محمود الورداني يكتب : عندما أنام ويكون دمى فى الخارج
محمود الورداني يكتب : عندما أنام ويكون دمى فى الخارج


عندما أنام ويكون دمي في الخارج

أخبار الأدب

الأحد، 03 أبريل 2022 - 12:24 م

[email protected]

فتننى هذا النص السيرى عدة مرات للراحل الجميل أسامة الدناصورى، الذى غادرنا وهو فى السادسة والأربعين، أى فى ذروة عطائه، بعد أن انتهى من إنجاز هذا العمل الذى يشكّل إضافة كبرى -دون أى مبالغة- للكتابة السيرية.


النص هو «كلبى الهرِم.. كلبى الحبيب» وقد أصدرت له دارديوان» أخيراً طبعة جديدة.
فتننى النص عدة مرات، فقد قرأته فى طبعته الأولى عام 2007 عن دار ميريت، بل وأتذكر أننى كتبتُ عن افتتانى ذاك. أما فى طبعته الجديدة فقد قرأت النص مرتين وتضاعف افتتانى.
إنه نص الألم والخوف والمرض، الذى استمرت رحلته منذ كان عمر الكاتب لا يتجاوز أسبوعين، ومناوشة الموت واستئناسه والتجول معه واصطحابه إلى المقهى لتناول الشاى، والرحلة الطويلة مع المثانة العصبية، والانتقال إلى الغسيل الكلوى، حيث ينام بينما يكون دمه فى الخارج يتم غسله، حسب تعبيره. الأطباء والممرضون والممرضات والمرضى، ماكينات الغسيل والقسطرات والإبر، العمليات المتواصلة فى الفخذين والذراعين لتركيب الآلات وتوصيلها بأعضاء الجسم، عالم الأوردة والشرايين والمرضى.. كل هذا على مدى سنوات تمتد منذ وُلد تقربياً.


وعلى الرغم من الجهامة والتهديد الدائم والمستمر، لا يرفع أسامة صوته ولا يقيم مناحة، وفى الوقت نفسه لايستهين بالوحش الكامن فى جسمه. يلجأ مثلاً لاستخدام العبارات الطنانة الفارغة من المعنى مثل «الإرهاصات تزكم أنوفنا» أو «أفتقده أيما افتقاد» وغيرهما، ليضفى جواً من الكوميديا على جهامة عالم كهذا.


يؤنسن أسامة الموت. يعرف جيداً أنه يتربص به، لكنه يستطيع مقاومته بكتابة سيرته، ويتحرر ويغنى بصوت غير جهير. لا يخلو الأمر من قصص عشق ملتهبة وكتابة قصائد حب المراهقة، بل والهنك والرنك الخفيف.. كل هذا فى لغة واضحة صاحية، تخلصت تماماً من الحشو ولجأت للاستبعاد ثم المزيد من الاستبعاد.


أما بناء السيرة على المستوى الجمالى فيجرى على نحو تلقائى، أو يبدو أنه تلقائى، فلا مشكلة لدى أسامة فى الزمن على سبيل المثال، ويكتفى بتدوين تاريخ الكتابة الذى يبدأ فى 20 أبريل عام 2006 ويتوقف فى 8 ديسمبر فى العام نفسه.

أى أنه كتبه خلال شهور قليلة. لهذا يشعر الواحد أن النص دفقة واحد قصيرة لا تتوقف إلا بالموت، لكن أسامة يحوّل المناحة إلى حكاية عبيطة، مكتظة بالبهجة، وإن كان هذا لا يمنعه من الاستغراق فى التفاصيل: تفاصيل طرز ماكينات الغسيل الكلوى، أو أنواع القسطرات ووظائفها وأسماء الأدوية وكيفية النبش واللغوصة لسحب الشريان وتركيب وصلات له. 


يُغيّب أسامة متعمداً الكتابة الحزينة، ينفيها، فلا ظل من ظلال الميلودراما، بل شقاوة ومكر وحس ساخر سخرية لاذعة، وقد بلغت المسخرة به أن يغنى أغانى وأزجالاً فكاهية وورائه كورس يردد لازمة ما، لكن الكورس يغافله ويهرب ويتركه وحيداً على المسرح فى حفلات الجامعة! أو يتعامل مع الجميع وهو شبه أصمّ ويفلت من اكتشاف الناس لصممه فيكتفى برسم تعبيرات مختلفة مع الآخرين ويقنعهم بالفعل أنه يسمعهم، ربما باستثناء صديقه الناشر محمد هاشم.


القارئ، أو أنا تحديداً، لم أشعر بأى مناحة أو مأساة. أقصد على المستوى الشخصى المحض، فقد أتيح لى أن ألتقى به مرات لا حصر لها سواء فى دار ميريت أو قلاية بولاق عند صديقنا محمد شهدى، وكان بيننا صداقة بدأت متأخرة، كما أننى أدرك جيداً فداحة خسارته كشاعر فى ذروة عطائه، ومع كل ذلك لا تملك أمام سيرة كتلك، تحتوى على ألم لاحدود له، إلا أن تشعر بالبهجة، بل والقهقهة أحياناً.


أسامة.. كتّر خيرك على كل ما منحتنا.. لروحك السلام.

اقرأ أيضا | محمود الورداني يكتب: الموت في التشريفة

 

 

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 

مشاركة