الأب وليم سيدهم
الأب وليم سيدهم


ابن رشد ومار أغناطيوس وأنوار الإيمان

أخبار الأدب

السبت، 14 مايو 2022 - 03:39 م

بقلم : وليد الخشاب

كتب الأب وليم سيدهم ابن الرهبانية اليسوعية أطروحة عن إشكالية التأويل عند ابن رشد منذ ما يزيد عن أربعين عاما. لكنها إلى الآن ما زالت تتمتع بحيوية مذهلة وراهنية مدهشة، عاد ابن رشد لاحتلال مكانة بارزة فى الفضاء العام العربى منذ السبعينات، على الأرجح لأنه يمثل تياراً فكرياً يقف على النقيض من الأصولية السلفية، والتى كانت قد بدأت آنذاك فى توفير المداد الفكرى للتيار الحركى فى اليمين المتطرف المسلم بالعالم العربى. سواء سمينا هذا اليمين المتطرف سلفية جهادية، أو تياراً محافظاً دينياً، أو حتى استخدمنا تسميات أخرى، فإن الصعود الصاروخى لهذا اليمين المتطرف قد تأكد بلا شك غداة هزيمة الجيوش العربية فى مواجهة إسرائيل عام 1967. 

لدى ابن رشد، لا ينحى الفيلسوف عالم الدين. بل يميز بين منهجين وغايتين: للفقيه أن يفسر باستخدام القياس المنطقى لينتج شرائع تلتزم روح النص المقدس، وللفيلسوف أن يفسر، واضعاً نصب عينيه طبيعة المعنى المزدوجة: ظاهرية وباطنية، سعياً للوصول إلى الحقيقة.

منذئذ وقد صار أبو الوليد بن رشد بالنسبة للعديد من المثقفين العرب والمسلمين رائداً مستعاداً للتنوير العربي. فالواقع أن مجمل أعماله يشهد بأنه امتداد لتراث طويل يتسم بالعقلانية التى لا تناقض الإيمان. فمع إعلائه من شأن العقلانية، ظل ابن رشد يحترم الإيمان أبلغ احترام، دون أن يجعل منه أداة أيديولوجية لمناهضة الدولة تتخذ موقفاً متطرفاً، وهو الموقف الذى يتبناه اليوم اليمين المتطرف المسلم.


يمكننا اعتبار رسالة الأب وليم سيدهم واحدةً من بواكير المجهودات الفكرية التى بذلها العرب المنحازون إلى أنوار العقل، لا سيما بين المنتمين إلى التيارات الحريصة على التناغم بين العقيدة والعقل. لكن بوسعنا أيضاً أن نرى فيها إعمالا للتجديد فى قلب الإنتاج النظرى الكاثوليكى نفسه، ومساهمة فى تأسيس تأويلية جديدة. كما أن الأب وليم واحد من كبار المتخصصين فى لاهوت التحرير، فإنه يبدو وكأنه يرسى قواعد تأويل التحرير، أو -على الأقل- تحرير التأويل. 


منذ الصفحات الأولى بمقدمة رسالته، يذكرنا الأب وليم بأوجه التشابه بين فكر ابن رشد وفكر القديس أغناطيوس دى لويولا مؤسس الرهبنة اليسوعية، من حيث استدعاء العنصر الباطنى فى تأويل النصوص المقدسة، بوصفه قاعدة يمليها توخى الحذر. يؤسس الأب وليم بذلك حرية التأويل حيال النص المقدس، إذ يلفت الأنظار لغياب المرجعية المهيمنة دلالياً وغياب مفهوم الأسرار المقدسة فى فكر فيلسوف قرطبة. فالمؤول الرشدى يستطيع تجنب الامتثال للمرجعية المؤسسية المهيمنة دلالياً.


ليس على المؤول أن يلتزم بالإجماع أو باتفاق جميع آراء المفسرين فى رأى ابن رشد،وهو الذى يرفض الانصياع للإجماع. إن مشروع ابن رشد -كما يشرحه الأب وليم- يؤسس أسبقية العقل فى تفسير النصوص المقدسة، دون أن يزرع الشك حول سلطة تلك النصوص واقترانها بالحق. بإعادته الاعتبار لإيمان ابن رشد، وتأكيده على موقفه المعرفى الذى يعلى من شأن العقل، يتخذ الأب وليم أيضا موقفا جذريا بين الخطابات حول النصوص المقدسة فى دائرة المؤسسات الكاثوليكية.


بدحضه فرضية الإلحاد العقلانى المزعوم عند ابن رشد، يخاطب الأب وليم سواءً بسواء كلاً من التراث الأوروبى الكاثوليكى والتراث العلمانى العربى الذى يجتبى عقلانية ابن رشد المفعمة بالإيمان. فى نظر الباحث المدقق، ليس هناك أدنى شك فى ابتعاد نصوص ابن رشد عن الإلحاد، إنما تعود الأصول الأوروبية لتلك الأطروحة إلى العصور الوسطى، ويحركها هاجس التمايز عن النزعة التأويلية العربية المسلمة المستنيرة.

 

ودمغها بالكفر. إذ يعيد الاعتبار لإيمان ابن رشد، يرسى الأب وليم قاعدةً تسمح باستعادة مفهوم الإبداع، فى مقابل التراث الراسخ للمرجعية الدلالية المهيمنة. بعبارة أخرى، هو يؤسس إمكانية إنتاج تأويلات جديدة للنص، حتى وإن خالفت المرجعية. وبتأكيده على التعريف المقيد للتأويل وعلى اتسامه بقدر عالٍ من الحرفية، يذكرنا الأب وليم أن التحرر من التراث التأويلى، والإبداع الذى يتمثل فى طرح تفسير جديد، أو ببساطة، دلالة جديدة للنص، ليسا بالضرورة عملية لا إيمانية أو معادية للدين. يظل التأويل الرشدى يحترم الدين، من حيث إخلاصه لمادة النص الملموسة، ولحرفه، بل كذلك من حيث حرصه على الحفاظ على التدين. وبالمعنى الحرفى للأصل اللاتينى للكلمة، فالتدين (ريليجيارى) هو الرابطة الملية فى الإيمان، أى ما يربط (بين البشر بعضهم ببعض).

 

ليس هذا مجال تأويل أطروحة الأب وليم ومناقشة احتمال أو عدم احتمال وقوع القديس أغناطيوس دى لويولا مؤسس الرهبنة اليسوعية تحت تأثير ابن رشد. المؤكد هو أن ابن رشد قد شدد على أولوية العقل فى تفسير النص المقدس كما فعل القديس أغناطيوس، وأن كليهما كان فى نظر الكنيسة متطرفا فى تحرره. بيد أن تحليل الرشدية يسمح بفتح حوار حول السلطة المطلقة التى يتمتع بها الكهنوت فى مجال اللاهوت أو الإلهيات بالمعنى العام والشامل للكلمة، سواء كان اللاهوت مسلما، أو مسيحيا، أو يهوديا.



بصرامة منهجية يلجأ المؤلف إلى التحليل اللغوى الدقيق لنص ابن رشد العمدة: «فصل المقال». وهو يرفع الستار عن المكانة التى يضع فيها ابن رشد فاعلية الفيلسوف إذ يؤول النص المقدس، وهى مكانة الذات الفاعلة بحق، بأقوى معانى الكلمة. إن «ذات الناطق (الفيلسوف) المتخفى خلف الفكر «البرهانى» تحتل مكانة سامقة فى إنتاج المعنى بوصفه معطى محايثاً لا يحتاج إلى أدنى تبرير. بيد أن فيلسوف قرطبة لا يقترح أن تحل منظومة الفلسفة المعرفية والمنهجية محل منظومة التفسير والفقه التقليديين، ولا أن يحل الفيلسوف محل الفقيه. فهو يقر للفقيه بدوره وبارتكانه إلى القياس الشرعى ليفكر فى أمر غير مذكور صراحة فى النص المقدس. لكن من هذا المنطلق نفسه، يعيد ابن رشد الاعتبار لدور التأويل بوصفه تفسيراً يقر أن لنص الوحى معنيين، أحدهما ظاهرى، والآخر باطنى. ويختتم الأب وليم تحليله بالتأكيد على أن التفكير البرهانى ليس إلا خلاصة تقاليد موجودة بالفعل فى الإسلام (تقاليد شرعية وصوفية وفلسفية) تعرضت للتهميش لصالح احتكار الفقهاء للتأويل.


لدى ابن رشد، لا ينحى الفيلسوف عالم الدين. بل يميز بين منهجين وغايتين: للفقيه أن يفسر باستخدام القياس المنطقى لينتج شرائع تلتزم روح النص المقدس، وللفيلسوف أن يفسر، واضعا نصب عينيه طبيعة المعنى المزدوجة: ظاهرية وباطنية، سعياً للوصول إلى الحقيقة.

بمرحلة مبكرة جداً فى حقل الدراسات الإسلامية، يعود الفضل للأب وليم فى التأكيد على فاعلية فكر ابن رشد بوصفه «عبوراً» قيماً بين ضفتين. فهو لا يسعى لإثبات عقلانية فيلسوف قرطبة ولا حرفيته، بل يرمى إلى إعادة إحياء التأويل الرشدى بوصفه»منهجية» وجسراً بين الماضى والحاضر «بالنظر إلى الانفتاح على مستقبل أكثر استنارة لا أكثر إظلاماً» كما يكتب المؤلف. وهو يختتم تحليله ل «فصل المقال» لابن رشد بتذكيرنا بمعلم مجدد تجديدا جذريا فى منهجه نفسه. يؤكد الأب اليسوعى راهنية ابن رشد ووجاهة منهجه التأويلى إلى اليوم. وهو إلى ذلك يعيد تجذير ذلك المنهج -ليس فقط بوصفه مجرد دينامية نشطة تميز ما هو شرعى عما هو فلسفي، وتوفق بينهما فى آن- بل هو أيضاً يؤكد أن ابن رشد يطرح بنهجه نموذجاً يزيل المواجهة (التى يصفها بالتناطح) بين الثقافة المسلمة والثقافات الأخرى، لا سيما الثقافة الإغريقية. لا يستخدم الأب وليم مصطلحى «تفاعل الثقافات» أو «تعدد الثقافات»، بيد أنه يفتح الطريق نحو قراءة متعددة الثقافات لمنجز ابن رشد، وذلك عدة سنوات قبل أن تصبح تلك المصطلحات رائجة فى فرنسا.


يمثل الفعل الفكرى والمعرفى الذى أتاه ابن الرهبانية اليسوعية إعمالاً لذلك الفكر متعدد الثقافات. فهو فخور بعروبة ثقافته نفسها -بعيدا عن الطوائف- وهو بذلك ينضم إلى سلسلة طويلة من مفكرى النهضة العربية -مسيحيين ومسلمين- درسوا ابن رشد، وهى سلسلة يعود الأب وليم بأصلها إلى فرح أنطون، المنظر البارز للعلمانية العربية.

اقرأ أيضا | مشاهد تنبض فى ذاكرة مثقوبة| إعادة اكتشاف الوزير الأديب أحمد جمال الدين موسى

 

 

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 

مشاركة