سعيد الخولى
سعيد الخولى


يوميات الاخبار

الرؤية والهلال .. الآن وزمان

سعيد الخولي

الأحد، 13 مارس 2022 - 07:07 م

يا حمام البر سقّف.. طير وهفهف.. حوم ورفرف.. على كتف الحُرّ وقّفْ والقُط الغلة.. يا رفاقه الجو خالى وحمامنا فى العلالى.. يا ما كان الدم غالى والطبيب الله.

 

مع تلاحق الأحداث العالمية المثيرة من فيروس كورونا وذريته المتحورات الصغيرة، والذى لم تكد البشرية تستجمع حروف كلمة الانتصار الحاسمة فى صراعها معه، ومع حدوث حرب روسيا ضد أوكرانيا وتكهرب الجو العالمى منذرا بحرب ثالثة لو حدثت فلن تبقى ولن تذرـ مع كل ذلك ومع تسارع الزمن يتسابق الناس هنا وهناك استعدادا للمناسبات التى تثير فيهم البهجة والسعادة؛ وهل لأهل مصر من بهجة وسعادة أكثر من أيام وليالى شهر رمضان؟


هى أيام تترجم إلى ساعات ولو كثرت تفصلنا عن أفضل شهور العام، وننتظر معا ليلة الرؤية واستطلاع الهلال وانتظارنا بفارغ الصبر لبيان دار الإفتاء كى نبدأ رحلة الشهر الفضيل بتراويح ليلته الأولى أو بتمام شعبان انتظارا لليلة أخرى.


رمضان بين اليوم وأمس هو ذاته الحياة بين زمنين بل أزمنة عشناها داخل عمر واحد تقلبنا بين استشعار السعادة وعدم الإحساس بها بفعل تغيرات الزمن أو تقلبات الأحوال، نعم ننتظر جميعا كبارا وصغارا لكننى وأنا أتابع ترقب الشهر الكريم ألمس وأحسب كم هم مختلفون أبناؤنا وقد يكونون مغبونين حتى فى استمتاعهم برمضان، خصوصا مع توافق أيامه والأسابيع الأخيرة من الدراسة، ما بين دروس تسرق اليوم أو تابلت احتار دليل الوزير قبل الأهالى معه ناهيك عن دابة الأرض فى أيديهم وأعنى بها أجهزة المحمول التى تكاد تفسد عليهم حياتهم وتصيبهم بالتوحد بقدر ما تسعدهم بما تلبيه لهم على طريقة شبيك لبيك بلمسة على شاشة المحمول بديلا عن حك مصباح علاء الدين وظهور الجنى المحبوس داخل المصباح!


لم أكد أشعر أن أحدا منهم يشعر بالاستمتاع برمضان كما عشناه فى صبانا وشبابنا. لا الروح كما كنا ولا الشوارع أيضا. صحيح أن الزينة لم تغادرها بل لعلها أكثر كثافة فى مناطق عديدة، لكنها بلا روح. زينة جاهزة مفروضة الأشكال والألوان، أما زينتنا فكنا نصنعها بأيدينا وبالتعاون فيما بيننا بجمع النقود من الشقق وشراء المواد الخام من ورق التجليد اللامع والخيوط المتينة أو الأحبال الرفيعة ومواد اللصق وأعواد البوص أو جريد الأقفاص لعمل الفانوس الخاص بالحارة أو الشارع، ثم تصنيعها وتشكيلها بفوانيسها وأوراقها المزركشة مختلفة القصات والأحجام. وكنا نسعد بها وهى تتجاوب مع نسمات العصارى والمغارب وتصنع معزوفة من الخرخشة والخشخشة والصفير الدقيق بين أوراق الزينة، وتكتمل اللوحة فى الأمسيات باللمبات الكهربائية التى تصنع إضاءة ليلية تتوسطها اللمبة الكبيرة وسط الفانوس الذى يستجيب هو الآخر لمطوحة الهواء حين تطيب الأمسيات، وتتأرجح معه إضاءته تنعكس على خيالاتنا ونحن نلعب جريا أو جلوسا.
القمر سر السعادة


ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته». الحديث بالطبع يقصد هلال القمر حين يولد فى السماء مبشرا بقدوم شهر جديد، وبهذا كان للقمر منزلته الخاصة لأن هلاله السعيد يرتبط دائما بالأعياد والمناسبات الدينية فى الإسلام..


وكان احتفاء الشعراء والأدباء منذ قديم الزمان بالقمر يشغل حيزا كبيرا من تعبيرهم عن جمال المحبوبة، حتى كان صعود الإنسان إليه ليكشف عن صدمة لكل من تمنت أن يصفها الناس بأنها «زى القمر» ووجدت نفسها توصف بواقع كله صخور لا حياة فيه وجسم مظلم لا يضىء إلا حسب موقعه من الشمس والأرض فى حركة الأرض المستمرة.. ولأن التقويم الهجرى يعتمد كلية على القمر فقد اهتمت اللغة العربية ومعاجمها بتحديد مسميات القمر خلال مراحله الفلكية المختلفة حسب درجة إضاءة القمر. وحصرها الفلكيون واللغويون فى: المحاق؛ وهى أولى مراحل القمر ويعرفُ بمرحلةِ القمر المظلم، إذ يكون غير مرئيٍ أو ظاهرٍ فى الليل.. الهلال المُتزايد؛ ويكون هذا الوجه منَ القمر مُضيئاً بنسبةِ ما بين 1-49٪ ويمكنُ مشاهدتهُ فِى وقتِ الظّهيرة ويختفى بعدَ غُروبِ الشّمس. التربيع الأوّل؛ ويكون هذا الوجه منَ القمر مُضيئاً بنسبةِ 50٪ ويمكن مشاهدتهُ فى وقتِ الظهيرة ويختفى مَع بدايةِ الليل. الأحدب المُتزايد؛ ويكون هذا الوجه منَ القمر مُضيئاً بنسبة 51-99٪، ويظهرُ بعدَ نهايةِ النهار ويبقى طوال الليل. البدر: وهو اكتمال القمر ويكون هذا الوجه من القمر مُضيئاً بنسبةِ 100٪ بالكامل، ويظهر بعدَ غروبِ الشمس مباشرةً ويختفى عندَما تظهر الشمس، وهذا الوجه خصيصاً هو الذى يُضربُ به المثل فى الجمال بسبب اكتمال شكلِ القمر. وبعد ذلك تبدأ رحلة النقصان لتكون مرحلة الأحدب وتتفاوت درجة الإضاءة ما بين 99-51٪، ويظهر فى أغلبِ أوقات الليل وفى بدايات النهار. التربيع الثاني: هذا الوجه بالعكسِ تماماً من التربيع الأوّل، ويكون هذا الوجه منَ القمر مُضيئاً بنسبةِ 50٪، ويظهر فى أواخر الليل ويختفى فى بداياتِ النهار. الهلال المتناقص: يكون هذا الوجه من القمر مُضيئاً بنسبة ما بين 49-1٪، ويظهر قبلَ شُروقِ الشمس ويختفى فى بداياتِ النهار. القَمر المظلم : وفى هذه الفترة يختفى القمر لفترةٍ قليلة ومن ثمّ تتكرّر المَراحل مرّةً أخرى مُبتدئاً منَ المُحاق. وليضرب القمر مثلا على مراحل النشوء والنمو والاكتمال ثم النقصان طبقا لقول الشاعر الأندلسى أبى البقاء الرُّندى:
لكل شىء إذا ما تم نقصانُ .. فلا يُغر بطيب العيش إنسانُ.


كل عام ونحن جميعا بخير ونرجو الله ان يعيده دائما بأفضل حال وأن تتوقف البشرية عن الاقتتال لتواجه معا ما يهدد بقاءها بأيديها وأيدى أهل الشر!


حمامة بـ30 مليون جنيه!
بينما كنت أقود سيارتى وراديو السيارة على موجة إذاعة زمان، إذا بكلمات جميلة جمال الطبيعة البكر تنساب من أغنية تتغنى بواحد من أرق مخلوقات الله وطيوره الرائعة.. تقول:
يا حمام البر سقّف.. طير وهفهف.. حوم ورفرف.. على كتف الحُرّ وقّفْ والقُط الغلة.. يا رفاقه الجو خالى وحمامنا فى العلالى.. يا ما كان الدم غالى والطبيب الله.


لم أكن قبل ذلك أركز فى بقية كلمات الأغنية أكثر من المقدمة التى تشدنى برقة معانيها، لكن السطر الأخير الذى يحتوى على ذكر الدم لفت نظرى وجوده فى أغنية عن الحمام، وبحثت عن تفاصيل الأغنية التى كتبها الشاعر الراحل صلاح جاهين رحمه الله وتغنيها المطربة أحلام، لأعرف أن هذه الأغنية قدمت عام 1957عقب العدوان الثلاثى على مصر وانسحاب القوات المحتلة من الأراضى المصرية، وأن مؤلف الأغنية أراد التأكيد على انتصار الإرادة المصرية وعودة الأمان وكانت الحمامة رمز السلام الذى اختاره ليدلل على أمان أرض مصر وسمائها.


الحمام حكاية فى حياتى منذ الصغر فى دار العيلة؛ لم يكن هناك أعشاش للحمام كالتى نعرفها اليوم، كان هناك ما يسمى «البِنِّيَة» وهى عبارة عن عيون من الطين فيها فتحة تسمح بدخول الحمامة وخروجها وواسعة من الداخل تستوعب زوجا من الحمام صالحة لرقود الأنثى على بيضها حتى يفقس وتؤكل أفراخها حتى تستطيع الحركة والطيران أو تسبقها سكين حامية يتلذذ بذبحها الآكلون. كانت البنانى تحل بديلا للسور المواجه لمقاعد وحجرات الدور الثانى المخصص للمتزوجين من رجال العائلة كل فى مقعد أو حجرة خاصة به وبزوجته.


تلك البنانى كانت دائما مصدرا لصوصوة زغاليل الحمام فقد كان الصف مكونا من دورين وفيه حوالى عشرين بنية لا تخلو إحداها من زوج حمام بصغاره الجائعين دائما تظل الأم راقدة تحميهما إن كانا صغيرين ما زالا يتغذيان على الرضاعة من زوائد خلقها الله تحت لسانها حتى يقوى الصغار على تلقى أكل صلب من الحبوب يحضره الأبوان من وسط الدار أو الحقول المجاورة.


لكن للحمام ذكريات قاسية مع أهل الريف فى ليالى الشتاء حيث الهواء الشديد وحيث كان يتكرر حدوث حرائق، وتزداد المأساة حين يهيج الحمام بالدار التى يحدث بها حريق وتمسك به النيران ليطير بنيرانه ويحط على سطح آخر بأحطابه وسور الجلة الذى يحيطه من أعلى، وتتذكر مصر كلها أن حريقا كهذا قد حدث فى قرية مجاورة لقريتنا هى قرية الضهرية مسقط رأس الأديب الشهير يوسف القعيد، كان ذلك منتصف الثمانينيات من القرن الماضى والتهمت النيران أكثر من 90 دارا من دور القرية وكانت مأساة اهتزت لها مصر كلها.
وفى القاهرة كان مفتاح دخولى إلى عالم الحمام الراحل العزيز عزت خاطر الذى زاملته وتحاببنا خلال فترة عملى بمجلة «السينما والناس» فقد أهدانى زوجا من الحمام وكان هاويا شديدا له ولطيور الزينة، لفت نظرى أن حجم ذلك الزوج أكبر كثيرا من النوع الذى أعرفه ثم أهدانى زوجا آخر من نوع الهزاز وكانت المرة الأولى التى أرى هذا النوع فيها وذيله يشبه المروحة وهو دائم الاهتزاز واكتسب اسمه من ذلك الوضع..
لقد قادنى عزت خاطر رحمه الله والحمام الهزاز للذهاب إلى سوق السيدة عائشة يومى الجمعة والأحد دوريا من كل أسبوع. وسمعت لأول مرة أسماء غريبة لأصناف الحمام التى لم أكن أعرف عنها أى شىء ومن تلك الأسماء: الشقلباظ والرومانى والزاجل وهو سيد الحمام ويسمى حمام المراسلة وتاريخه معروف فى الحروب القديمة، والكينج ويترجم اسمه إلى ملك الحمام وجسمه مستدير الشكل.
استعدت تلك الذكريات وأنا أتابع خبرا عن أغلى حمامة بيعت فى العالم واشتراها هاوٍ صينى بمليون ونصف المليون من اليورو، أى 30 مليون جنيه مصرى!
وختامها..
الروح الجميلة تدعم مناعة الأجساد وتقويها ولو كانت عليلة.. لا تفرطوا فى جمال الروح حين تجدونه.

 

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة