أحمد عباس
أحمد عباس


صباح الخميس

أحمد عباس يكتب: والعلم الأمريكي يرفرف

أحمد عباس

الخميس، 19 مايو 2022 - 12:11 م

"أخيرًا.. اشرس مقرات رأسمالية العالم سان فرانسيسكو، أهلًا بكم في مدينة سان فرانسيسكو" اذاعة المطار تكررها بصوت روتيني مُرحب، وكاليفورنيا على المشارف و علم الولايات المتحدة الأميركية يرفرف!

كنا مع قرب نهاية الأسبوع الأول من يناير الفائت، كأن الطقس حينها بين خريف متمسك وربيع يتردد في المجيئ، الشمس تطلع جهارا عيانا وتلسع الناس، ثم في لحظة يبحثون عن معاطفهم ويرتدون صوف، المهم..

في الصباح الحركة سائرة محملة بتساؤلات منهكة بالجري خلف الدولار، مثقلة بأعباء الطبقة الوسطى المكتوب عليها السعي فقط كذلك مسئولية هذه الفئة في كل البلدان أن تحمل الأغنياء على أكتافها وتقبل بتشبث الفقراء في أطراف أرجلهم لئلا يسحقون تحت اقدام المسير، وكذلك يرتضي الموظفون والعمال بأن يتمزقوا وتتفرق شتاتهم بين غني يضغط بمؤخرة مكتنزة وفقير يشد الي الأسفل، ويبدو أنه وضع اصطلح عليه النظام العالمي.. الصبح هنا مُهلك على أية حال، والعلم الأمريكي مايزال يرفرف.

ثمان ساعات كاملة من القيادة تضمن لك الوصول الى مدينة لوس انجلوس، أبواب المحال مُغلقة، أوارق بيضاء مطبوع عليها بالخط العريض "مطلوب موظفين"، "مغلق مؤقتًا- مطلوب عمال"، "مغلق"، السبب مجهول لكن الاغلاق واحد وذلك مفاجئ جدا في هذه المنطقة والمناطق المجاورة. المسألة تشي بركود واضح، البضائع متوفرة وكثافة الشراء متوسطة والناس لا يقبلون والأسعار مرتفعة والضرائب عالية، والناس أحجمت عن العمل والمشهد غريب، ولما سألت أحدهم قال: ان هذا العلم الذي ينخرط في الرفرفة أعلاك مقبل على كارثة محدقة، الدولار يا صديقي قيمته انخفضت جدا، الحكومة طبعت.

أنا: طبعت ماذا!

فيرد: طبعت دولارات وهمية بلا حصة حقيقية من اجمالي الناتج القومي.فزاد الدولار وانخفضت قيمته، وقل الاقبال، وأحجم الناس عن الوظائف المتعبة، وهكذا.

اذن هو التضخم يا صديقي، أسأله.

يبتسم ويؤكد: تضخم شرس.. الاقتصاد الأمريكي مصاب بنزلة سُعال عنيفة.

ثوان وأسأله بلا حاجة لإجابة: تعرف ماذا يحدث اذا أصيب الاقتصاد الأمريكي بالسعال!.. بالطبع تصيب العالم الحُمى.

يرد: استعدوا.

هكذا الليالي صامتة تمامًا تترقب، والصباحات كلها تعمل بوجوم وتجُهم، كأنك لا تفهم الحالة جيدًا، أنت دائما مترقب.

المسافة بين لوس أنجلوس ومدينة سان دييجو رحلتها تستغرق ساعتان أو نحو ذلك، ابتعد قدرما استطعت عن ساعات الذروة لئلا تنحشر بين كثافات مرورية مريعة، في المساء على أطراف مدينة سان دييجو المرفهة لا ينفك أصحاب الأعمال الملتفون حول طاولة العشاء -يتجرعون أكواب الباهاماز الكحولية المرصعة بحبيبات الملح والفلفل الأحمر الحار المجروش وشرائح الخيار - يسألون عن شكل الاقتصاد المرحلة القصيرة القادمة، وهل حانت اللحظة لان يغلقون أعمالهم ويسرحون العمالة لديهم وينصاعون لمآلات الرهون العقارية التي وقعوها لبنوك كبرى لقاء التوسع في أعمالهم، يبحثون سيناريوهات عدة لموضوع واحد هو كيف ستنجح أمريكا الأم في تحجيم التضخم وتقليص كم الدولارات المتبادلة في العالم، وكيف سيكون انعكاس ذلك على أعمالهم. ذلك كله بينما يتبادلون أصابع فخمة من سيجار كوبي دخانه خانق!

حضرت إحدى هذه الجلسات.

الأمريكيون عادة لا يخشون مناقشة الوضع العام أبدا أمام الأغراب مثلي، ولا يقتطعون من الكلام مايجملون به الصورة والمشهد ، فللحكومة منابر متعددة متى شاءت تبييض وجهها، سفارات وحكومات صديقة وقنوات اعلام عالمي وشركات علاقات عامة ووكالات تجسس، لكن المواطن مهما كان غارقًا في الرأسمالية غير معني اطلاقًا بهذه المسألة، فقط يبحث عن نفعه الشخصي وصراع المصالح والأفضلية هو الغالب، لا تعارض مع الدولة طالما انها لا تعارضه في مصلحته، كذلك تسير الأمور هنا، والعلم الأمريكي لا ينقطع عن الرفرفة.

الاجواء ماتزال مُتلبدة بغيوم مبهمة، والطقس متأرجح بين حرارة صباحية تستفز التعرق وبرودة ليلية تنخر عظام الأطفال والشباب والكبار على حد سواء. الأطفال.. حتى الأطفال يسألون حول ضفاف البحيرة بينما يداعبون البط السابح والسلاحف العائمة - كل حسب جنسيته- عن العلاقة بين روسيا وأوكرانيا، وعن احتمالات نشوب حرب بهذه المنطقة رغم بُعد المسافات، وهذا هو المبحث المطلوب من تلاميذ الصف الثالث الاعدادي البحث فيه للتفكر والمعرفة، الأولاد يسألون منذ شهر يناير الماضي هل تقوم حرب وماذا سيحدث اذا نشبت، كيف ستكون أوروبا وبماذا سيعلق الشرق الأوسط.. أقسم بالله العظيم ان هذا حوار جمعني بأطفال في سن مادون الستة عشر، يسألون بتعطش عن خط نورد ستريم للغاز الرابط بين روسيا وألمانيا، وكابلات الانترنت، ومشروعات الكهرباء والطاقة والفضاء المشتركة، يسألون عن أي شيء، وفي اليوم التالي يتبادلون الأطفال ما وجدوه عبر بحثهم ويتناقشون في الفصل ويتبادلون ثقافات بعض، وجميعهم من أصول مهاجرة مختلفة الأعراق ووجهات النظر والأفكار والأديان. والعلم الأمريكي يبدو في الأعلى يرفرف.


[email protected]

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة