أوقاف النساء فى مصر
أوقاف النساء فى مصر


حكايات| أوقاف النساء فى مصر «2» قصص وروايات زوجات السلاطين

آخر ساعة

الأحد، 17 أبريل 2022 - 12:36 م

بقلم: ثناء رستم

لم يقتصر إسهام المرأة فى الحياة الاجتماعية على ممارسة دورها كزوجة وأم وابنة، بل تعدت ذلك لتصبح عالمة وطبيبة وسيدة أعمال، وهى الكائن الوحيد على الأرض الذى بمقدوره أن يقدَّم كل الأدوار فى وقت واحد، فهى قادرة على أن تقوم بدور الرجل ولا يمكن للرجل أن يؤدى دورها، ولم تكتف بكل هذه المسئوليات بل قدمت بسيرتها وعملها الصالح ما لم تفعله الخطب والمحاضرات والدروس، لذلك امتلأت الأراضى الطيبة بأوقاف النساء الصالحات.

 

كانت أوقاف النساء فى مصر حاضرة وبقوة، خاصة مع شخصية المرأة المصرية التى قررت من خلال دورها الإنسانى والخيرى أن تؤكد وجودها فى منظومة السلطة والمجتمع والسياسة من خلال مساهماتها فى إنشاء المؤسسات العلمية والمعرفية والإنفاق عليها فى حياتها ووقف الثروات لتضمن استمرار الدور الذى تقوم به تلك المؤسسات لفترات طويلة، ولهذا اهتمت المرأة بالوقف على المساجد والكتاتيب وأسبلة المياه وتدبير النفقات للأسر الفقيرة.

 

وأيضا لعبت المرأة فى مصر دوراً هاماً فى تدعيم ملك زوجها أو ابنها من السلاطين الذين توالوا على حكم مصر عن طريق تقديم الأوقاف التى تصنع لهم سيرة طيبة، مثل السيدة المعزية تغريد زوجة الخليفة المعز وأم العزيز بالله فقامت ببناء المسجد الجامع الجديد وأنشأت طاحونا للسبيل بجوار مسجدها وابتاعت له الدواب وأوقفت على المسجد بستاناً وظل الفقراء والمحتاجون ينتفعون به حتى احترق فى عام 564 هجرية.

ولم يقتصر الأمر على زوجات الملوك ولكن قدمت السيدات اللاتى كن ينتمين إلى الطبقة العليا فى العصر الفاطمى أوقافا خيرية مثل ست غزال التى كانت تشغل منصب صاحبة دواة الخليفة، وهو منصب فى قصر الحاكم الفاطمى كانت مسئولة فيه عن مسح الأقلام وتحضير الدواة، فقامت ببناء مسجد عام 536 هجرية وحمل اسمها، وقدمت سيدات البيت الأيوبى كثيرا من الأوقاف التى حملت أسماءهن مثل مؤنسة خاتون ابنة الملك العادل أبى بكر وشقيقة الملك الأفضل، والتى أنشأت مدرسة أقيمت فيها دروس للشافعية والحنفية وكان يقرأ فيها القراء والفقهاء ويعلمون فيها وسميت بالمدرسة القطبية، واشترت لها البساتين التى أوقفتها من أجل الإنفاق عليها، وذكر المقريزى أن تلك المدرسة ظلت عامرة حتى القرن التاسع الهجري.

 

واستمر ذلك التقليد بين نساء الأسر الحاكمة فأنشأت خوند تتر بنت محمد بن قلاوون المدرسة الحجازية، ودُرِّس فيها الفقه الشافعى والمالكى، وجعلت فيها خزانة للكتب أى مكتبة، وأقامت بجوار المدرسة مكتبا للأيتام وعينت لهم مؤدبا يعلمهم القرآن الكريم، وأجرت عليهم الطعام والكساء، ووقفت على ذلك أوقافا عظيمة، ويذكر ابن إياس فى حوادثه أن خديجة بنت درهم أنشأت مدرسة عرفت باسم بيها امدرسة وجامع شهاب الدين، فأقامت بها محرابا ومئذنة وجعلت بها خلاوى للصوفية ومنبرا، ثم أوقفت عليها جميع ما ورثته عن أبيها فجاءت من محاسن الزمان على حد وصفه.

 

واهتمت نساء الدولة المملوكية بصفة عامة بإنشاء الأربطة التى كانت تقام للمتصوفين أو للنساء المنقطعات والمهجورات والمطلقات والعجائز والأرامل والعابدات من المتصوفات، ويذكر المقريزى مثالا على تلك الأوقاف، بالوقف الذى أقامته الست الجليلة تذكارباى خاتون ابنة الظاهر بيبرس، التى وقفت على رباط البغدادية للشيخة الصالحة زينب ابنة أبى البركات عام 684 هجرية، ليؤدى الرباط أدوارا دينية وتعليمية واجتماعية، وأنزلت فى الرباط زينب ومعها النساء الخيرات وظل سكانه يُعرفن بأنهن من النساء الخيرات، وبه دائماً شيخة تعظ النساء وتذكرهن وتفقهن، وتودع فى الرباط النساء اللاتى طلقن أو هجرهن أزواجهن حتى يتزوجن أو يرجعن لأزواجهن صيانة لهن لما كان فيه من شدة الضبط وغاية الاحتراز والمواظبة على وظائف العبادات.

وظلت أوقاف النساء مزدهرة حتى بداية العصر العثمانى حتى حدث فيها الفساد كما يذكر على مبارك عن أحوال الوقف فى الفترة من القرن التاسع حتى القرن الثانى عشر الهجرى: اإن تلك  القرون الثلاثة أهمل فيها أمر المدارس وامتدت أيدى الأطماع لأوقافها وتصرف فيها النُظّار على خلاف شروط وقفها وأصبحت خرائب وآل بعضها لزوايا صغيرة، وبعد تقلب الزمان واندثار المدارس استبدلت بها الزوايا حتى كثر بناؤها فى تلك القرون الثلاثة.

 

ورغم الظروف السياسية والاجتماعية التى أشار إليها على مبارك، لم تنقطع أوقاف النساء اللاتى كن يشعرن بمسئوليتهن ناحية الفقراء والمحتاجين، فسعين دائما للمساعدة حال توفر الثروات والأموال، وكن أحيانا يخصص أوقافهن لخدمة الحرمين الشريفين مثل السيدة اأمة الله قادنب معتوقة وزوجة الأمير عبدالرحمن كتخدا القارذغلى التى أوقفت وكالة وربعًا و12 دكانا لأغراض عدة فى الحرمين الشريفين منها إنشاء أسبلة مياه فى المدينة.

شروط الوقف

كانت الأوقاف تخضع لشروط شديدة الدقة تحدد فيها الواقفة أدق التفاصيل التى تحافظ بها على وقفها ليؤدى المهمة التى أوقفت عليها، وتتوزع حجج الأوقاف فى مصر مابين دار المحفوظات بالقلعة، والأرشيف التاريخى لوزارة الأوقاف، وسجلات قصر عابدين، وترصد الدكتورة سوسن سليمان يحيى فى رسالة الدكتوراه الخاصة بها الكثير من التفاصيل حول تلك الوثائق فتذكر أن المرأة حرصت على أن تضع ممتلكاتها فى نظام الوقف وسجلته فى حجج شرعية وهو أمر صاحب هذا النظام منذ نشأته فى صدر الإسلام، وعلى امتداد تطور هذا النظام مع تطور الدولة الإسلامية ونموها، عرفت مصر نظام الأوقاف، وأقبل أهلها عليه، كما تم تنظيم الوقف بطائفة من العاملين على تنظيم شئونه وقواعده، حتى أكتمل نظام الوقف وبلغ قمة التنظيم فى عهد دولة المماليك.

 

وتابع هذا النظام مسيرته فى العصر العثمانى، فأصبح له مشرفون وموثقون وقضاة، وكانت أوقاف النساء من عمائر وبنايات تخضع لنوعين من الوقف الأول الأهلى، والثانى الخيرى، وكانت المرأة فى الوقف الأهلى تلتزم بإجراءات شديدة الدقة، فتبدأ من أنها تقر فى وثائق رسمية بأنها ستوقف أملاكها عن طريق وكيل لها وكانت حجة الوقف لها ديباجة واضحة يعرف منها المستوى الاجتماعى للواقفة فكانت تبدأ الصياغة كمثال لسيدة تسمى زليخا خاتون جاء فى بدايتها: اأشهد على نفسه فخر أمثاله المكرمين، الآجل الأمثل الحاج إبراهيم الطحلاوى، عن فخر المخدرات، وتاج المستورات المصونة زليخا خاتون الثابت معرفتها وتكيله عنها، ثبوتا شرعيا بشهود الشهاد الشرعى فى كمال صحة موكلته المذكورة، وسلامتها، وطواعيتها واختيارها ورغبتها فى الخير وإرادتها له وجواز الأشهاد عليها شرعا، بأنها وقفت العمائر المذكورة فى الوقف.

 

 

وتتابع نصوص الوقف لتؤكد فيه السيدة وبوضوح شديد أنه وقف خيرى لوجه الله على أبدية الوقف، فتنص السيدة فى الوثيقة على اأنها وقفت وحبست وسبلت وأبدت وأكدت وخلدت وتصدقت لله سبحانه وتعالى، وقفا صحيحا شرعيا وحبسا صريحا مرعيا وتسبيلا دائما وصدقة جارية بالدوام سرمادا، لا يباع ذلك ولا يوهب ولا يرهن، ولا يناقل به، ولا ببعضه، قائما على أصوله مسبلا على سبله ومحفوظا على شروطه، أبد الأبدين ودهر الداهرين إلى أن يرث الله الأرض وما عليها وهو خير الوارثين.

 

 وتوضح السيدة فى هذا النص رغبتها الواضحة فى الوقف، ثم يتبع ذلك تحذير واضح بأن من يخالف ذلك سيتعرض لغضب الله فيوضح النص بعبارات ذلك الزمان تهديداتها بوضوح افلا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يغير ذلك أو يبدله أو يسعى إلى إبطاله أو إبطال شيء منه، فمن فعل ذلك أو شيئا منه كان الله سبحانه وتعالى طليبه ورقيبه، ومجازيه بفعله يوم التناد، يوم عطش الأكباد.. إلى آخر التحذيرات.. ثم تختم: افمن بدله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه إن الله سميع عليم.

 

وتأتى شروط الوقف الأهلى بنفس دقة الوقف الخيرى، ويزيد عليه الكثير من التفاصيل محددا بعشر خطوات تحتاج إلى سنوات لا يمكن حصرها ليتحول بعد ذلك لوقف خيرى ينتفع به العامة، فتذكر وثيقة مريم بنت عبدالله بتاريخ 15 من جمادى الآخر عام 1174 هجرية، وبعد الديباجة التى ذكرناها: اأنشات الواقفة وقفها من تاريخه على نفسها أيام حياتها تنتفع به وبما شاءت منه، على أن يؤول ريع وقفها من بعدها على أولادها ذكورا وإناثا بالسوية بينهم ومن بعد ذلك أولاد الأولاد ثم أولاد الأولاد، ثم ذريتهم ونسلهم وعقبهم طبقة بعد طبقة ونسلا بعد نسل وجيلا بعد جيل.

 

وتأتى المرحلة الرابعة فتنص على امن مات من الأحفاد وترك ولداب، أما المرحلة الخامسة فتنظم ما يلى الأحفاد، فتقر حالة إن لم يكن للحفيد أولاد فينتقل نصيبه من ذلك لإخوته وتوضح المرحلة السادسة إن لم يكن للحفيد أخوات فيذهب الوقف لأقرب طبقات المتوفى من أهل هذا الوقف يتداولونه لحين انقراضهم جميعا، وهنا تأتي المرحلة السابعة بعد انقراض الأحفاد، وهي أن ينتفع بالوقف من يوجد من عتقائها أى من نسل عبيدها ذكوراً وإناثاً، بيضاً وسوداً بالسوية بينهم.

وتنظم المرحلة الثامنة مستحقات عتقاء الواقفة بعد وفاتهم وانقراض نسلهم جيلا بعد جيلا، وتأتى المرحلة التاسعة بعد التأكد من فناء نسل العتقاء بحيث يتم البحث عن أى من يبت لها بصلة قرابة، وحين التأكد من فناء نسلها ونسل عتقائها وأقاربها جميعا يتم تحويل الوقف للمنفعة العامة وعلى أوجه الخير التى تحددها الواقفة أيضاً.

 

وكان كثير من النساء يذكرن فى أوقافهن ما يخصصن فيه أموراً لأنفسهن، فتحدد الواقفة ارابية خاتونب فى وقفها بتاريخ 4 ربيع الثانى عام 1144 هجرية، أن يُخصص مبلغ من ريع عمائرها، يصرف فى كل شهر من شهور الأهلة ثلاثون نصفا فضة، وهى أصغر عملة نقدية تركية وتساوى 1 على الأربعين من القرش، على ما يبن فيه، ما هو لخبز قرصة، وثمن ماء عذب يفرق فى أيام الجمع والعيدين، وفى كل شهر عشرون نصفا فضة ما هو لقارئ يقرأ ما تيسر قراءته من القرآن العظيم على تربة الواقفة المذكورة التى ستدفن بها، ويهدى ثواب قراءته لحضرة النبى صلى الله عليه وسلم وآبائه وأخوته من الأنبياء والمرسلين والصحابة والقرابة والتابعين والأربعة الأئمة المجتهدين والأولياء الصالحين.

وأضافت المرأة فى نفس حجة الوقف، أن يصرف من ريع عمائرها على روح المذكورة وأصولها وفروعها وحواشيها وسكان تربتها وأموات المسلمين فى كل شهر خمسة أنصاف فضة من ذلك، ما هو خوص وريحان رطبين يوضعان على تربة الواقفة المذكورة، فى أيام الجمع والعيدين فى كل شهر.

واهتمت بعض الواقفات بتخصيص مبالغ للصرف على شئون أضرحة آل البيت من النساء، فذكرت حجة وقف اأمة الله قادن بنت عبد الله البيضاب بتاريخ غرة جمادى الأول عام 1198 هجرية، بأن يصرف لبواب مقام السيدة خديجة الكبرى أم المؤمنين والكائن بمكة المشرفة فى كل سنة ريالان، ولبواب مقام السيدة فاطمة الزهراء فى كل سنة دينار، ولبواب الست حليمة السعدية عمت بركاتها كل سنة دينار محبوب.

 

ولم تقتصر أوقاف النساء على القاهرة وحدها، بل ذكرت وثيقة أمنة المرأة بتاريخ 18 ربيع آخر عام 1081 هجرية، وكانت من المحلة الكبرى، ونصت على أن يكون ريع عمائرها بعد مماتها وقفا على قبر الشيخ الشريف بجامع العنايات بالمحلة، ووقفت سيدة أخرى من مدينة ميت غمر تسمى افاطمة بنت أحمد نصيبا من ريع عمائرها على مصالح جامع ولى الله تعالى سيدى إسماعيل، الكائن بمنية غمر، وتصرف لمصالح الجامع المذكور من عمارة وترميم وفرش وإقامة شعائره، وشرطت الواقفة أن يكون الناظر فى وقفها لمن يكون ناظرا على الجامع المذكور.. ولم تتوقف الدقة والتنظيم على الوقف وتوجيهه بأدق الأوصاف والكلمات، ولكن هناك بقية لوصف الواقفة وتحديد الألقاب التى تحدد مكانتها الاجتماعية وتمثل مفاتيح للتعرف عليها.

 

 

الكلمات الدالة

 

 

 
 
 
 
 
 
 

مشاركة