إيهاب الحضرى
إيهاب الحضرى


يوميات الأخبار

الرقص على جليد الأشواق!

إيهاب الحضري

الخميس، 19 مايو 2022 - 09:53 م

 

أخبّئ الألبوم وأشكر الله على نعمة الهواتف الذكية، التى تحتفظ بخبايانا تحت حماية «كلمات السر»، حتى يقضى الله أمرا، فيكشف ستر إنسان تعيس الحظ.. ذات هفوة!
 

«ألبوم» صور


الجُمعة:


حاول أن تبحث عن أية مُقتنيات غائبة. ستكتشف أن الأمر ينتهى عادة بالفشل، لكن خلال رحلة البحث قد تُصادف ما لم تكُن تتوقعه. هذا ما حدث معى باختصار. بالتأكيد لم يظهر من العدم، ولم يتخذ قرار العودة للوجود لسبب بسيط: إنه لا يملك القدرة على ذلك. الصُدفة وحدها تسبّبتْ فى الإفراج عنه. وجدتُه مُمدّدا فى أحد الأدراج المنسية، التى تكتظ بها منازلنا منذ الإعداد للزواج.

نختار أثاثا ضخما انطلاقا من شهوة الاقتناء، ثم نتعامل مع أقل القليل منه، بينما تتحوّل بقية المفردات إلى كيانات مُهملة، تملأ حيزا من فراغ يضيق بنا مع الوقت! 


أعرف أن الثرثرة أحد عيوبى القليلة جدا! لكنى أعترف أن الكلام يمنحنى نشوة، قد تبعث فى المحيطين بى طاقة غير محدودة من الملل. كان يُمكن اختصار كل ما سبق فى جملة واحدة:

عثرتُ على ألبوم صور قديم. لكن العبارات القصيرة فى رأيى تُشبه كائنا مُبتسرا، وُلد قبل اكتماله ولا يزال يشعر بالنقصان. أعترف لكم أن الكلام الكثير أنسانى ما كنتُ أبحث عنه فى الأساس. أمر غير مهم الآن، فالألبوم القديم أكثر قيمة بالتأكيد، عمره أكثر من ثلاثين عاما، أى أنه ظهر إلى الوجود قبل أن يولد بعض من يقرأون كلماتى الآن (إنها حيلة نفسية تمنحنى انتعاشا، لمُجرّد الحديث عن قراء مُفترضين..

والأهمّ أنهم صغار السن!). تعود الصُور المحفوظة إلى مرحلة الجامعة، وتضُم ذكريات مع أشخاص كثيرين، منهم من قضى نحبه فى سياق حياتى ومنهم من ينتظر. الصُور نفسها أصبحت باهتة، بحُكم تقنيات مُنقرضة، وسوء تخزين نتعامل به مع جزء أصيل منا. تجمُعات فى رحلات مُختلفة، كانت تُمثّل جزءا أساسيا من حياتي، يفوق اهتمامى بالدراسة الجامعية. لم تكُن رحلات تلك الفترة عادية، فقد شهدتْ ابتكارا جديدا تمثّل فى الرحلات المصحوبة بالحفلات. العين السُخنة التى اكتشفناها حديثا هى وجهتنا فى أغلب الأحيان.

هناك تُصبح البهجة مُضاعفة، لأن الحدث يمزج مرح الرحلات المُعتاد، بحفلات تضم فنانا أو عدة فنانين كانوا شبابا وقتها. لا تتفاعل ذائقتى مع هذه النوعية من الغناء، غير أن الرحلة فرصة لتجمُع هائل، لأنها لا تضم طلاب كليّة واحدة، بل تُصبح نتاج مجهود مُشترك لمن احترفوا تنظيمها على مستوى كُلّيات جامعة القاهرة، وحصدوا مكاسب هائلة، لدرجة أن بعضهم تعمّد الرسوب عدة مرات كى يستمر فى الجامعة، لأنه يرى أنه لن يحصل على وظيفة تُدرّ له دخلا مماثلا.


 بطبيعة الحال تخرّجتُ فى التوقيت المقرر لي، لأن مكاسبى الطفيفة من المعارف الجُدد لم تمنحنى مبررا منطقيا للبقاء وقتا أطول، لكن ارتباطى بالجامعة استمر لسنوات بعدها، كى أتابع استثماراتى المتواضعة من صداقات الأعوام السابقة!


ودارت الأيام


السبت:


الحنين يحتاج إلى شرارة صغيرة جدا كى يتنامى بسرعة هائلة، خاصة إذا وجد مُحفّزات داخلية وخارجية تدعمه. من جديد أعود إلى الألبوم الذى تركته فى محبسه، أستخرجه فأكتشف بجواره شريط «كاسيت» قديما. علاه التراب وتآكل، وغالبا سيقاوم أية محاولة لتشغيله. إنها أغنية «دارت الأيام» لكوكب الشرق. عادة كان يصحبنى فى الرحلات، مع شرائط أخرى لأم كلثوم وفريد الأطرش، بصُحبة جهاز تسجيل صغير يُنقذنى من صخب الحفلات. أبتعد إلى مكان بعيد على الشاطئ، عندما يندمج رفاق الرحلة فى التصفيق والرقص. أسمع ما يُطربنى وأنا أتأمل البحر مُستمتعا بغموضه الساحر. الشريط الذى عثرتُ عليه يبدو ملائما تماما لدفقات الذكريات التى تبثها الصور القديمة. كلّ لقطة تُجمّد زمنا ما فى مساحة مستطيلة من الورق المصقول. الذاكرة تستعيد ما تبقّى من تفاصيل اللحظة، وتمتد إلى مساحات أخرى تجلب قصصا من الماضي، وراء كل شخص فى الصورة حكاية، وقد تجمع الحكايات بين طرفين ارتبطا بعلاقة عاطفية انتهت كالعادة بالفراق، فغرام الطُلاب محدود الصلاحية، تنطبق عليهم كلمات الأغنية: «عينى عينى على العاشقين.. حيارى مظلومين.. عالصبر مش قادرين». لا تبقى من غراميات الجامعة إلا ذكريات تبعث على الألم فى البداية، ثم تتراجع تدريجيا وتختفى إلى أن تستحضرها صورة خرجتْ بالصُدفة، ليستعيد الكثيرون قصة جيل لم يرفض الصبر يوما.. بل قهره الزمن.


ذكرياتى الضائعة


رغم أنه عانى الوحدة لسنوات، إلا أنه حافظ على وفائه، كغيره من ألبومات كثيرة فقدها كلّ منا، فى تنقلّاته العديدة بين الأزمنة والأماكن. مع الوقت أصبحت الأجيال الجديدة لا تعرف عن الألبوم إلا تلك المساحة المُخصّصة لتخزين الصور بأجهزة الهواتف المحمولة. إنهم أسعد حظا منى بالتأكيد. يعرفون كيف ينقلونها من هاتف لآخر فيحافظون على ذكرياتهم، بينما أظل عاجزا عن فعل ذلك، لأننى غالبا لا أملك رفاهية استبدال الهواتف. أنتظر حتى تحتضر ثم تموت فجأة، وأجد نفسى عاجزا عن استرداد ما سجّلتُه عليها. للأمر حل بسيط لكننى دائما أقع فى نفس الخطأ، وأنسى البريد الإلكترونى الخاص بالهاتف الفقيد، وهكذا تظل ذكرياتى حبيسة قُمقُم دون أمل فى ظهور من يُنقذها ذات يوم. أنظر إلى الألبوم القديم بامتنان. أنفض عنه التّراب وأبحث عن مكان يليق به، لكن خاطرا يلوح لى فجأة: ألا يُمكن أن يُساء تأويل الموقف؟ قد تظن زوجتى أن فى الأمر حنينا لحبيبة قديمة. لن تواجهنى غالبا وستبقى الهواجس محاصرة فى عقلها، لكنّ نظراتها حتى لو كانت عادية ستُشعرنى دائما أننى «عامل عملة». أخبّىء الألبوم وأشكر الله على نعمة الهواتف الذكية، التى تحتفظ بخبايانا تحت حماية «كلمات السر»، حتى يقضى الله أمرا، فيكشف ستر إنسان تعيس الحظ.. ذات هفوة!


انتهى المشوار


الإثنين:


فيس بوك مُمل. يبدو كشارع تمضى فيه مضطرا للوصول إلى هدف ما. الوقوع فى غرام الطُرق ليس أحد شروط السير فيها. الغاية دائما تبرر الوسيلة على مستوى الشوارع. نواجه القبح والزحام، وقمامة كلمات تستخدم آذاننا كسلال مهملات رغما عنا. دون أن يتخّذ أحدنا قرارا ثوريا بالتوقف عن السيْر. أعرف أن ثرثرتى قد تدفع الكثيرين إلى عدم استكمال القراءة، لكننى أراهن على رغبة القليلين فى المواصلة، لمجرد «إنهم يجيبوا آخرى». عموما نقطة انطلاقى كانت من «فيس بوك» الممل. وما جاء بعد جملة البداية كان مجرد عريضة دفاع لتعليق مُحتمل قد يُطلقه البعض: «ما حدش جابْرك».


أتجوّل بعينيّ عبر المنشورات. اعتدتُ أن أتجاوز النقاشات الجدلية منذ سنوات، لأننى اقتنعتُ أنها أصبحت مُرهقة للأعصاب بدون جدوى، الفُرقاء لن يلتقوا عند نقطة اتفاق. صار «فيس بوك» مجرد وسيلة لمعرفة أخبار المحيطين بي، كبديل عن اتصالات هاتفية، قطع الانشغال شرايينها. صادفنى منشور شاركه أحد الأصدقاء من موقع يذيع مقاطع من الطرب الأصيل، بعد تركيبها على صور ثابتة ترتبط غالبا بالبحر. تابعتُ عددا من المقاطع إلى أن صدح عبد الحليم: «ابتدا المشوار.. وآه يا خوفى من آخر المشوار آه يا خوفى..

جنة واللا نار آه يا عيني؟»، كان يمكن للشجن أن يحملنى كالعادة إلى مرافئ الحنين، وأخرج برؤية فلسفية تنطلق من أن المشوار كاد ينتهى، غير أن «الفيديو» المصاحب جذب انتباهي، كان لشاب وفتاة من مُحترفى الرقص على الجليد. أتأمّل إيقاع الراقصيْن الأجنبيين وتنتابنى الدهشة، حركاتهما تتوافق بشكل عجيب مع النغمات، رغم أنهما لم يسمعاها غالبا فى حياتهما.

لو أنهما يرقصان على وقْعها لاعتقدتُ أن جسم كل منهما يقوم بتوفيق حركاته حسب الإيقاع، غير أن المسئولين عن الموقع قاموا بتركيب الفيديو الراقص كما سبق أن ذكرتُ. التوافق إذن نابع من داخلى أنا. لابد أن هناك جزءا غامضا فى العقل يتولى إقناعنا بذلك، وغالبا ينطلق من إحساسنا الذاتى بالنغم. كدتُ أفرح باكتشافى الذى خفى على الكثيرين، لكن هواجسى سرعان ما «نكّدتْ» عليّ. لماذا أمنح نفسى ما لا أستحق، وأتوهّم أننى اكتشفتُ ما خفى على ملايين البشر، عبر آلاف السنين من الرقص. التجربة إذن هى التى ستحسم الموقف. 


ألجأ إلى «يوتيوب» وأستدعى نغمات محمد عبد الوهاب، تشدو أم كلثوم: «قابلنى والأشواق فعنيه.. سلّم.. سلّم وخد إيدى فإيديه، وهمسْ لى قال لى الحق عليه.. نسيت ساعتها بعدنا ليه»، أستمع على «اللاب توب»، وأراقب حركات الراقصين على المحمول بعد أن جعلتُه صامتا، أراها تعانق اللحن بلهفة، وكأن رقصتهما صُمّمت خصيصا له! أنشغل عن الرقص بالكلمات: «فين دموع عينى اللى ما نامت ليالي؟..

بابتسامة من عيونه نسّاها لي.. أمرّ عذاب وأحلى عذاب.. عذاب الحبّ للأحباب». أفكر فى أننا نحتاج بشدة إلى فريق من الأطباء النفسيين، على الأقل أبناء تلك الأجيال التى رأت فى العذاب حلاوة، ودعمها مثل شعبى يقول:» مفيش حلاوة من غير نار».

يبدو أن الثرثرة ليست حكرا على الكلام بل تمتد إلى الأفكار، أهرب من تداعياتها وأستعيد سعادتى باكتشافى المهم، أتأكد أن إحساسنا بإيقاع الراقصة نابع من جزء ما فى تكوين شخصيتنا، يلعب فيه تأثير الموسيقى علينا دورا أساسيا، فضلا عن أن بداخل كل منا مشروع راقص مُحترف، فهناك من يرقص على السُلم، بينما يرقص آخرون على الحبال، ويفوز عادة من يرقصون على إيقاعات كل العصور!

الكلمات الدالة

مشاركه الخبر :

 
 
 
 
 
 
 
 
 

 
 
 

 
 
 

مشاركة