علاء عبد الوهاب
علاء عبد الوهاب


يوميات الأخبار

دعوة للتأمل فى «عقاب جميل» !

علاء عبدالوهاب

الثلاثاء، 17 مايو 2022 - 07:32 م

بلغة أهل الفقه، القاضية هنا لجأت إلى ما هو أقرب إلى «التعزير»، فالقاضى حين لجوئه إلى عقاب متهم بما دون الحد الشرعى، يكون هدفه التأديب، وفى ذلك نوع من العلاج.

يالها من مفارقة. عقوبة تتسم بالجمال!


 وكما نعرف، فإن الشيء الجميل كما تقول المعاجم، ما يبعث فى النفس السرور والرضا، فكيف للإنسان ألا يجزع حين يُعاقب؟


 ليس فى الأمر لغز، فحين يستبدل القاضى عقاباً بالحبس أو الغرامة، بإلزام المخطئ خطأ عظيما، بأن يحفظ سورة من سور القرآن الكريم، فلاشك أن وصف حكم القاضى، أو ما أنزله من عقاب بـ «الجميل» لا يحمل مبالغة بأى حال.


 إذا علمنا أن القاضى، أو بدقة القاضية التى نظرت القضية مسيحية، وأن المتهمين أمامها ثلاثة من الشباب المسلم، فلاشك أن الأمر يدفع باتجاه التأمل والتفكر فى المشهد الذى كان مسرحه لبنان الشقيق، فى محاولة لاستشفاف ما يتجاوز الظاهر إلى ما وراءه.


أصل الحكاية


 يبدأ الحدث بواقعة مؤسفة، أبطالها أو المتهمون فيها تورطوا ـ عبر مواقع التواصل الاجتماعى ـ فى الإساءة للسيدة مريم العذراء بتأثير وقوعهم فى براثن دعوات غبية، يزعم من يروجها أنها من الإسلام، وهو براء منها.


 مثل الثلاثة أمام القاضية چوسلين متى، فلم تحكم بموجب قانون العقوبات ومواده التى تقودهم للسجن، أو على الأقل الغرامة، لكن المفاجأة أنها حكمت عليهم بحفظ سورة آل عمران، وأمهلتهم حتى حفظوها، ثم عادوا للمثول أمامها ليتلوها، فأصدرت حكمها النهائى بإطلاق سراحهم.

تلك هى الحكاية باختصار، أتمنى ألا يكون مخلاً.


 ليس مدحاً.. وإنما


 تعلمنا ألا نعقب على أحكام القضاء، لا مدحاً ولا قدحاً، ولكن تأمل ما حدث وتقليبه على وجوهه، أمر واجب لاستخلاص العبرة، فضلاً عن الوصول لأغوار ما وقع، بتجاوز القشرة الخارجية للمشهد، والنفاذ إلى الجوهر الذى يتضمنه.


 كان من السهل على القاضية أن تلجأ إلى المواد الملائمة لتطبيقها، ثم الانصراف إلى باقى القضايا فى «الرول»، لكن ما حدث أن ثمة قراءة واعية للواقع، ومن ثم تفاعل مع واقعة محددة، والاجتهاد لتوليد حكم يوافق مقتضياتها.


 وبلغة أهل الفقه، فالقاضية هنا لجأت إلى ما هو أقرب إلى «التعزير»، فالقاضى حين لجوئه إلى عقاب متهم بما دون الحد الشرعى، يكون هدفه التأديب، وفى ذلك نوع من العلاج الذى يعين المرء بتجاوز عثرته بأكثر مما يكسره، لاسيما إذا كان وعيه متدنياً، ولا يدرك خطورة ما اقترفه.


 كان الأسلم والأسهل أن تتنحى القاضية عن نظر الواقعة ـ من الأساس ـ دفعاً للحرج، لكن حكمتها قبل تلمسها للعدل، جعلتها تنقب عن البذرة الصالحة فى الشباب المغرر بهم لتنهض بأرواحهم، وتعيدهم إلى جادة الصواب.


 ثم أنها أعملت ذوقها القانونى المدرب، مؤكدة أنه لا فصل بين النظام القانونى والنسق الأخلاقى المرتبط بجوهر الدين.


 هكذا قرأت الحدث، وأداء بطلته، فماذا عما أسفر عنه مزيد من التأمل والتفكر؟


لبنان بخير


 للبنان مكانة فى القلب غالية.


 من ثم، فإن ما يمر به يثير مخاوف كل عربى غيور على وطنه الأكبر، وكاتب هذه السطور عروبى لا يخفى هويته فى نطاقها الأوسع.


 وعندما يأتى من لبنان خبر لا يكذب، يهدئ من روع أمثالى ممن يرون فى هذا القطر العربى صيغة يجب الحرص على النأى بها عن أى عواصف، فإنه يحتفى بالخبر، ويتمنى ألا يكون استثناء، وأن لبنان لابد أن يكون دائماً بخير.


 ما حدث فى ساحة القضاء، يؤكد أن لبنان وطن واحد، وأن ثمة مساواة بين المواطنين أمام القضاء، وأن إدراك الهوية لا ينافى أو يتعارض مع الشعور بالانتماء فى ظل تعددية يجب تثمينها ميزة لا نقيصة، مادام هناك من يصر على التلاقى ضمانة لاحترام الآخر، إنسانيته ورأيه وعقيدته و...و...


العودة للجذور


 مزيد من التأمل للمشهد، يقود العقل إلى العودة للجذور.


 المشرق العربى، ولبنان فى إطاره، كان منطلقاً، وحاضناً للفكرة القومية، ثم كان ثمة وعى أصيل باختلاط التاريخ العربى بالتاريخ الإسلامى، ليقدم منتجاً نهائياً يتمثل فى «الإسلام الحضارى» الذى يلقى بمظلته الفضفاضة على من يعيشون تحت سماء الوطن الأكبر من المحيط للخليج.


 مفكرون، منظرون، مبدعون، من سوريا ولبنان وفلسطين، قرأ لهم جيلى، وكانت أعمالهم تفيض برؤى ومشاعر تصب فى نهر القومية العربية، وكان كثيرون منهم مسيحيين على تعدد طوائفهم ، كانت فكرة «الإسلام الحضارى» واضحة وضوح الشمس فى أذهانهم، وضمائرهم.


 وأذكر أننى قرأت فى بواكير الشباب للدكتور قسطنطين رزيق، وكان يوماً مديراً لجامعة لدمش كتابه «الوعى القومى» الذى احتفى فيه بنبى الإسلام ورسالته، ورصد أثر الإسلام البالغ فى كافة نواحى الثقافة العربية، بل نصح كل عربى، ورأى أن من واجبه بصرف النظر عن معتقده الدينى أن يدرس الإسلام، ورسوله من زاوية أنه موجه للعرب وجامع شملهم.


 وأظن أن هذه الريح الطيبة، هبت على عقل أمثال القاضية جوسلين متى، وتيار عريض تجاوز حدود المذهب والطائفة.


حواجز لا تواصل


 عدت مرة أخرى لتأملاتى فى الواقعة، وأن أحداثها قبل الوصول لساحة القضاء كان مسرحها مواقع «التواصل الاجتماعى».  تساءلت: إلى أى مدى فعلاً يصدق هذا الوصف على تلك المواقع؟ وهل هى فعلاً «اسم على مسمى» أم أن العكس هو الصحيح؟


 إن كثيراً منها يقيم الحواجز والسدود، بدلاً من كونها فضاء للتواصل الإيجابى، بل أرى أنها تكرس لأنواع سلبية من الخطاب، بعضها عنصرى، وآخر تكفيرى، وثالث للكراهية والتعصب، ورابع ينتهك مبادئ المواطنة السليمة و.. و...و....


وفى غيبة الوعى، وتمدد بعض التيارات الظلامية، واستمرار استثمارها للفضاء الإليكترونى فى بث سمومها، فلا غرابة أن تنتج شباباً لا يفقهون صحيح دينهم.


 وفى ظل فهم قاصر لحرية التعبير، ترتكب جرائم فى حق الأديان، وحقوق الآخر، ويتم تجاوز الكثير من القيم، والمساس بالمقدسات، التى يتم التصور بالخطأ أنها تخص «الآخر» بينما هى من صميم مقدسات المسلم، والسيدة مريم العذراء هى سيدة نساء العالمين بنص آيات القرآن الكريم، فقد اصطفاها الله وطهرها، واختصها بمعجزة لم ولن تتكرر منذ بدء الخليقة، وحتى قيام الساعة، فهل كان يعى هؤلاء الثلاثة تلك المكانة وهذه المنزلة؟


 على مدى حياتى، لاحظت أن الأسر المسلمة تطلق على بناتها اسم «مريم» بأكثر من الأسر المسيحية فى محيط الجيران والمعارف والأصدقاء.
مجرد ملاحظة عابرة.


لماذا سورة آل عمران؟


 من جديد، أعود لتأمل جوانب المشهد.


 قادتنى تأملاتى هذه المرة، لأتوقف أمام اختيار القاضية چوسلين متى لسورة آل عمران، وليس لسورة مريم.


كان اختياراً ذكياً، ففى هذه السورة إشارة لجوانب من ضلال وانحراف بنى إسرائيل، وإرشاد لما ينبغى أن يكون عليه المؤمن فى عقيدته وسلوكه، وتبيان لحقيقة الدين السماوى، وإشارة إلى آداب المجادلة.


 وما خلصت إليه أن الأجدى فى حالة هؤلاء الشباب، حفظ وفهم سورة آل عمران، ومن يختلف معى فى الرأى عليه أن يراجع السورتين، ويمحص ما ذهبت إليه، ويقيم اختيار القاضية، لاسيما أن سورة آل عمران تتضمن جوانب من تاريخهم، وفى القلب منهم عشيرة السيدة مريم، وأسرتها الصغيرة، ونشأتها الأولى.
«المعاقبة والمراقبة»


 إنه عنوان كتاب للمفكر الفرنسى الأشهر ميشيل فوكو، ولا أعرف لماذا جنح بى خيالى، فأظن أن القاضية اللبنانية قد قرأته، وتأثرت ببعض أفكاره.


 فوكو أحد أكثر المفكرين تأثيراً فى القرن الماضى، وكتابه المذكور يصنف بين أكثر الأعمال الأكاديمية تأثيراً على الإطلاق.


 يذهب فوكو إلى ضرورة معاقبة السلوك السيئ بطرق أكثر براعة، وأهمية الانتقال من الاعتماد على المعاقبة بقصد الاهانة، إلى نظام أكثر تفصيلاً للتحكم المستمر وتصحيح السلوك.


 المفكر الفرنسى البارز يرى أن الأشكال الحديثة من العقاب، تسعى إلى إنتاج الحالة السوية الطبيعية للإنسان، وأن الهدف لا يمكن أن يكون الانتقام منه بل الإصلاح، لاستعادة أرواح المخالفين، ، من ثم فإنه يشير إلى الطرق التى تهدف إلى إنتاج مواطنين مثاليين.


ويظل السؤال مطروحاً: هل قرأت چوسلين كتاب فوكو وتأثرت بما احتواه من أفكار؟ ربما.


عود على بدء


 فى الختام: أعود للتساؤل الذى داعب عقلى، وطرحته فى السطور الأولى:


 هل فى وصف العقاب، أى عقاب، بأنه جميل قدر من المبالغة؟


 فى حالتنا تلك، أستطيع الجزم بأن انتصار روح التسامح، والانحياز لروح القانون، ومرونة القاضى فى مواجهة المتغيرات التى هبت عاتية على الواقع، ثم وهذا هو الأهم الحنكة فى ربط الحكم بمصلحة العباد، بأكثر من الحرص على تفعيل النصوص، احتراماً لغاية الشرع، واقتضاء بمبدأ «حيثما  وجدت المصلحة، فثم شرع الله».


أنه درس بليغ لمن يريد أن يعتبر.

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة