سمير الجمل
سمير الجمل


يوميات الاخبار

مصر لا تخلع جلبابها

الأخبار

الأحد، 22 مايو 2022 - 07:30 م

سمير الجمل

عندما عاد الفنان محمود مختار من بعثته إلى ايطاليا ألقى قبعته قال تعلمت فى الغرب.. لكنى أحمل التعليم فى جلبابى ولأجل ثقافتى

عندما سألوا الكاتب الروسى الشهير مكسيم «جوركى» كيف كتبت عن الأساطير بهذا العمق كان جوابه:
− اسألوا التراث العربى فقد أخذت منه الكثير.. ورجعت بعد ذلك إلى حكايات جدتى.


وتذكر الكتب التى تناولت تاريخ العلاقة بين العرب وروسيا أن الشيخ الأزهرى محمد عياد الطنطاوى كان له الفضل فى تقديم اللغة العربية لأول مرة فى هذه البلاد وهو ما ساهم فى نشر الاسلام فى عهد روسيا القيصرية.. وسبقه أحمد بن فضلان الرحالة الشهير الذى اتجه إلى أوروبا وكانت له صولات وجولات.. صورتها الدراما السورية فى مسلسل بديع عن الرجل ورحلاته.


كانوا يحملون اللغة العربية إلى أرجاء الدنيا.. ونحن فى بلاد العرب نطمسها ونعتدى ونتعالى عليها.. حتى أصبحت الأسماء الأجنبية للمحلات والفنادق والبضائع فى المقدمة.. وكأن اللغة العربية− والعياذ بالله− خطيئة يجب الابتعاد عنها وفى عهد مدارس اللغات التى يلعب أولياء الأمور الأوكروبات لكى ينتسب عيالهم إليها وإن استدانوا وضيقوا على أنفسهم ويفخر الاب بولده الذى ينطق اللغات الأجنبية وهو يجهل العربية نطقا ونحوا.. ويتزامن هذا مع عمليات الفرنجة البشعة فى الملبس والسلوك ونمط الحياة وانظر إلى الشباب من حولك لتعرف أن خلعنا من جذورنا قد أصبح هدفا يراوض مصرنا عن نفسها.. قوميا وعربيا.
والدفاع عن الهوية وهى الجواهر الثمينة التى تتحلى به بلادنا دونا عن غيرها.
ومصر هى أول أمة فى التاريخ القديم نمت فى نفسها عناصر الأمة بمعناها الكامل الصحيح ثم كانت أول دولة بالمعنى السياسى المنظم تظهر على مسرح العالم القديم حتى أصبحت أول امبراطورية حققت لنفسها نطاقا ممتدا من السيطرة والنفوذ وصل بسرعة شمالا إلى سوريا وإلى مشارف النهرين وغربا إلى برقة وجنوبا حتى اثيوبيا وظلت ما يقارب الألف عام أو يزيد أعظم حقيقة سياسية فى الشرق القديم.. وهو ما جعلها تتصدى لكل الغزوات التى واجهتها بعد ذلك بمخزونها الحضارى العظيم.


وفى كتابه «التراث المسروق» يقول المفكر والمؤرخ جى ام جيمس: إن مصر واجهت خصاء ثقافيا على أيدى الغزاة جميعا فى تعاقبهم وصراعاتهم للاستئثار بالفريسة.. وكلهم ناصبوا الثقافة المصرية العداء القاتل وجميع الغزاة ابتداء من الفرس عمدوا إلى تدمير ونهب ثروات مصر المادية والروحية وظلت تقاوم لكى لا تفقد روحها وملامحها.


والهوية أو الشخصية لأمة هى حصيلة تجاربها وتصوراتها ورموزها وتعبيراتها وابداعها.. وقد لعبت الهوية الدينية دورها فى تقوية شوكة الهوية الثقافية.. وإذا كان القرآن الكريم قد نزل باللغة العربية فإن الانجيل الذى جاء بالقبطية.. قد ظهر بالعربية أيضا.. فى دلالة قاطعة على امتزاج الثقافة الاسلامية والقبطية بل واليهودية فى مصر وحدها دون غيرها.. واذهبوا إلى منطقة مصر القديمة حيث تتعانق الكنيسة المعلقة بجامع عمرو بن العاص ومعبد أبوسرجة اليهودى فى لوحة نادرة إلا فى مصرنا والعبقرى جمال حمدان فى كتابه «شخصية مصر» يقول:
إننا ازاء حالة نادرة من الأقاليم والبلاد من حيث السمات والقسمات التى تجتمع فيها وكثير من هذه السمات تشترك فيها مصر مع هذه البلاد أو تلك.. ولكن مجموعة الملامح ككل تجعل منها مخلوقا فريدا فذا فهى بطريقة ما تكاد تنتمى إلى كل مكان دون أن تكون هناك تماما.. فهى بالجغرافيا تقع فى افريقيا.. ولكنها تمُت أيضا بالتاريخ إلى آسيا.. وهى متوسطية دون مدارية بعروضها ولكنها موسمية بمياهها واصولها وهى وإن كانت اصلا موسمية فى مصدرها فقد أصبحت موسمية دائمة اخيرا على ما فى ذلك من تناقض.. هى فى الصحراء وليست منها.. انها واحة ضد صحراوية بل ليست بواحة وإنما شبه واحة.. هى فرعونية بالجد ولكنها عربية بالأم ثم انها بجسمها النهرى قوة بر لكنها بسواحلها قوة بحر تضع بذلك قدما فى الأرض واخرى فى الماء وهى بجسمها النحيل تبدو مخلوقا اقل من قوى ولكنها برسالتها التاريخية الطموحة تحمل رأسا أكثر من فخم وهى بموقعها على خط التقسيم التاريخى بين الشرق والغرب.. تقع فى الأول ولكنها تواجه الثانى وتكاد تراه عبر المتوسط كما تمد يدا نحو الشمال واخرى نحو الجنوب وهى بعد هذا كله تكاد أن تكون مركزا مشتركا لثلاث دوائر مختلفة بحيث صارت مجمعا لعوالم شتى، فهى قلب العالم العربى وواسطة العالم الاسلامى وحجر الزاوية فى العالم الافريقى.
والنيل هو صاحب نظرية مركزية مصر يتدفق من الجنوب حتى المصب ومنح سكان الوادى الضيق الاستقرار النفسى والحكمة والصبر.
الحرب على الطربوش


عندما جاء اتاتورك إلى تركيا.. بمخطط ماسونى دلائله واضحة.. أعلن الحرب على الحرف العربى وعلى كل مظهر اسلامى.. بما فى ذلك الطربوش.. حتى أصبحت المساجد بمعمارها الفخم.. مجرد متاحف خاوية على عروشها.. وقد حاول الاستعمار الانجليزى والفرنسى والايطالى والبرتغالى.. أن يفعلها فى البلاد التى وضع يده عليها.. ونجح فى غالبيتها حتى انه غادر وترك أهلها يتكلمون لغته ويعيشون بأسلوبه.. إلا مصرنا ابت واستعصت.. ولبس لها نابليون الجلباب والعمامة لكى ينافق أهلها ورفضوا ولم ينخدعوا حتى ان أحد قادتها استقر بها وتزوج منها.


وفى كتابه المهم «هويتنا البصرية» تأليف سيد هويدى يحذر بقوة من حملات خارجية بأعوان وعملاء من الداخل أن تخلع مصر جلبابها وثوبها.. وأن تصبح معلقة فى الهواء بلا جذور تتلاعب بها رياح التغيير والتغريب ذات اليمين وذات الشمال والفن والثقافة والادب رأس الحربة فى ذلك.
الفن وسيلة التواصل مع الناس وهو الرهان على أن المصريين يمتلكون جذوة الابداع فى جيناتهم وهويتهماق ومثير ومؤثر يحكمه تعدد الطبقات الحضارية والنسيج البشرى صاحب التجربة الانسانية العميقة..
والثقافة كما يقول المفكر محمد عابد الجابرى: هى المعبر الأصيل عن الخصوصية التاريخية لأمة من الأمم وعن نظرة هذه الأمة إلى الكون والحياة والموت والانسان ومهامه وقدراته وحدوده وما ينبغى أن يعمل وما لا ينبغى أن يأمل.
والخطورة هنا أن يظن البعض أن التمسك بالهوية.. يعنى الانعزال عن المستقبل.. وعن الحضور فى المشهد العالمى لان من موقع المتفرج المستهلك لكن بقوة المنتج الفاعل الصانع..
والفن يمكن أن يكون هو الرابط بين عراقة الماضى وابداع الحاضر ورؤية واكتشاف المستقبل.. وعندما وقف جمال عبدالناصر فى عيد العلم عام ١٩٦٠ استهل كلمته بقوله:
«إن أبرز أسباب أزمة عالمنا اليوم أن طاقاته المادية غلبت على طاقته الروحية وأصبحت عضلاته أقوى من عقله».
ووقتها لم تكن العولمة قد أصبحت وحشا يلتهم فى طريقه الضعيف والمتخاذل والمنغلق.. وإذا كانت فرنسا تدافع بشراسة عن هويتها وثقافتها وهى عاصمة النور فى الغرب.
وحتى فى حملاتها الاستعمارية كانت الثقافة هى الورقة التى تلعب بها.. ويتوقف سيد هويدى فى مجال بحثه الهاهويتنا الثقافية عند الحرف العربى.. وكيف تحول إلى صورة بصرية تدل على حضارتنا.. وقد اكتسب الحرف قدسية فقد اقسم به رب العزة «ن والقلم وما يسطرون» وقد استمد مكانة من مقولات اسطورية ترجع إلى أن أول من كتب العربية هو آدم عليه السلام فيما نسبه البعض إلى إسماعيل بن إبراهيم الخليل أما عروة بن الزبير فقد زعم أن أول من كتب بها قوم من الأوائل اسماؤهم: ابجد هوز وحطى وكلمن وسعفص وقرشت وكانوا ملوك مدين.
أما المسعودى فقد نسب نشأة الخط العربى إلى «ادريس بن نوح».
والهوية العربية.. بدأت تتشكل منذ كتابة صحيفة النبى صلى الله عليه وسلم بعد هجرته إلى يثرب وقد انطلقت من مبدأ التغيير مع الإبقاء على المشتركات ولذلك شاركت الهوية العربية فى منظومة الانتاج الحضارى وبناء التراث العالمى وبقيت اللغة العربية محافظة على ثباتها الايجابى باعتبارها مكونا أساسيا للهوية العربية وكان ظهور الاسلام فى القرن السابع الميلادى ايذانا بصحوة كبرى فى منطقة شبه الجزيرة العربية الفسيحة التى تضم قبائل متناثرة من بدو لا يعرفون الاستقرار فى مأوى ولا الانتماء إلى وطن ولا الارتباط بجماعة باستثناء مجتمع مكة واليمن وما لبثت تلك الدولة الجديدة أن أخذت عمن حولها واعطت وإذا لها اخر الأمر من هذا المزيج سمات خاصة وصفات متميزة إذا هى تنفرد عن غيرها بطابع خاص هو الطابع الاسلامى.. ومع ذلك لم تفرض الفتوحات الاسلامية على الشعوب التى وقعت تحت سيطرتها.. لا اللغة ولا الثقافة.. ومع ذلك تسابق الفرس والاغريق والسوريين والمغاربة الدخول افواجا إلى الاسلام.
ويكشف طه حسين كيف أن المسيحية خرجت من الشرق وغمرت اوروبا ومع ذلك لم تصبح اوروبا شرقية.. وفى ذلك قال:
«أنا لا ادعو إلى أن نفكر أنفسنا ولا أن نجحد ماضيا ولا إلى أن نغنى فى الاوروبيين وإنما ادعو إلى أن نثبت لاوروبا ونحفظ استقلالنا من عدوانها وطغيانها ونمنعها أن تأكلنا.. فلا فضل للقبعة على العمامة والطربوش».
وعندما غنى سيد درويش: قوم يا مصرى.. مصر دايما بتناديك كان يعنى بذلك أن تاريخ الأمة يجتمع تحت مظلة الاصل الفرعونى والأصل العربى الاسلامى والاصل القبطى فى تناغم بارع.
ولم يكن مستغربا أن ينادى المؤتمر الذى عقده المسيحيون عام ١٩١١ فى أسيوط بحق أبنائهم فى دخول الكتاتيب..
إن مصر كما قال جمال حمدان: تتجلى عبقريتها فى ملكة الحد الأوسط وتجعلها سيدة الحلول الوسطى وتجعلها أمة وسطا بكل معنى الكلمة وبكل معنى الوسط الذهبى فى الموقع والدور الحضارى والتاريخى فى الموارد والطاقة والسياسة والحرب والنظرة والتفكير.. وهذا هو سر عبقريتها تفخر بالماضى وتعيش الحاضر تنظر إلى المستقبل «وتلبس» الجينس والبدلة ولكنها ابدا لا تخلع الجلباب!!

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة