صورة تعبيرية
صورة تعبيرية


من روائع أنيس منصور.. «شبح» أجمل فتيات الأرض

أمنية عمر

الجمعة، 01 أبريل 2022 - 03:45 م

عندما فتحوا عليه باب غرفته وجدوا هذه الورقة إلى جواره ويبدو أنه كتبها بسرعة وأنه لم يكمل عباراته الطويلة لسبب غير واضح ولكن الذي جاء فيها يكفي للدلالة على هذا الذي كان يغلي في داخله وعلى الأسباب التي أدت إلى جريمة لا ضرورة لها.

 

كان يقول في الورقة: هذه الكلمات حفظتها تماما عن الشاعر الإيطالي العظيم دانتي؛ حيث يقول: «وهنا يده ترتجف بشدة وتتداخل الحروف في بعضها.. صحيح أن الحب هو أبو الغيرة، ولكن هذا الأب لابد أن يحسن تربية ابنته هذه وإلا قضت عليه.. والغيرة شعلة من نار ترتوي من دمائنا.. وإذا كان الحب جريمة، فالغيرة هي أقصى العقوبة».

 

كما يقول دانتي أيضًا: «إذا كان للحب عين واحدة فإن الغيرة لها ألف عين.. والموت وحده هو الذي سيطبق هذه العقوبة.. الموت وحده هو الذي يفقأ هذه العيون.. هو وحده.. وهنا يزداد اضطراب يده وعروقه ولا يستطيع أحد يقرأ بقية العبارات».

 

ولم يتمكن من أن يكتب التاريخ كما هو عادته فهو مدرس تاريخ في إحدى المدن المجاورة لمدينة جنوة الإيطالية، ولكنه تاريخ لا يستطيع أن ينساه  أحد:

 

يوم الأحد 7 ديسمبر سنة 1899 صباحا.. لم يكن أحد يعرف بالضبط ما هذا الذي يجري في البيت الصغير على شاطئ البحر المتوسط بالقرب من مدينة سانت مرجريتا بمدينة على شاطئ الريفيرا الإيطالية.. إنها الصدفة فقط التي كانت السبب لبيع هذا البيت لواحد بعد واحد ثم استقر في النهاية عندما اشترته سيدة عجوز مات أبوها وأخوها وأولادها وانقطع عنها كل شئ إلا أحزانها .

 

ولا يمكن أن يجد أي إنسان حزين مكان أفضل من هذا البيت المتوحش المظلم من الداخل أو المنطوي على نفسه وحوله كل شيء جميل الشاطئ والبحر وأزهار النخيل والورود.. الحياة كلها تدور حول هذا البيت ولكنها لا تستطيع الدخول في هذه المقبرة.

 

وذات يوم نصح أحد أقارب هذه السيدة العجوز بأن تنظف البيت وتعلن عن تأجيره لأي أحد في موسم الصيف وكانت هذه السيدة الزاهدة في الحياة هي (السنيورة بياتريشه ساليري)، ولم يبق لها أحد من أحبائها كي تعيش من أجله وكان هذا سبب كافي لكي تهون عليها الحياة والموت أيضًا ولذلك فكانت لا تخاف من شئ ولا تفزع لشئ فهي قد صفت حساباتها مع الدنيا كلها وبقي مجئ عزرائيل ويعتمد هذه الحسابات ويعلن أنها لم تعد مدينة لأحد بأي شيء أي أنها الآن تستطيع أن تستقبل الموت وهي مستريحة.

 

وفي وسط هذا الشعور المضطرب جائها إثنين أطباء لإيجار البيت وبالفعل نزل كل واحد في غرفة والغرفتان متجاورتان وبينهما باب والباب ورائه دولاب من هنا ودولاب من هناك .

 

وقبل أن يستقل كل واحد منهما غرفته طلبت منهم العجوز أن يفعل كل ما يحلو لهما وأن يعتمد كل منهم على نفسه فهي غير قادرة على أن تساهم في أي شئ يخص طلباتهم وعلى الرغم من أنها مريضة وهما طبيبان ولكنها لم تزعجهما لأنها لم تكن حريصة على حياتها أو على أي شئ ولكن ترجوهما فقط ألا يوقظها أحد قبل الثامنة صباحا لأي سبب.

 

وكان لابد أن يستمعوا من العجوز قصة زواجها الأول وكيف كان زوجها رجلاً قليل الذوق أنانيا؛ حيث أنه كان ينام والنوافذ مغلقة هي لا تستطيع النوم إلا والنوافذ مفتوحة، ومع ذلك توفي زوجها بالتهاب رئوي مع أنها نصحته كثير ولكنه مثل كل الرجال حمار عنيد ومع ذلك فهؤلاء الحمير هم الذين يحكمون العالم .

 

وكان من الذوق على الطبيبان أن يستمعا إليها وإلى قصص أخرى كثيرة فهي سيدة وعجوز وصاحبة البيت وليس لديها أي عيوب أخرى سوى شهيتها المفتوحة لسب ولعن الرجال في كل مكان وزمان .

 

وفي الليلة الأولى حدث ما جعل أحد الأطباء يقفز من سريره ويمسك المصباح في يده ويخرج من الغرفة ولكن منعه حيائه من أن يوقظ العجوز. 

 

فقد نام الطبيب في ساعة مبكرة كان مرهقا ولكن عند منتصف الليلة انفتحت النافذة وأحس باندفاع الهواء البارد إليه قفز من سريره ليجد أمامه سيدة تقترب وكانت هي التي تدفع أمامها هذا الزمهرير وكانت السيدة تقترب أكثر وكانت المفاجأة أنها كانت عبارة عن نصف سيدة حيث أن نصفها العلوي هو الواضح ونصفها السفلي لا وجود له وقفز الطبيب من السرير ولكن السيدة اتجهت نحو الدولاب ودخلت فيه واختفت .

 

وأمسك الطبيب مصباحه واتجه نحو الدولاب فوجده مغلقا واتجه نحو باب الغرفة فوجده مغلقا والنافذة مغلقة أيضا ونظر في ساعته فوجدها الواحده صباحًا. 

 

فجلس على فراشه وهو لا يجد تفسيرا لما حدث وحاول كثيراً أن يستدرج النوم ولكنه طار، وطار معه العقل أيضا وأخذ يفكر هل هذه حيله تقوم بها العجوز ولكنه لم يقتنع فهو من حضر إليها وهما ليسا من الأغنياء والعجوز ليست بحاجة للمال ولا أحد سمع عن قصة هذا البيت ؟

 

وكان هذا الطبيب الدكتور الفونسو روجيرو وهو رجل ملحد ومن أشهر أطباء هذه المنطقة وهو الذي استدعاه البابا أكثر من مرة لعلاجه وكان أيضا من أشهر اللاعبين بالسيف واتجه الطبيب إلى النافذه وفتحها بشدة فكان الجو دافئا واستطاع أن يرى على ضوء النجوم أن حصانه ما زال في مكانه ونظر على غرفة زميله الطبيب فوجدها مغلقة وحاول أن يضع أذنه على باب غرفته والدولاب فلم يجد أي حركة فضطر أن يتمدد على سريره ينتظر النهار. 

 

وفي النهار جلس الرجلين على مائدة الإفطار وكان واضح عليهما أنهما لم يناما جيدا.

 

فقال أحدهما للآخر هل عندك ما تقوله؟  و هل أقول أنا إليك ماذا حدث؟ 


ورد عليه الآخر: أنت أيضا رأيت نفس الشئ؟ 


تماما 


ولكنك لم تحاول الاتصال بي 


لقد سمعتك وأنت تروح وتجئ ولم تقوم بالاتصال بي فأدركت إنك استطعت التحكم في أعصابك.


لم اتحكم فيها بهذه السهولة 


لكنك استطعت على أي حال ثم سكت الاثنين


ولم يستطع الطبيب السكوت فبدأ في تكملة الحديث


أخشى أن أكون شاهدت شئ غير الذي شاهدته ولذلك لابد أن أحكي لك أنا رأيت نصف فتاة في الثلاثين من عمرها 


هذا صحيح ويبدو أنها تشكو من شيء في صدرها 


هذا صحيح لقد رأيتها تضع يدها على صدرها وتحاول أن تمنع سعالا عنيفا 


وجاءت العجوز ونظرت إليهما وهي تتأملهما ثم قالت أبادر وأشكركما فلم يحاول واحد منكما إيقاظي وهذه أخلاق الرجال - بعض الرجال.

 

ثم استكملت كلامها أن ضابطًا كبيرًا نزل بأحد الغرف وكان أكبر حمار عرفته في حياتي لقد استيقظ عند منتصف الليل يصرخ كالأطفال وهذا الوقح نزل بملابسه الداخلية وكاد أن يحطم باب غرفتي فصحوت من نومي الهادئ وعرفت منه أنه رأى نفس الشبح الذى ظهرلكما بالأمس.

 

ورد أحدهما بدهشة: إذا كنت تعرفين ما سيحدث لنا .


ردت العجوز: طبعا يا ولدي .


فرد الآخر: ولماذا لم تخبرينا؟


ردت العجوز بكل هدوء: أنتما الآن تعرفان فهل ستغادران بيتي؟


فأجاب الاثنين: بالتأكيد 


قالت العجوز: ولكن ما الذي أصابكما لا شئ شعور ببرودة الجو واختناق في الغرفة ثم برودة شديدة في العنق ثم يعود كل شئ إلى ما كان عليه .

 

وهل يحدث لك نفس الشئ؟ 


أظن ذلك ولكنني تعودت على كل شيء هنا أنني في بعض الأحيان أنهض من النوم وأجد الدماء تسيل من يدي ولا أعرف السبب وأحيانا أجد النار تشتعل في ملابسي ولكن في معظم الأحيان أجد ملابسي تماما مثل ملابسكما .

 

وكيف تجدين ملابسنا؟ 


مقلوبة


وينظر كل منهما إلى ملابسه فيجدها مقلوبة !


وضحكت العجوز وهي تنظر إليهما وقد ظهر عليهما الخوف.. وقالت لهما: أعرف ماذا يدور فى رأس كل منكما.. لابد أنكما تقولان إنني أيضا واحدة من ضمن هذه الأشباح أنا كالشبح أيضًا ولكني كائن حي مثل أي حد وتعيسه مثل معظم الناس وشجاعة مثل أقل الناس ولا أهاب الموت مثل الموتى!

 

ولكي يسمع الطبيبان قصة هذا الشبح قررا أن يبيتا ليلة أخرى وفي غرفة واحدة.. جلس الاثنان في السرير ينتظران قدوم الشبح كل واحد منهما نظر إلى ناحية وأحكما إغلاق الباب والنافذة والدولاب واتفقنا على أن ينظر كل واحد منهما إلى ناحية.

 

وعند منتصف الليل..

 

امتدت يدان في وقت واحد كل طبيب يحاول أن ينبه الآخر إلى أن الشبح قد جاء من ناحيته ولكن أحدهما لا يحول نظرة إلى الجهة الأخرى فقد رأى أحدهما فتاة بنصفها العلوي ورأى الآخر نصفها السفلي النصفان يتجهان إلى منتصف الغرفة ثم يلتصق النصفان وتصبح فتاه طويلة عريضة حزينة جامدة النظر ثم تتجه إلى النافذه وتتلاشى وراء الستار. 

 

وطلع عليهما النهار ولم يناما وجاءت إليهم العجوز تروى لهما أن هذه الفتاه إبنتها ، وأنها كانت أجمل فتاه فى هذه المنطقه وأنها تزوجت تاجراَ غنياَ غبياَ جاهلاَ أيضاََ وكان يكبرها بعشرين عاماََ وكثيراََ ماقال له الناس إنها إبنته وليست زوجته، وكثيرًا ما قاله له إنه اشتراها بفلوسه.. وأنه لو كان عنده كرامة لتركها لشاب أجمل وأصغر.

 

وفي إحدى المرات أقام الدوق الكبير حفله وأصرت زوجة الدوق على دعوة ابنتها وزوجها وضاق زوجها بهذه الدعوة وراح يشك في الأمر ولكنه لم يشأ أن يرفض دعوة الدوق وذهب مع زوجته وكانت أجمل الحاضرات وكان الضيوف يتهامسون على التاجر الذي يبيع الخنازير كيف أنه اشترى هذه التحفة الفنية وكيف أن الذي يفهم في الخنازير يفهم في النساء أيضا أو كيف أن المرأه تفضل تاجر الخنازير على تاجر المجوهرات وكان أشهر تاجر مجوهرات في هذه المنطقة زوجًا لامرأة دميمة وكانت المقارنات لا تنتهي وكان غضب الزوج لا حدود له.

 

ولم تكن العجوز تقيم مع ابنتها في بيت واحد ولكنها كانت تسكن بعيدًا عنها.

 

ومنذ عشر سنوات قبل الحادث الأليم أحست الأم بقلب الأم أنها تريد أن ترى إبنتها وجاءت إلى هذا البيت وقابلها الزوج في حالة غضب وطردها من البيت بحجة أنها هي التي تشجع ابنتها على عصيان أوامره وعادت الأم ولم تر ابنتها ولكنها عرفت من الخدم أن ابنتها اختفت منذ شهور، وأن الخدم كلما سألوا الزوج عنها قال إن الأطباء يعالجونها في روما وأنها ستعود قريبًا.

 

ولكن الخدم والجيران شكوا في الأمر وواجهوا الزوج بكل ما يشيعه الناس عنه ففي اليوم التالي وجدوا الزوج ميتًا في فراشه ولم يجدوا في جسمه أي إصابة من أي نوع وإلى جواره ورقة بخطة أو السطور الأولى من اعتراف لم يكمله وبدأ الخدم يفكرون من جديد في تصرفاته.


 واكتشفوا أنه في أحد الأيام طلب منهم جميعًا أن يعدوا له العربة وأنه هو الذي سيقودها بنفسه ثم طلب إليهم ألا ينهضوا بتوديعه فهو لايريد أن يرى أحدًا.

 

ولاحظ بعض الخدم أنه كان يحفر في الحديقة.. وأنه لم يجرؤ على أن يقترب منه ولم يجرؤ في اليوم التالي على أن ينقب في مكان الحفر ليعرف ما الذي كان يخيفه سيده.

 

وعادوا إلى الحديقة فوجدوا أن سيدتهم مدفونة نصفها فقط ثم حصلوا على المنشار الذي حطم به عظامها وبعد ذلك فتحوا الباب الذي يسد الباب بين الغرفتين فوجدوا فيه نصفها الآخر ثم وجدوا ملابسها التي غرقت في الدماء مدفونة في الحديقة أيضًا، ومنذ ذلك الحادث الأليم وأمها ترى هذا الجسم الطائر كل ليلة في نفس الموعد .

 

ويقال إن أحد الذين يفهمون في الأرواح والأشباح نصح الأم بأن تؤدي لابنتها شيئًا يريحها بأن تدفن نصفيها معًا في مكان واحد وترددت الأم أول الأمر فقد كانت حريصة على أن ترى ابنتها كل ليلة، وأن تسعد برؤيتها وألا تنام دون أن تراها أو كأنها تريد أن تنام حتى الموت لتراها أوضح .

 

ومنذ دفنت الأم نصفيها معًا لم يعد أحد يرى صورتها وإذا كان الذين اشتروا البيت بعد ذلك يقولون إنهم كانوا يستمعون إلى أصوات ووقع أقدام ودقات على الباب عند منتصف الليل ولكن لم ير أحد منهم شئ .

 

وفي مارس 1902 نشرت صحيفة جنوة اليومية أن سكان هذا البيت يضحكون في فزع فالأطفال الصغار يشعرون بأن أحدًا يذغذغ أقدامهم، وقد ظنت الأمهات أول الأمر أن الأطفال مصابون بجنون ولكن عندما أقامت الأمهات بغرف الأطفال أصابهم نفس الشئ .

 

وقيل في تفسير ذلك أن الفتاة ما زالت تبحث عن ملابسها ومجوهراتها وأنها تريد دفنها معها .. فإذا حدث ذلك فهي لن تزعج أحدًا أبدًا..

 

ويقال إن أحد سكان هذا البيت وجد دبلة ذهبية في عنق عصفور سقط ميتًا أمامه وأدهشه ذلك.

 

ولما أمد يده إلى هذا العصفور وجد هذه الدبلة الذهبية ولما خلعها من عنق العصفور وقلب فيها وجد مكتوب عليها اسم هذه الفتاة ونصحه بعض الناس أن يدفنها في أرض الحديقة.. 

 

وبالفعل دفنها.. 

 

وبعد ذلك لم يعد أحد يسمع أي أصوات في هذا البيت عند منتصف الليل .

 

المصدر: مركز معلومات أخبار اليوم

 

 

الكلمات الدالة

 

 

 
 
 
 
 
 
 

مشاركة