شيرين هلال
شيرين هلال


رفقا بالسودان

بوابة أخبار اليوم

الأربعاء، 27 أبريل 2022 - 09:47 م

بقلم: شيرين هلال

ذلك البلد الجميل الذي لم يعرف الاستقرار السياسي منذ حصوله على الاستقلال عام  1956 وتعاقبت عليه أنظمة حكم مختلفة من قوى مدنية وعسكرية ، ساهمت جميعها في إفقار أبنائه ، وتشويه واقعه ، وإهدار موارده. لكن الطامَّةَ  الأخيرة في حكم الاخوان المسلمين ، متمثلة في نظام البشير البائد كانت بحق الطامة الكبرى. 

وحتى بعد خروج البشير وعصابته من السلطة في 2019 لم تنعم البلاد بالهدوء ولم تعرف الإستقرار السياسي و نحن الآن نقترب من منتصف 2022.

أصبح السودان عبارة عن عدد من القلاع الحصينة التي يتمترس بداخلها كل طرف من أطراف الحكم بالبلاد. 

أبرز هؤلاء المتمترسين هم: رئيس مجلس السيادة السوداني وزعيم المكون العسكري في السلطة،  الفريق عبدالفتاح البرهان ، متمرس في موقعه قابض على جمر من عدم الإستقرار والسيولة الأمنية من جهة،  والقوى السياسية المتعددة،  ونتحدث عن قوى الحرية والتغيير التي قادت الثورة ثم حدث بها انشقاقات،  وأيضا لا نستبعد لجان المقاومة الشعبية هى الأخرى الرافضة لتكوين تشكيلات سياسية. 

التاريخ اليوم يصرخ بفعل استباقي!  (الأمانة والمسؤولية تجاه السودان تقتضي منكم تقديم مشروع لمستقبل السودان ) خصوصاً  وأن المكون العسكري بكل أطرافه (عبد الفتاح البرهان وجيشه النظامي أو حميدتي بقوات الدعم السريع) رقابهم مطلوبة وغير آمنين على مستقبلهم. 

مطلوب من القوى السياسية صياغة أجندة التخارج من الشراكة الفاتكة للسلطة والبلاد،  والتي لم تحقق أي نوع من الاستقرار على مدار 3 أعوام.

المتابع للمشهد السوداني، سيلاحظ أن جميع القوى السودانية متمرسة حول سيناريوهات الإطاحة بالعسكريين والقصاص للشهداء، متناسين ضرورة الالتفات لحال الأحياء في البلاد. يحدث هذا كله في ظل غياهب شراكة في السلطة لم تعد فاعلة أو مقبولة  من الشارع، بل يزيد سخطها لترفع سقف مطالبها. 

يحدث هذا بدلا من التفكير في الخروج من هذه المعضلة وتقديم مصلحة السودان ومستقبله على أي طلبات حتى لو كانت تخص القصاص للشهداء، الذي أصبح مطلبا غير قابل للتحقيق في ظل العنف والتصعيد وغياب المواءمات السياسية التي تمهد لوضع سياسي يحقق العدالة المنشودة.

انطلاقا من هذا المشهد المتأزم، لابد من التفكير الجدي والسريع في كيفية تقديم ضمان بخروج آمن من السلطة للمؤسسة العسكرية، أو على الأقل الشق الشرعي منها وهو النظامي المتمثل في الفريق البرهان ورجاله. ذلك العرض يضمن تأمين فرض الشرعية المدعومة بسلاح الجيش الوطني، والتي من شأنها بسط الإتفاق على باقي الأطراف المحركة للغليان داخل الشارع السوداني. 

وفي حالة الوصول إلى الخروج المقبول بمعادلة تحقق لجميع الأطراف شيء من المكاسب ، ستشهد السودان حلحلة للوضع المتجمد. وفي حال لم تحدث تلك الخطوات بوتيرة سريعة ستظل المواجهة المفتوحة بين القوى السياسية والمقاومة الشعبية للشارع المشتعل والسلطة العسكرية دائمة وغير قابلة للحل.

التيار المدني والحركات الشعبية تُحَمِّل المُكون العسكري مسؤولية دماء الشهداء منفردة ، وترفض تخفيف أحمالها حتى تعبر النهر على جسور الثقة المتهالكة. 

فهناك ثقة غائبة بين تجمع الحرية والتغيير ، وحتى داخل تجمع المهنيين وبطبيعة الحال بينهم جميعا والقوى الشعبية في الشارع. وللأسف كلهم على إتفاق شديد علي ضرورة تصدير الجموع الى الشوارع وهى نفس القوى المدنية الغير قادرة على إتمام رؤية موحدة فيما بينها،  لكن مجتمعة على تبني نظرية المؤامرة الداخلية و الخارجية ، وتتناسى أن هذا التفاسخ فيما بينها يعطي شرعية البقاء للعسكريين في السلطة ويمهد لكثير من الفرص للقوى الخارجية لتمرير أجندتها عبر مسميات الوساطة الملائكية.

لا يستطيع منظرو السياسة تفسير تخلي النخب السياسية السودانية عن أدبيات صناعتها في ظل هذه الأزمة والتي تشترط القدرة على مرونة التموضع والخفة في صياغة البدائل للوصول إلى الأهداف. 

كما أن التخلي عن دورها والدفع بضغط الشارع لا يعد وحده ضمانا لثقل موقفها في ميزان القوة على مائدة المفاوضات. 

كما لا يغفل أحد المعادلة السياسية الشهيرة التي تقول :- كلما طال أمد الصراع كلما تعقدت سبل حله…كما أن الاحتكام للشارع واستنزاف الوقت هو استنزاف لجسد السودان النازف بالأساس ، ويعد بمثابة جريمة دوارة سوف تدور دورتها القصيرة لكونها هى ذاتها المحركة لجماهير الشارع ، لكن هذه المرة ستتحرك ضدكم من شعب أعطاكم الثقة وخذلتموه بقصر رؤيتكم أيها النُخب السياسية . أنتم قوم متنوعون في التكوين والأهداف والمقاصد ووصولكم لصيغة اتفاق فيما بينكم هي بطاقة حصولكم على الإعتراف بأحقيتكم في الحديث بإسم السودان ونخبتها.

كما أنكم تصرون على تصدير الأزمات للإقتصاد السوداني الذي يعاني بالفعل ، وليس من مصلحة أحد غلق طرق أو قطع طرق تؤذون بها أصحاب مهن ومواطنين يسعون لكسب العيش وقد لا يجدوا قوت يومهم لدرجة  المجاعات ، بحجة الضغط على المكون العسكري لتسليم السلطة. وهذا التصرف نابع من خطابكم السياسي النمطي الذي يشوه ويتهم الجميع من القوى الدولية وخصوصا الإقليمية ، والتي يصر المكون المدني على إيهام الشعب السوداني أنها السبب الرئيسي وراء تراجع تقدم السودان. 

أصبح ذلك الخطاب مثل العلكة بلا سكر لا يستسيغها فم عاقل ولا يتذوقها فم بطن جائع . 

وما يزيد الأمور استفحالا هو تثبيت نمط الرؤية الصراعية مع دول الإقليم في هذه الفترة  لن تخبز رغيفا ولا تزرع قمحة. كيف لنخبة سياسية تتبنى وتساهم في خراب اقتصاد بلدها بالشائعات أن تكون مدركة لخطورة التحدي وقادرة على هندسة حلولا استراتيجية لأزمة وطن بحجم السودان؟! 

