«المقر الجديد لبائع الطيور»
«المقر الجديد لبائع الطيور»


قراءة في كتاب «المقر الجديد لبائع الطيور».. تفاصيل

أخبار الأدب

السبت، 23 أبريل 2022 - 02:19 م

كتب : خالد حسان 

الشعر فى أحد معانيه هو محاولة للتقويض، تقويض سلطة اللغة أولا من خلال إزاحتها عن مستواها الطبيعى، والوصول بها إلى آفاق أخرى أكثر رحابة، ثم تقويض ما تتيحه هذه اللغة من أفكار ورؤى وأيديولوجيات. لا يؤمن الشعر بالثبات ولا يثق فى السلطة –أية سلطة- يكافح دائما لخلخلة أى نظام رسمى أو أية هيمنة مؤسساتية، والشاعر رغم وجوده الفيزيقى داخل مجتمع ما له عاداته وتقاليده، ورغم انغماسه بعمق داخل هذه الثقافة يكافح بالشعر ضد هذا الوجود وضد تلك الثقافة، الشاعر هو كائن ثورى دائما وأبدا، لا ينظر للأشياء تلك النظرة السطحية العابرة وإنما يحاول أن ينفذ إلى عمقها فيكون معرفة أكثر وعيا وإدراكا من تلك التى تتيحها الحواس بقدراتها المتواضعه ونظراتها الضيقة.


 يضعنا هذا المدخل على عتبة مفهوم الشعر كما يتبناه الخطاب الشعرى فى ديوان «المقر الجديد لبائع الطيور» وهو أحدث إصدارات الشاعر المغربى عمر العسرى، فليس ثمة إمكانية داخل هذا الخطاب لرؤية الشعر إلا من خلال وظيفته الثورية ومحاولاته التقويضية، وسعيه الدؤوب نحو خلخلة المفاهيم المستقرة والأنساق الجمالية المؤسساتية، إذ يطرح الخطاب الشعرى مفهوما مغايرا للقصيدة بما تحمله من محددات شفوية دخولا فى النصية بوعيها الكتابى وقدرتها على تقويض الأداءات الصوتية والأنماط الجمالية والقوالب الجاهزة، ومن ثم تأسيس شعرية تقوم على التداخل بين الأجناس الأدبية فى نسيج لغوى يمتح من تفجير اللغة وتفكيك العلاقات التى تنطوى عليها الدوال ومدلولاتها. 


 يمكن من خلال الاقتباسات الثلاثة التى جمعها الشاعر ووضع لها عنوان «يافطة» فى صدر الديوان أن نتلمس طريقنا نحو رؤية خاصة للشعر وماهيته،الاقتباس الأول للشاعر بسام حجار والثانى للفيلسوف الألمانى جادامروالثالث للشاعر الأرجنتينى أنطونيو بورشيا، الاقتباسات الثلاثة توحى بوجود آخر غير الوجود المادى المتعين للعالم والأشياء، حيث يجمع الحطب فى القلب بغرض التدفئة فى اقتباس بسام حجار، فأى حطب ذلك الذى فى القلب؟ وفى اقتباس غادامر نجد الندبة التى لا ترى ولا تدرك لكنه يمكن أن تلمس، ندبة غريبة حقا!، والاقتباس الثالث لأنطونيو بورشيا كأنه يقربنا من عمل الشاعر الذى ربما يلجأ إلى عوالم غريبة وكائنات ما ورائية للتغلب على محنة وجوده ككائن مثقل بالوحدة، تتجلى من خلال الاقتباسات الثلاثة رؤية للعالم فى بعده الماورائى، بعلاقات وكائنات ومحددات ميتافيزيقية، تسمو فوق الواقعى الظاهر المتعين بحثا عن الجوهر العميق الماورائي.

 يمكن بسهولة أن نتلمس ما يطرحه الخطاب الشعرى من عوالم ما ورائية، ورؤى ميتافيزيقية فقط من خلال قراءة فهرس عناوين القصائد، من مثل «مسافة نار بين الطين والخزف» أو «أحلام معطوبة فى مقبرة السيارات الصدئة» أو «يد على ظهر مقعد العالم الفارغ» أو «الإقامة مع حيوان غامض» .. الخ، الخطاب الشعرى هنا ليس هو خطاب الواقع بتفاصيله الصغيرة، ورتابته وعاديته، والشاعر هنا ليس هو الإنسان العادى المثقل بوطأة وجوده المتعين المحدود، بل هو خطاب الماوراء، ما وراء الواقع، وما وراء اللغة، والشاعر هنا هو شخص ذو طبيعة تقترب أحيانا من الكائنات الخرافية، العالم الشعرى هنا هو عالم متسع وزاخر بالعلاقات الغريبة التى تختلط فيها الوقائع بالهواجس بالأحلام بالهلاوس، مما يجعلنا نقترب أحيانا من تخوم السيريالية وما تتيحه من فوضى ولا معقولية.


 يطرح الخطاب الشعرى هنا رؤية تأملية للعالم والأشياء، لا نجد عبر هذه الرؤية الأشياء نفسها بل تأملات الشاعر عنها، يكاد يغيب الواقع ولا يتبقى إلا آثاره، تهويمات الشاعر حوله، ها هو يقول أو بالأحرى يكتب: «أكتب وشما بللته النار المقدسة» «أحرس مقبرة مهجورة/ تنعق بداخلها غربان الشعر» «أصنع بحرا/ بحرا بداخلي/ بحجم سفينة/ ترقص فوق حجر بركان» هى محض تأملات تشبه شطحات المتصوفة لكن مع فارق أن الشاعر هنا لا يصدر عن رؤية شمولية ولا يعبر عن عالم مكتمل، إذ تبقى رؤية الشاعر رؤية إنسانية قاصرة لوجود ناقص وعالم يستعصى على الفهم والاستيعاب، يعكس الخطاب الشعرى هنا إحساس الشاعر بضآلته وعدم قدرته على فهم قوانين وغايات هذا الوجود، إلى الحد الذى يجعله يقرر فى لغة محايدة تماما : 
كل ما عشته 
يتهدم
يتهشم
يتهمش
أمامي»
وكأنه يعبر عن إحساس أصيل باللاجدوى، لا جدوى كل شيء، العالم والأشياء، والشعر، واللغة.
 إن الرؤية التأملية للوجود التى يطرحها الخطاب هنا جعلت الشاعر يستخدم لغة مجازية لا تنفلت عن ميراثها الشعرى، بقدر ما تحاول استثمار هذا الاشتباك فى فتح أفق القراءة والتأويل، إن الاشتباك مع التراث الشعرى جعل الشاعر يلجأ إلى مجموعة ضخمة من الأوصاف والتركيبات التى لها أصداء قوية فى التراث الشعرى العربى، من مثل «السنون العجاف» «الأحلام المعطوبة» «بؤس المرايا» «فى كل هذا الخواء ««فى كل هذا الهباء» «النار المقدسة» «روحى الكسيرة» المعجم الشعرى هنا أقرب ما يكون إلى معجم الشعراء السبعينيين فى محاولتهم لقتل اللغة عن طريق تجريبها، إن استخدام هذه التراكيب بتلك الأريحية فى خطاب شعرى جديد ومغاير لهو نوع من التورط فى الرؤية، وكأن الشاعر يقول إن مأساتى هى مأساة كل الشعراء الذين سبقونى، مازال العجز عن فهم هذا العالم الضبابى قائما، وما زالت اللغة قاصرة عن التعبير عن أحلام الشعراء وأوهامهم وهلاوسهم فى غربتها وغرابتها واتساعها.

إن التعبير عن رؤية تأملية نافذة للعالم كما فرض لغة مجازية وتركيبات غريبة فرض أيضا نوعا من التشظى فى طرح المشاعر والأفكار، يمكن ملاحظة هذا التشظى فى الترتيب ( ياللا المفارقة: تشظى فى الترتيب) الذى وضعه الشاعر لجميع مقاطع الديوان، للحد الذى يجعلنا من الممكن أن نسقط عناوين القصائد فى إحدى القراءات، لنجد أننا أمام ثمانية وثمانين مقطعا شعريا، كل منهم يعبر عن إحساس أو فكرة ما، وهنا تسقط الوحدة الموهومة للديوان ككل، ونصبح أمام نصوص متجاورة، وهو ما يردنا إلى طرح كمال أبوديب عن جماليات التجاور فى القصيدة الحديثة، حيث سقطت الذات وحلت محلها مجموعة من اللقطات والتهويمات المفككة المتجاورة، لكن ما كان يقصدة أبوديب بسقوط الذات هو سقوطها كمرجع لتلقى العالم والأشياء حيث حلت العين محلها، وهو ما فرض رؤى مغايرة وتقنيات شعرية جديدة، لكن هل سقطت هنا ذات الشاعر؟ هل حلت العين محلها؟ إن الخطاب الشعرى هنا يتراوح بين الأمرين، بين التأملات الذاتية والتجريدات الذهنية من ناحية وبين مقاربة العالم عن طريق الحواس وخاصة العين من ناحية أخرى، انظر إليه وهو يقول عن الأحلام المعطوبة :
جميعها
تسقط
من شاهق
مثل قطرة ماء
فوق جفن ميت 
إن الشاعر هنا يجسم الأحلام، فيصورها على هيئة قطرة ماء تسقط فوق جفن ميت، لا شك أن اللغة هنا بسيطة لأنها تقريبية، تجسد لنا غير الملموس فى صورة الملموس والمشاهد.
لكن انظر إليه فى موضع آخر يقول: 
اعطنى لو سمحت يا قدرى 
كلمتك الصغيرة
العاشقة للعواصف
أرغب أن أبتعد عن بؤس المرايا
أن أطأ الأيام 
اللحظات 
الأفكار 
أطأ ظلى القديم 
بحثا عن هنيهة متواضعة 
أستلقى تحتها من لظى الوجع
ترى كيف يطأ الإنسان الأيام واللحظات والأفكار؟ لا شك إنها صور تأملية وتجريدات ذهنية تعكس رغبة الشاعر فى تجاوز وجوده المادى المتعين المثقل بالبؤس والخيبة والوجع، ربما يعبر هذا المقطع بشكل كبير عن الرؤية العميقة المتحكمة فى البناء الشعرى، رؤية التجاوز، تجاوز الجسد واللغة والوجود كنسق مغلق.

 تظهر الذاتية فى الخطاب الشعرى كنسق مهيمن بحيث تصبح الذات هى نقطة الانطلاق والمرجع، والذات هنا نراها مثقلة بوطأة الجسد، ضائقة بالوجود المادى، سواء للجسد نفسه أو للعالم فى ماديته، وربما كان هذا الضيق هو الدافع وراء التوق – توق الذات الشاعرة- للعيش مع كائنات أخرى فى عالم آخر، توقها لصنع الأبدية الصغيرة، على حد تعبير الشاعر: «هل أنت قادر على صنع أبديتك الصغيرة/ ببعض من ساعات جسدك الهارب».


إن الذات الشاعرة لا تمل من مراقبة جسدها معبرة عن رغبتها فى التخلص من حدوده وآلامه، انظر إلى هذا المقطع :
تقف مترقبا 
ترى جلدك يتجعد
هى 
إذن 
أيام ذبولك
جلدك هذا خذه
خذه إلى أرض أكثر عطفا
حيث تطفو مسامك 
فى الماء 
فى الأغانى فى الفرح
فى الحياة 
تموت مرة أخرى وتتطحلب 
هى رغبة الشاعر فى حياة أخرى، وجسد آخر، يمكنه هناك أن يكون أكثر حرية ونشاطا، إن ضيق الذات من وطأة الجسد يكاد يكون هو مفتاح الذاتية داخل الديوان، انظر معى عزيزى القاريء إلى هذه العبارات والتراكيب: «لرجل بجلد متجعد» «بلا جلد متجعد» «يدك الشاحبة الطاعنة فى الانكماش» «جسدك الهارب» «قلب ركيك» «يحدث لى ألا أشعر ببدني» ثم انظر كيف يفسر المقطع القادم رغبة الذات فى التحرر من حدود الجسد ووطأة الواقع:
لم تعد رائحة الكتب 
تلزمنى فى شيء
لم تعد تلك التفاصيل
 الحميمية تذكى وجودي
لقد آنست سماء
وغيمة
وطائرا
سأفسر تحليقى 
بما تبقى من ريش الجناح
وهكذا لا تذكى التفاصيل الواقعية الحميمية وجود الشاعر، فالظواهر المادية لا تقدم رؤية حقيقية لهذا العالم، لذا كان بحثه عن أفق جديد للتحليق/ التأويل، عن مفردات مفردات جديدة ( سماء وغيمة وطائر) يمكن أن تكون هى البديل الأكثر انفتاحا فى تأويل هذا الوجود.
هى ذات الرغبة فى التجاز، تجاوز هذا العالم الواقعى المثقل بماديته تعاود الشاعر فى أكثر من موضع وتقوم بدور البنية الفاعلة المولدة لأنماط من التعبير والتقنيات الكتابية، ها هو يقول فى موضع اخر:
أن أمضى 
إلى زقاق هزيل فى السماء
أن أغلق الأسى
وأفتح نفسى كمظلة
تعبت من الإقامة طوال الوقت 
مع هذا الحيوان الغامض
مع هذا الحيوان الغامض
الذى يلتهم حياتى 
بأسنان معدنية 
أريد كلبا 
لا أحبه
كى بلحس كل يوم أخطائى الصائبة

انطلاقا من بنية التجاوز التى افترضتها الدراسة، فإن المجتزأ يشير إلى ذات الرغبة فى التحرر من حدود العالم الواقعى والانطلاق فى السماء بما تحمل المفردة من معانى الحرية والانطلاق، والشاعر إذ تعب وضاق من مادية الواقع فإنه يرضى بأقل القليل، بزقاق لو هزيل فى تلك السماء، فى هذا العالم الجديد المفترض، ولكن ما هذا الحيوان الغامض الذى يلتهم حياة الشعر بقسوة؟ ولماذا يريد أن يستبدله بكلب؟ وكيف تكون أوصاف ذلك الكلب وما هى خصائصة؟ إن الحيوان الغامض هى ذات الشاعر، التى تلومه دائما ولا تسمح له بممارسة حياة الحرية والانطلاق، والكلب هنا كحيوان أليف يمكن أن يكون هو البديل الجديد للذات القاسية، ولا شك أن الغموض هنا يصدر معانى الوحشة ولاغتراب، وفى المقابل فإن الكلب كحيوان أليف سيهادن الشاعر على أخطائه، لن يلومه أو يوبخه، ببساطة سيلحسها له، ولعل وصف الأخطاء بأنها صائبة يعطى المبرر لعملية الاستبدال التى يطمح إليها الشاعر، فالذات التى تبدو كحيوان غامض، هى ذات مدجنة فى ظل ثقافة قمعية، مقيدة للحريات، فهى لا تعترف بأخطائه الإنسانية ولا تحتملها، مع أنها فى وجهة نظره صائبة ويمكن احتمالها. 


 إن رغبة الذات فى التجاوز هى رحلة بحثها عن الحقيقة، حقيقة هذا الوجود المادى، فالذات تبحث عن المعنى، ولتلخيص هذا الموقف يلجأ الشاعر إلى تجسيد هذا المعنى فى النص الأخير «طارق الصوانى النحاسية»، إذ يشبه قلب الرجل بصينية نحاسية، وبغض النظر عن المعنى الثقافى فى اختيارة لفظة رجل ومدى تساوقها مع الربط الثقافى بين الرجولة والبحث عن الحقيقة، فإن الشاعر يشبه البحث فى القلب بالحفر فى هذه الصينية النحاسية بمطرقة وإزميل، فالقلب صينية نحاسية ملساء بلا حقائق أو معان، فيبدأ الرجل بالحفر فيه /فيها لاستخراج المعنى، «لبناء مسار جديد» هى رحلة البحث عن الحقيقة «للنزول إلى نهر الأعماق» حيث الحقائق والمعاني» فثلما فعلت إنانا (عشتار) فى نزولها إلى العالم السفلى، هى الرغبة ببداية جديدة، أو «الفجر» على حد قول الشاعر، فالحلم بالفجر هو «الحاجة الملحاحة لبداية جديدة».


 لقد حاولت فى الفقرات السابقة أن أنفذ إلى بعض المعانى التى افترضها الخطاب الشعرى للديوان فى انفتاحه على أطر مرجعية لجنس قصيدة النثر، فاتخذت من النسق الشعرى فى الخطاب السبعينى تكأة للولوج إلى بنية القصيدة/ التجاوز ولا شك أن رغبة التجاوز هى أحد المنطلقات الأساسية للرؤية الشعرية فى النص السبعينى وربما كانت هى الدافع الأساسى فى اللجوء إلى التجريب اللغوى، ومن ثم التجريد الذهنى الذى أدى إلى استغلاق النص أحيانا، لكن بينت أيضا أن قصيدة العسرى هنا لها خصوصية ما واختلاف واضح عن النص السبعينى، سواء فى اللغة والتراكيب أو فى بنية النصوص التى بدت أكثر تماسكا وكذلك أكثر تعالقا بالواقع، مقارنة بالنص السبعينى الضارب بعمق فى غياهب الميتافيزيقا. 

الرواية من كتاب: المقر الجديد لبائع الطيور، للمؤلف: عمر العسرى

اقرأ ايضا | ثقافة بني سويف تحتفل باليوم العالمي للشعر

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة