جمال فهمي
جمال فهمي


من دفتر الأحوال

يا قلب لا تحزن

جمال فهمي

الأربعاء، 23 مارس 2022 - 07:39 م

كلنا يعرف ، بالسمع غالبا ، الفيلم الشهير جدا الذى يحمل اسم «دكتور زيفاجو» الذى حققه المخرج الأمريكى ديفيد لين ولعب بطولته الراحل عمر الشريف .
 كثُر منا يعرفون أن هذا الفيلم مأخوذ عن رواية رائعة لكاتب روسى كبير هو بوريس باسترناك ، لكن الأغلبية الساحقة ممن سمعوا عن الفيلم أو شاهدوه ، لم يقرأوا الرواية واكتفوا فقط بما روجته أجهزة الدعاية الغربية عن فكرتها ومضمونها خلال سنوات الحرب الباردة ، وكلاهما ، أى فكرة ومضمون الرواية بعيدان جدا عما جاء به الفيلم ، إذ جرى الترويج للحكاية والفيلم على نحو مغلوط ضمن حرب التشهير واسعة النطاق التى تعرض لها الاتحاد السوفيتى السابق ، وقد سقطت الرواية وصاحبها ضحية هذه الحرب .. فلا باسترناك كان معاديا للثورة الروسية التى رفعت شعار الاشتراكية (كما أوحى الفيلم ودعايته المكثفة) ولا الرواية معادية للثورة كما بدا فى الفيلم ، وإنما الحقيقة التى غابت عمدا أن الكاتب حكى فى روايته آيات من موقفه النقدى تجاه ما حدث بعدما استولى صناع الثورة البلشفية على الحكم ، إذ انزلق الوضع فى روسيا وباقى أقاليم الاتحاد السوفيتى السابق إلى نوع من الحكم السلطوى القاسى جدا ، بل ديكتاتورية عاتية  تتسلح بقمع واسع النطاق ومغلف بضيق أفق شديد وصل إلى حد الغباء فى أحيان كثيرة ، من آياتها ما حدث مع أديب موهوب جدا مثل بوريس باسترناك .

إذن باسترناك كان ضحية لظلم مزدوج ، فهو من جانب عانى كما مئات المفكرين والمبدعين أمثاله ، لضغوط هائلة وحصار شديد من السلطات الحاكمة فى وطنه ، رغم أنه كان مؤيدا بحماس للمبادئ والشعارات الإنسانية الراقية التى رفعتها الثورة الاشتراكية ، غير أنه بمرور الوقت وظهور العيوب  والانحرافات الخطيرة لحكم البلاشفة ، خصوصا فترة جوزيف ستالين ، لم يستطع كتم مشاعر الاحباط وخيبة الأمل التى عانى منها هو وأمثاله من أصحاب الضمير الحي.
أما الجهة الأخرى التى هبت منها عليه رياح ظلم لم تكن اقل قسوة وعتيا عن ظلم بنى جلدته ، فقد أتاه من جهة الغرب الذى حاولت أبواقه استغلال روايته (التى يكاد بطلها أن يجسد شخصية باسترناك نفسه) وتحويلها إلى سلاح فى الحرب الدعائية ضد موسكو آنذاك .. ثم جرى تسويق صورة الكاتب كمنشق على نظام بلده ، استنادا الى الغباوة وضيق الأفق الشديد الذين تعاملت بهما سلطات الاتحاد السوفيتى مع رواية «دكتور زيفاجو» عندما منعتها من النشر وتركت للخصوم استغلالها ونشرها فى إيطاليا بعد سنين طويلة من الحجب ، وفى العام التالى لصدور الرواية (1957) قامت لجنة جائزة نوبل للأدب بمنح جائزتها ذائعة الصيت للكاتب ، فى واحدة من أكثر وقائع الانحياز السياسى للجنة المذكورة سفورا وفجاجة ، لكن باسترناك رفضها ( أو أجبر على رفضها) قبل أن تقوم هوليود بتحويل الرواية لفيلم شوهها.

هل يعنى ذلك أن باسترناك لم يكن يستحق جائزة نوبل أصلا ؟ أجاب رهط كبير من نقاد العالم على هذا السؤال بالنفى القطعى ، وقالوا إن الإنتاج الابداعى لهذا الأديب يضعه على قائمة كبار أدباء القرن العشرين ، ومن ثم هو يستحق الجائزة عن جدارة ، غير أن السياق الذى أتته فيه ، ظلمه ظلما بيّنا.
الخلاصة .. أن الغباء وضيق الأفق الذين يميزان النظم السلطوية والقمعية ، يضران كثيرا ويلحقان أشد الأذى بالكثيرين ومن ضمنهم النظام نفسه.. كما أن زيف وكذب ونفاق بعض من يتشحون برداء الديموقراطية فى عالمنا وهم فى ابعد نقطة عن قيمها ومبادئها .. أولئك وهؤلاء ربما يدفعوننا للهتاف بحزن : من الشرق للغرب يا قلب لا تحزن.

 

 

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 

مشاركة