وعندما نشير للقوى الاقليمية هنا فأنتم تخصون بالذكر مصر والمملكة السعودية ودولة الإمارات ، ونخص نحن مصر (بمثال)  ندلل به على اعوجاج منطق النخبة ودمجها لمشاكل داخلية مع علاقات دولة جار بالأهمية للسودان بمكان أنها تصنف حجر زاوية وأثبتت الأزمات المتتالية صدق هذا التصنيف ، راح المكون المدني ينفخ في كير اشتعال الغضب الشعبي الذي قطع الطريق الشمالي البري بين مصر والسودان على أثر مشكلة ارتفاع اسعار الكهرباء،  وبالتالي حرمان السودان من تجارة اللحوم التي تعتبر عصب النشاط التجاري في البلاد، فلم يكن خاسرا في تلك المساعي سوي الإقتصاد الأضعف وهو اقتصاد السودان بشهادة خبراء الاقتصاد السودانيون. في حين أن مصر كانت حاضرة بالدعم اقتصاديا و عسكريا أيضا برغم محدودية مواردها.

ومن باب الأمثلة الاقتصادية:- فمصر تبرعت بمخابز آلية للسودان ومواد إيواء ومستلزمات طبية بعد فيضان أغسطس 2020 و قدمت جسرا جويا من 9 طائرات يحمل أدوية ووسائل خاصة بالإغاثة للذين تأثروا بالسيول، ضمت أغطية وخيام وأجهزة طبية وأدوية، وكلها من المستلزمات الخاصة بالعون الإنسانيّ. كما قدمت القاهرة للخرطوم العون في مجال البنية التحتية مثل الطرق و السكك الحديدية و الطيران ، بخلاف المشروعات الزراعية والربط الكهربائي بين البلدين. 

وعلى الصعيد العسكري فكانت مصر هى من أمدت السودان بالتدريب والتأهيل العسكري من خلال مناوراتها العسكرية المختلفة مثل نسور النيل 1 و 2 وحماة النيل. كما كانت للجسور المعدنية التي أمدت مصر بها السودان الفضل الأكبر في تمكن الجيش السوداني من استرداد منطقة الفشقة الخصيبة بالكامل في فترة فيضان نهر سيتيت من قبائل الأمهرا المدعومة من الجيش الإثيوبي و التي استولت عليها لأكثر من عشرين عاما.

بعد فشل حكومة الدكتور عبدالله حمدوك المُشكلة من ائتلافات التيار المدني المختلفة في جمع التمويل والدعم اللازم في مؤتمر شركاء السودان الذي كان آخر دورات انعقاده الثلاث في برلين يونيو 2020 عبر تقنية الفيديو كونفرانس بمشاركة 50 ممثلاً للدول والمؤسسات، لكن المانحيين الدوليين قبضوا أيديهم، وطالبوا بمزيد من الشفافية بشأن تقارير الإنفاق العام والعسكري واشترطوا الإلتزام بخطة إصلاح اقتصادي صارمة وإلغاء دعم الوقود الذي كانت تقدر تكلفته بنحو 3.5 مليار دولار سنويا، فلم تستطع الحكومة الاستجابة نظرا لضغوط التيارات المدنية وخصوصا اليسارية منها التي كانت تضغط لكي تركز الحكومة على استعادة أموال السودان المهربة بالخارج ، وتلك المتراكمة لدى الأجهزة الأمنية السودانية بفعل فساد نظام البشير . فلا استطاع السودان الحصول على قبول المجتمع الدولي ولا حقق أمن إقتصادي أو حتى إنساني، بسبب ارتفاع أصوات التيارات المختلفة على مصالحه.

فتصدرت الدولة المصرية لتقديم السودان للمجتمع الدولي ما بعد الثورة كشريك لا بديل عنه لتحقيق السلام والرخاء في افريقيا.  
كانت المساهمة المصرية هى الأسبق فى عملية إدماج السودان فى المجتمع الدولى ، والاستفادة من فرص التمويل المختلفة التى تساند جهود الدولة السودانية فى تحقيق التنمية الاقتصادية ومعالجة المشكلات الهيكلية المتراكمة منذ سنوات طويلة. وقد كان مؤتمر باريس الذي عقد في مايو 2021 ابلغ مشهد يعبر عن هذا الدعم والمساندة بوضوح ، حيث قدم الرئيس المصري عبدالفتاح السيسى دعما كبيرا للسودان من خلال خطاب قوى كما ساند السودان لدى مؤسسات التمويل الدولية بما سمح بحصولها على إعفاء من ديونها وفقا لبرنامج «هيبك» لإعفاء الدول المثقلة بالديون بسبب جائحة كورونا.

ومع كل هذا التكتل على تقديم العون للسودان من مصر، كان هناك تكتلا موازيا من التيارات المدنية لقيادة الرأي العام لشيطنة الدور المصري وإتلاف محاولات التقارب الاستراتيجي بين الجارتين.

وبالقياس على ما سبق لابد أن نستخرج المستفيد الأول من الإبقاء على حالة التشرذم بين أبناء البلد الواحد وإضعاف جبهة السودان الداخلية من ناحية،  وإفساد أي تعاون مثمر بين مصر والسودان من جهة أخرى، لنجد أنفسنا أمام المستفيد الحقيقي وهي أثيوبيا. وظل موقف السودان متأرجحا وسط الخلاف الطويل بين مصر وإثيوبيا بشأن سد النهضة الأثيوبي، ولكن ظهر مؤخرا تحول مهم في لغة السودان التي يستخدمها في مفاوضات سد النهضة الإثيوبي من الدعم الممتد إلى الرفض والعدائية. انطلق هذا التحول من التأثير المتزايد للجيش على الحكومة الانتقالية، التي كانت تتماهى مع المصالح الإثيوبية برغم التحذيرات والتداعيات الخطيرة الناجمة عن ذلك ودعمها في ذلك الطرح بعض التيارات المدنية نكاية في مصر والمكون العسكري في آن واحد، وامتد الأمر لحد تسويقه لجموع الشارع السوداني الغاضبة مستغلين حالة الاستقطاب الواسعة ضد الجيش.

سنجد أن إثيوبيا كانت الخاسر الأكبر من التقارب المصري السوداني مؤخرا في أهم ملفين لها في هذا التوقيت بالخصوص. أولا:- بعودة السودان لتولي مقاليد أمره في ملف السد وتمتعه باستقلالية القرار الذي ينبع من الحفاظ على مصالحه، بعيدا عن التأثير الإثيوبي والعلاقات الصراعية التي أسست لها في منطقة شرق افريقيا، خسرت ما يمثل نحو 30% من صلابة موقفها على مائدة المفاوضات كما حددها المحللون والخبراء السياسيون، لذلك كان لزاما على إثيوبيا تأجيج عوامل الصراع باستخدام الدعاية الكاذبة عن طبيعة العلاقات المصرية السودانية للوصول إلى استعداء السودان على مصر أو تحييد موقفها على أفضل تقدير للحفاظ على كفتها بالإضافة إلى كفة السودان. ثانيا:-  وهى لا تقل أهمية عن سابقتها موضوع أرض الفشقة الخصبة والتي ظلت تحت حوزة إثيوبيا بالإتفاق مع البشير والتي استفادت منها قبائل الأمهرا مستنزفين أراضي السودان وموارده المائية بدون تعويض لما يزيد عن عشرين عاما ، ولولا المساعدات العسكرية المصرية التي ذكرناها سابقا ، لما استطاع السودان احكام سيطرته عليها. تلك الفشقة التي اشترطت أديس أبابا على الخرطوم إعادتها للسيادة الإثيوبية بعد تحريرها، لقبول وساطة أجنبية في مفاوضات السد والحدود معا، وقوبلت بالرفض الشديد من الجانب السوداني.

أما بعد استعراض كل ما سبق يتبقى لنا بضع اسئلة هامة: إلى أي مدى ممكن أن يتفهم التيار المدني السوداني حجم أعباءه وصعوبة أوضاع بلاده؟ ومتى يتمكن من تغليب مصلحة الوطن العليا على مصالحه الضيقة في تولي المناصب وتشكيل الوزارات؟ مَن من بينهم ممكن أن يحمل لواء المبادرة لحل الأزمة وصياغة المستقبل السوداني؟ وكيف يمكن أن يتنازل عن خطاب نمطي تآمري تجاه الجميع ما عدا إثيوبيا!!

وبعد كل هذه الأسئلة .... رفقا بالسودان

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة