الشيخ الشعراوى
الشيخ الشعراوى


خواطر الإمام الشعراوي | الإحسان

الأخبار

الخميس، 19 مايو 2022 - 06:52 م

يقول الحق فى الآية 195 من سورة البقرة: «وَأَنْفِقُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ».. وهذه الآية جاءت بعد آيات القتال، ومعناها: أعدوا أنفسكم للقتال فى سبيل الله.

وقوله الحق: «وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة» تقتضى منا أن نعرف أن كلمة (تهلكة) على وزن تَفْعُله ولا نظير لها فى اللغة العربية إلا هذا اللفظ، لا يوجد على وزن تَفْعُله فى اللغة العربية سوى كلمة (تهْلُكة)، والتهلكة هى الهلاك، والهلاك هو خروج الشيء عن حال إصلاحه بحيث لا يُدرى أين يذهب، ومثال ذلك هلاك الإنسان يكون بخروج روحه. والحق يقول: «لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ ويحيى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ» «الأنفال: 42».

إقرأ أيضاً | خواطر الإمام الشعراوي.. الفتنة ابتلاء واختبار

فالهلاك ضد الحياة، وعلى الإنسان أن يعرف أن الحياة ليست هى الحس والحركة التى نراها، إنما حياة كل شيء بحساب معين فحياة الحيوان لها قانونها، وحياة النبات لها قانونها، وحياة الجماد لها قانونها، بدليل أن الحق سبحانه وتعالى جعل (يهلك) أمام (يحيى) وهو سبحانه القائل: «كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ» «القصص: 88».

فلسنا نحن فقط الذين يهلكون، ولا الحيوانات، ولا النباتات وإنما كل شيء بما فيه الجماد، كأن الجماد يهلك مثلنا، وما دام يهلك فله حياة ولكن ليست مثل حياتنا، وإنما حياة بقانونه هو، فكل شيء مخلوق لمهمة يؤديها، فهذه هى حياته.

وقوله الحق: «وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة» يكشف لنا بعضاً من روائع الأداء البيانى فى القرآن؛ ففى الجملة الواحدة تعطيك الشيء ومقابل الشيء، وهذا أمر لا نجده فى أساليب البشر؛ فالحق فى هذه الآية يقول لنا: «وَأَنْفِقُواْ فِى سَبِيلِ الله» أى أنفقوا فى الجهاد، كما يقول بعدها: «وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة» لماذا؟ لأن الإنفاق هو إخراج المال إلى الغير الذى يؤدى لك مهمة تفيد فى الإعداد لسبيل الله، كصناعة الأسلحة أو الإمدادات التموينية، أو تجهيز مبانٍ وحصون، هذه أوجه أنفاق المال.

والحق يقول: «وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة». وكلمة (ألقى) تفيد أن هناك شيئا عالياً وشيئاً أسفل منه، فكأن الله يقول: لا تلقوا بأنفسكم إلى التهلكة، وهل سيلقى الواحد منا نفسه إلى التهلكة، أو أن يلقى نفسه فى التهلكة بين عدوه؟ لا، إن اليد المغلولة عن الإنفاق فى سبيل الله هى التى تُلقى بصاحبها إلى التهلكة؛ لأنه إن امتنع عن ذلك اجترأ العدو عليه، وما دام العدو قد اجترأ على المؤمنين فسوف يفتنهم فى دينهم، وإذا فتنهم فى دينهم فقد هلكوا. إذن فالاستعداد للحرب أنفى للحرب، وعندما يراك العدو قوياً فهو يهابك ويتراجع عن قتالك.

والحق سبحانه كما يريد منا فى تشريع القتال أن نقاتل يأمرنا أن نزن أمر القتال وزناً دقيقاً بحسم، فلا تأخذنا الأريحية الكاذبة ولا الحمية الرعناء، فيكون المعنى: ولا تقبلوا على القتال إلا إن كان غالب الظن أنكم ستنتصرون، فحزم الإقدام قد يطلب منك أن تقيس الأمور بدقة، فالشجاعة قد تقتضى منك أن تحجم وتمتنع عن القتال فى بعض الأحيان، لتنتصر من بعد ذلك ساعة يكمل الإعداد له.

والمعنى الأول يجعلك تنفق فى سبيل الله ولا تلقى بيدك إلى التهلكة بترك القتال. والمعنى الثانى أى لا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة بأن تقبلوا على القتال بلا داع أو بلا إعداد كافٍ. إن الحق يريد من المؤمنين أن يزنوا المسائل وزناً يجعلهم لا يتركون الجهاد فيهلكوا؛ لأن خصمهم سيجترئ عليهم، ولا يحببهم فى أن يلقوا بأيديهم إلى القتال لمجرد الرغبة فى القتال دون الاستعداد له. وهذا هو الحزم الإيماني، إنها جملة واحدة أعطتنا عدة معان.

ويذيل الحق الآية الكريمة بقوله: «وأحسنوا إِنَّ الله يُحِبُّ المحسنين» الحق يقول: «وأحسنوا». والإحسان كما علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أن تعبد الله أى تطيع أوامره كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك».

والإحسان فى كل شيء هو إتقانه إتقاناً بحيث يصنع الإنسان لغيره ما يحب أن يصنعه غيره له، ولو تعامل الناس على هذا الأساس لامتازت كل الصناعات، لكن إذا ساد الغش فأنت تغش غيرك، وغيرك يغشك، وبعد ذلك كلنا نجأر بالشكوى، وعلينا إذن أن نحسن فى كل شيء: مثلا نحسن فى الإنفاق، ولن نحسن فى الإنفاق إلا إذا أحسنا فى الكدح الذى يأتى بثمرة ما ننفق؛ لأن الكدح ثمرته مال، ولا إنفاق إلا بمال، فتخرج من عائد كدحك لتصرفه فى المناسب من الأمور.

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة