أسامة عجاج
أسامة عجاج


يوميات الأخبار

سوريا .. الحصاد المر؟

أسامة عجاج

الخميس، 31 مارس 2022 - 08:26 م

دفتر أحوال سوريا، بعد ١٢ عاما من الأزمة، يكشف عن وجود حوالى ٤ ملايين مواطن فى فقر مدقع، كما أن فاتورة إعادة الإعمار، يتراوح ما بين ٦٠٠ إلى ٨٠٠ مليار دولار.
 

قد تكون سوريا من أقل الدول العربية التى زرتها، رغم وقوعى فى غرامها منذ اللحظة الأولي، لوصولى إلى حدودها قادما من الأردن، فهى الأقرب لمصر وشعبها، وهذه أحكام الجغرافيا المدعومة بالوقائع التاريخية، فقد أنحزت منذ بداية وعي، لمقولة إبراهيم باشا ابن محمد علي، عندما وصل إلى مدينة طرطوس فى أقصى شمال سوريا، (هنا تبدأ حدود مصر الشمالية)، والتى تتطورت بفعل الزمن إلى (من هنا يبدأ الأمن القومى المصري)، كما أن البلدين أصحاب أول تجربة وحدة عربية فى فبراير ١٩٥٨، والتى انتهت سريعا فى سبتمبر ١٩٦١، بفعل انقلاب عسكري.


قلة الزيارات قد يكون أمرا مفهوما، نظرا لتأخر عودة العلاقات بين البلدين، نتيجة اتفاقيات كامب ديفيد فى بداية تسعينات القرن الماضي، ولكنها كلها بلا استثناء غاية فى الأهمية، أولها كانت قبل عودة العلاقات بأسابيع لحضور المؤتمر العام لاتحاد المحامين العرب، والذى تم استثمار وجود وفد مصرى كبير من صحفيين ومحامين لإرسال (رسائل غزل) لمصر وقيادتها، تمهيدا للإعلان الرسمى على عودة العلاقات الدبلوماسية، وقد تحدثت عن ذلك فى يوميات سابقة، كما زرتها عدة مرات فى التسعينات وحتى مارس ٢٠١١ ، موعد اندلاع الثورة السورية، وبعدها مرة وحيدة فى سبتمبر من عام ٢٠١٥ ، قبل اسابيع من تدخل القوات الروسية. 


عدم الاستقرار 


تاريخ سوريا فى العصر الحديث يكشف وبكل سهولة، أنها من الدول التى عاشت حالة عدم استقرار سياسي، منذ استقلالها فى أبريل عام ١٩٤٥ من الاحتلال الفرنسى وحتى الآن، كما أنها أضاعت فرصا عديدة لتغيير مسارها السياسي.

فهى التى أرست ظاهرة الانقلابات العسكرية فى المنطقة، حيث جرت وقائع أولها فى عام ١٩٤٩ بقيادة حسنى الزعيم، والذى لم يستمر سوى ١٣٩ يوما، ليسقط بانقلاب آخر قاده سامى الحناوي، وسرعان ما سقط هذه المرة على يد العقيد أديب الشيشكلي، والذى استمر فى الحكم حتى عام ١٩٥٤ .


وبعدها شهدت البلاد حالة من الديمقراطية، ودفعت التهديدات التى تعرضت لها سوريا سواء من الجارة تركيا، وحالة العداء مع الغرب، إلى طلب الوحدة مع مصر، وهو ما تم بالفعل فى فبراير ١٩٥٨، ليتدخل الجيش مرة أخرى فى إنهاء العمل بالوحدة بعدها بحوالى ثلاثة أعوام، التفاصيل كثيرة، ولكننا نتوقف عند نقطة فاصلة التاريخ السورى فى نوفمبر ١٩٧٠.

عندما قام وزير الدفاع فى ذلك الوقت حافظ الأسد بعمل ما أسماه (حركة تصحيحية)، واستولى على الحكم ليرتبط تاريخ هذا البلد العظيم باسم عائلة الأسد، وخلال أكثر من ٥٢ عاما تقلصت سوريا من حكم الطائفة العلوية، إلى حزب البعث، واستمر التدهور ليصبح حكم الأسرة فى استثناء غريب وغير مسبوق فى أى نظام جمهورى. 


 اضاعت سوريا- اولا - الالتزام بالتداول السلمى للسلطة، بل إنها انطبق عليها التعبير البديع الذى أدخله الدكتور سعد إبراهيم الى العربية، فى مقال له فى عام ٢٠٠٠، عن (الجملوكية) عندما تحدث عن السيناريوهات المحتملة لتوريث السلطة فى جمهوريات عربية رئيسية، وهى تعنى وراثة الحكم ابنا عن أب فى أنظمة جمهورية، هى انظمة ملكية فى الواقع.

رغم أنها تظل جمهورية اسما، وكانت سوريا سر خروج هذا التعبير، بعد كل ما جرى فى ذلك العام من أحداث غريبة ومثيرة، عندما تم توريث الحكم فى البلد لابن الرئيس بشار خليفة لوالده، حيث تدخلت الأقدار، ليتصدر المشهد السياسي، بعد أن كانت الامور تسير فى اتجاه وراثة باسل الأسد الابن الاكبر فى عائلة الرئيس، وكان ضابطا فى القوات المسلحة، إلا أن الأمور اتخذت مسارا آخر.

بعد ان تعرض لحادث سيارة مروع عام ١٩٩٤، فبعد انتهاء فترة الحداد على باسل، تم استدعاء الشقيق الأصغر بشار من بريطانيا، حيث كان يكمل دراسته فى طب العيون، وقد أخذ أمر إعداده لوراثة والده زمنا ليس قصيرا، خاصة وأنه كان غائبا عن أمور السياسة، أو الاهتمام بشئون الحكم، حيث تم إلحاقه بالجيش خلال تلك السنوات، وحصل على أكثر من ترقية أوصلته إلى رتبة اللواء خلال سنوات.

لقد كان سيناريو التوريث معدا وبصورة متميزة، وتم بسلاسة وسهولة منقطعة النظير، فخلال أسابيع قليلة، وهى الفترة التى أعقبت وفاة الأسد الأب فى ١٠ يونيه ٢٠٠٠ حتى تولى بشار الابن فى ١٧ يوليو من نفس العام، قام كل من حزب البعث الحاكم ومجلس الشعب بالمهمة على أحسن وجه.

حيث تمت إزالة اول عقبة أمام عملية التوريث، بإجراء تعديل دستورى سريع، تضمن خفض سن الترشح من ٤٠ عاما إلى ٣٤ عاما، وبالصدفة البحتة هو نفس عمر الوريث، بينما سارع الثانى للانعقاد بعد تلكؤ ١٥ عاما، وقام بإعادة تشكيل أمانته العامة ومكتبه السياسي، ليتولى زعامة القيادة القُطرية للحزب، دون أن يناقش أى بنود أخرى مما فتح الطريق أمام انتخابه. 


ربيع دمشق


وحقيقة الأمر أنه رغم كل ما جري، فقد كان هناك قبول شعبى ببشار، حيث نظرت إليه أغلبية الشعب السوري، على أنه قد يكون مختلفا عن والده، فقد نال تعليمه فى الغرب، ولم يكن أصلا من المنتمين إلى الجيش السوري، بل تم الدفع به دفعا لمستلزمات الإعداد للتوريث، وفى ظل هذه الأجواء المتفائلة، عاشت سوريا شهورا من الانفتاح والحرية وتعدد الآراء.

 وعودة الحياة للمجتمع المدني، استمرت ما بين سبتمبر ٢٠٠٠ إلى فبراير من العام التالى ،والعجيب فى الأمر ان الرئيس الجديد الشاب هو من أعطى الإشارة فى أول خطاب له أمام مجلس الشعب بعد انتخابه، حيث تحدث عن النقد البناء والشفافية والديمقراطية.

كما أشار إلى احترام الرأى الآخر، وإعلاء مفهوم الدولة على الزعامة، وأصدر قرارات عفو عام، شملت المئات من السياسيين من كافة الاتجاهات المعارضة بأوامر منه، كما ألغى العمل بقانون الطوارئ المفروض منذ الستينات، وأغلق سجن المزه الأشهر فى سوريا، وقيل إنه تحول الى مستشفي.

وتحولت سوريا إلى ساحة عامة للنقاش والعصف الذهنى والتعبير الحر، ومحاولات إحياء المجتمع المدني، وبدأت ظاهرة المنتديات العامة، وأتيح هامش واسع من حرية الصحافة، لم يستمر الأمر، حيث عاد الحرس القديم، وفى المقدمة منهم عبدالحليم خدام نائب الأسد الأب، وكذلك قادة الأجهزة الامنية، وعادت من جديد السلطة الى (عادتها القديمة) باعتقال النشطاء السياسيين.


 وهكذا أضاعت السلطة فى سوريا الفرصة الثانية، وعنوانها (الإصلاح من داخل النظام)، دون السعى إلى تغييره، بل القبول به كمسير ومسهل لهذا التغيير.


الطوفان


مع نهاية ديسمبر ٢٠١٠، كانت المنطقة العربية على موعد مع رياح عاتية، تحت مسمى (الربيع العربي)، استهدفت دولا بعينها، وجدت فى تجربة نقل السلطة فى سوريا، فى توريث للحكم فى دولة جمهورية تجربة ملهمة.

فحاولت استنساخها، وبدأت ملامحها تصدر (جمال) مبارك المشهد السياسى فى مصر، وفى ليبيا زاد دور (سيف الإسلام) ليتفوق على أبيه معمر القذافى، وأصبح دور (أحمد) نجل الرئيس على عبدالله صالح محوريا فى اليمن، خاصة أنه يتولى قيادة الحرس الجمهوري.

الذى زادت قدراته حتى على الجيش النظامي، وكانت سوريا فى آخر القائمة التى وصلتها رياح الربيع العربي، حيث اندلعت الثورة هناك فى ١٥ مارس ٢٠١١، بعد أن حسم الأمور فى بعض الدول، منها تونس، بهروب زين العابدين بن على ووصوله إلى السعودية.

وتخلى مبارك على السلطة طواعية، وتهاوى نظام القذافى إثر هجمات الناتو على قواته، وتخلى على عبدالله صالح عن السلطة بمبادرة خليجية، وبدلا من أن تمثل تلك التجربة رسالة إلى النظام السوري، ويجد فيها فرصة لتصحيح المسار، ولكنه كعادته فى إهدار الفرص.

أصر على مواجهة الجماهير المحتشدة فى الشارع امنيا وعسكريا، وتطورت الامور سريعا بعد أن تخلت الاحتجاجات عن سلميتها طوال اشهر، فى مواجهة عنف النظام، فتشكلت معارضة مسلحة، واستمرت الازمة من يومها حتى الآن، وكاد النظام ان ينهار فى صيف ٢٠١٥، رغم دخول حزب الله اللبنانى والحرس الثورى الإيرانى داعمين للنظام، بالمقاتلين والمستشارين العسكريين. 


ولكن تدخل روسيا فى خريف نفس العام، وتحديدا فى نهاية سبتمبر من نفس العام، نجح فى إعطائه (قبلة الحياة)، 


ونجح الرئيس بشار فى البقاء فى السلطة، والإفلات من رياح الربيع العربي، ولكن الثمن كان باهظا، عبر عنه الأمين العام للأمم المتحدة فى بيانه الأخير منذ أيام  بمناسبة مرور ١١ عاما على الصراع، بأنه (أسفر عن مأساة إنسانية لا يمكن تصديقها، بعد تعرض السوريين لانتهاكات على نطاق واسع ومنهجي، وعانت الساحة السورية من تخمة من عدد اللاعبين، مع تناقض المصالح والأهداف.

صحيح أن النظام نجح فى استعادة أكثر من ثلتى الأراضى السورية، بعد أن كان وجوده فقط فى عام ٢٠١٣ على الخمس، فالوضع على الأرض يكشف أن المعارضة تبسط نفوذها على حوالى ١٠ بالمائة من الأراضى السورية.

والسيطرة هنا لفصائل معارضة مدعومة من تركيا، والذى يرابط عبر عشرات القواعد العسكرية فى تلك المناطق، بالإضافة إلى مناطق أخري، يتواجد بها هيئة تحرير الشام.

وعلى المستوى الإنسانى فالأرقام التى صدرت مؤخرا عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائى فى الدول العربية، مفزعة وكارثية أكثر من ١٢ مليون سورى فقراء، وحوالى ٤ ملايين فى فقر مدقع.

وأكثر من مليون ونصف المليون لا جئين فى مصر والعراق والأردن ولبنان وتركيا، وغيرهم من الدول، مع نزوح ستة ملايين ونصف المليون سورى مع مقتل ١٢٠ ألفا، واحتياج حوالى ١٠ ملايين سورى للمساعدات الإنسانية.

أما فاتورة إعادة الإعمار فتتراوح ما بين ٦٠٠ إلى ٨٠٠ مليار.


وبعد، يظل السؤال، هل تستحق سوريا التاريخية والشعب السورى العظيم، ومن يتحمل هذا الثمن؟

 

 

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة