكنهم أبدوا فتورا، إن لم يكن تواطؤا، فى تنفيذ هذه القرارات، فى إطار لعبة توزيع أدوار بين هؤلاء الكبار، بينما تم تنفيذ قرارات أخرى صادرة عن نفس المجلس حتى قبل أن يجف الحبر الذى كتب بها.


هكذا تابع العالم فى خضم حرب خطيرة تهدد بفناء العالم، إذا ما وصلت إلى مداها، كيف يمارس الكبار لعبهم بدقة واحترافية كبيرة، وكيف يكتفى باقى العالم بالاستمتاع أو بالألم بما يحدث ويجرى فى اللعب بين الكبار.
نقيب الصحفيين المغاربة


الكلمات الدالة

 

 

 
 
 
 
 
 
 

مشاركة