عائد من الاختطاف
عائد من الاختطاف


رفعت الجلسة| عائد من الاختطاف (2-2)

جودت عيد

الخميس، 21 أبريل 2022 - 09:33 م

أخفى ماضيه عن زوجته، فهو لا يعلم أصله ونسبه، لا يملك سوى شهادة ميلاد لأسرة ظنت انه ابنها فى يوم من الأيام، لكن بعد ساعات قليلة، سيقول القضاء كلمته، سيتلو القاضى تقرير الطب الشرعى فى حضور الجميع، ويعلن نتيجة تحليل «dna» الذى طلبه الوالدان لاثبات كونه ابنهما البيولوجى المختطف منذ ثلاثين عاما أم لا؟.
استيقظ الشاب والقلق يساوره، مسح بيده على وجه طفليه الصغيرين وهما نيام ثم قبلهما، ابتسم فى وجه زوجته، وطلب منها أن تدعو له، فهناك قرار مصيرى ينتظره.

تعجبت الزوجة، وتساءلت فى حيرة من أمرها، أى قرار مصيرى ينتظر زوجها؟ ، فهو حداد ، لا مهنة له غيرها ، ولا يستطيع أن يمارس أخرى، لكنها تعرفه جيدا، صامتا، ولا يخبر أحدا بما يدور فى عقله أو يشغل باله منذ تزوجته ، اكتفت بالربت على كتفه، ودعت له أن ينصره الله.


خرج الشاب متوجها إلى محكمة الأسرة ببنها، حيث ينتظره الأب والأم ومحاميهم، فى حين لا يعلم أحد من قريته بالقضية وتفاصيل ما يدور فيها.


فى الساعة العاشرة صباحا، أغلق الحاجب باب قاعة المحكمة، عم الصمت المكان ، جلس الشاب بعيدا عن والديه حسب طلبهما ، وأخذ يردد دعوات النصر، نادى القاضى على طرفى الدعوى ، الأبوين، والابن ، طلب منهم ترك مقاعدهم والحضور أمامه ، فى حين أخبر المحامى بالجلوس مكانه.


امسك القاضى تقرير الطب الشرعى، وبدأ يفتح فى المظروف الذى يحويه رويدا رويدا ،وسط ترقب وقلق من الطرفين ، وبعد ان انتهى ، أعلن للجميع ان حكمه سيكون بناء على ما يتضمنه التقرير بنسبة كبيرة .


قال القاضى « تقرير الطب الشرعى فى مضمونه ، انتهى إلى أن هذا الشاب ليس الابن البيولوجى لهذين الأبوين ، لذلك فقد قضينا بقبول دعواهما بإنكار النسب ..ثم أمر برفع الجلسة ».


لم يبتسم أحد بعد تلاوة القاضى التقرير ، الجميع حزن ، الشاب بكى ، شعر أنه عاد إلى نقطة الصفر من جديد ، ليس أمامه سوى خوض غمار البحث عن أسرته الحقيقية ، بعد اختطافه منها وعمره شهر ونصف الشهر ، أما الوالدان ، فقد بكت الأم ، ليس بسبب النتيجة وحدها ،بل لأنها فقدت الأمل فى عودة ابنها المختطف ، الذى عاشت فى انتظاره ثلاثين عاما.


خرج الشاب هائما فى الشوارع ، اكتفى برمق والديه بنظرات العطف والرحمة ، وقد بادلاه تلك النظرات ، لكنه اليوم لا يعرف من هما والداه ، وماهو أصله ونسبه ، وما مصير أسرته التى ارتبط اسمها باسم عائلته؟ .


اسئلة كثيرة دارت فى ذهنه ، قلق على مستقبل أولاده أخذ يراوده ليل نهار ، لم يكن أمامه سوى إخبار زوجته ، تحامل على نفسه ،وقص لها قصته كاملة .


أخبرها انه تم اختطافه ، وعمره شهر ونصف الشهر من عصابة تمارس الاتجار فى البشر بالإسكندرية ، خشى زعيم العصابة من الشرطة فاستخرج شهادة ميلاد ونسبه له ، وبعد 10 سنوات ، تخلى عنه لأسرة كانت تبحث عن ابنها المختطف مقابل 80 ألف جنيه ، لكن الاسرة بعد أربعة أعوام من العيش معها ، شعرت انه ليس ابنها ، وبدأت فى اتخاذ الإجراءات القانونية التى امتدت لسنوات لإثبات انه ابنهم أم لا ، ليصدر القاضى حكمه بعد سنوات بإنكار نسب ، ويطالبه بالبحث عن أسرته الحقيقية .


صرخت الزوجة عندما انتهى من إخبارها بقصته ، شعرت أنها تعيش مع رجل غريب ، خشت على ابنائها وتساءلت فى حيرة من أمرها ، ما مصيرهم فى المدرسة؟ ، وكيف ستتعامل الحكومة معنا؟ ، لم يعط لها جوابا ، ظل صامتا ، يبكى كالطفل التائه الذى يبحث عن والديه .


لم تتمالك الزوجة نفسها ، إهانته لكذبه عليها ، وقررت مغادرة المنزل إلى بيت أسرتها ، مهددة بأنه إذا لم يعثر على أبويه الحقيقيين، سيذهب مرة أخرى إلى المحكمة ولكن للانفصال عن أسرته الحالية .


هدأ الزوج زوجته ، اخبرها انه لن يصمت ، وسيبحث فى كل شبر بمصر عن أبويه الحقيقيين ، فأولاده مهددون بالطرد والحرمان من كل شيء يتوقف على طلب إثبات «اصل ونسب».


اشتاق الشاب مرة أخرى إلى والديه ، ذهب إليهما ، توسل لهما ان يظل ابنهما على الورق فقط ، فليس أمامه سوى ذلك ، و إلا ستختفى أسرته الحالية ، لكن الرد كان قاسيا ، اخبراه ان الجميع علم الحقيقة ، وهناك ميراث ، وليس امامنا سوى إقامة دعوى أمام القضاء الإدارى لبطلان شهادة الميلاد التى اصدرناها لك ونسبناك لنا .


صرخ الشاب ،توسل للجميع ، لكن سبق السيف العزل ، توجه محامى الوالدين إلى مجلس الدولة وبدأ فى إجراءات إقامة الدعوى ، ومع ثانى جلسة وبعد أن قدم حكم المحكمة تقرير الطب الشرعى ، ألزم القاضى وزارة الداخلية ببطلان شهادة الميلاد الصادرة بنسب ذلك الشاب إلى هذين الأبوين.


نزل الخبر كالصاعقة على الشاب وأسرته ، فقد أصبحوا بهذا الحكم مشردين لا نسب ولا أصل لهم ، الجميع اغلق بابه امامهم ، لكنه لم ييأس ، شعر ان الحمل اصبح ثقيلا ،وان مصير أسرته بيده ، طرق باب الكثير من الأسر التى أعلنت عن اختطاف أبنائها ،وغيابهم عنها فى فترة الثمانينيات ، اصطحبهم إلى أحد معامل التحاليل ،لإجراء تحليل النسب


لم ييأس الشاب ، اجرى 60 تحليل إثبات نسب مع اسر تعيش من شرق مصر الى غربها ومن شمالها الى جنوبها ، لكن النتيجة لم تأت بما يرغب ، أظهرت التحاليل عكس ما كان يتمنى ، لانسب له مع هذه الأسر .


منذ عام 2015 وذلك الشاب شاردا مع أسرته، يعيش دون إثبات هوية ، يحتفظ بشهادة ميلاد أسرته الأخيرة على امل ان يرأف قلبهما له ، ويتركاه يحمل اسمهما من اجل اسرته الصغيرة ، مازال يواجه طلبات إثبات هويته ، باخبار طالبيها قصته ، لكن القوانين لا تؤمن بالإنسانيات ..

والمأساة مازالت مستمرة..فهل من حل؟
 

«مجهولو النسب»

وحيد صابر المحامى بالاستئناف العالى ومجلس الدولة وضع تصورا قانونيا لحالة ذلك الشاب، وقدم حلولا قانونية، اتمنى ان يصغى إليها القائمون على التشريع فى مصر، وأن تتدخل الجهات التنفيذية والحقوقية للبحث عن مخرج لهذا الشاب وغيره من آلاف الشباب « مجهولى النسب»، خاصة ان بعضهم اصبح لديهم زوجة وابناء، وانهم معرضون للحرمان من حقوقهم التى نص عليها الدستور بسبب عدم حملهم بطاقة هوية.. يقول المحامى «مجهولو الهوية.. هذا هو المصطلح الأقرب لهذه الحالة..

وهناك العديد من المواد التى اهتمت بهذا الأمر ولعل أبرزها هو قرار رئيس الجمهورية رقم 15 لسنة 2015 م، بتعديل بعض أحكام قانون الضمان الاجتماعى 137 لسنة 2010 م، باستبدال الفقرة «ج» من المادة الثانية، الخاصة بتعريف اليتيم ليكون كل من توفيت والدته أو توفى أبوه ولو تزوجت أمه أو مجهول الأبوين، بجانب اهتمام الشريعة الإسلامية باليتيم، والاتفاقيات الدولية التى عنت بحقوقهم، ومن ثم.. فإن الاحتكام بشأنه وشأن اليتيم فى أحكامه بإلزام الدولة بتسجيل وإثبات هويته.. ورغم ما تستحقه هذه الحالة من أهمية ..

وأنها حتما هى الأجدر بالمتابعة ومع ذلك نجد ان المشرع المصرى لم يراعها اهتماما فى تناولها ، كما ان اللوائح التنفيذية للمواد التى اختصت بالوضع القانونى لمجهولى النسب جاءت ضعيفة تفتقر للحزم والوضوح، مما تجعلها فريسة للروتين الكامن بين انياب الآراء الشخصية والفتاوى بلا علم أو معلومة، مما يؤدى الى تضارب الآراء فى كيفية حل المسألة بشكل واضح وكل هذا على حساب صاحب الحالة.


لذلك فإنه على الجهات المسئولة التدخل لوضع تسوية وحل لأزمة «مجهولى النسب».

 

اقرأ أيضا

هل يجوز استخراج جواز سفر للابن مجهول النسب المكفول؟.. التضامن تجيب

 

 

 

 

 

الكلمات الدالة

 

 

 
 
 
 
 
 
 

مشاركة