رغبة متأخرة
رغبة متأخرة


على خيون يكتب: «رغبة متأخرة».. قصة قصيرة

أخبار الأدب

السبت، 28 مايو 2022 - 05:50 م

 

بقلم : على خيون

وقفت سناء إلى جانب أختها هناء فى الشرفة المطلة على الزقاق الضيق، كان الوقت ضحى، والفراشات تعبث فوق أوانى الزهور الفخارية التى تتوزع بمسافات متساوية على طول الحافة الإسمنتية المبلطة بالسيراميك الأملس الملون للشرفة الخارجية العريضة. 
قالت سناء وهى تتثاءب: 
ــ إنه يوم الجمعة.
فسألتها أختها:
ــ أتتركيننى كل جمعة وتذهبين الى شارع الكتب القديمة؟
مسحت برفق على شعر أختها الأسود الطويل، وقالت:
ـــ تُعرض يوم الجمعة كتبٌ رخيصة الثمن عالية القيمة. هل تذهبين؟
ـــ أنا؟
 سكتت الأخرى كأنها أخطأت، فقالت سناء لتغير الموضوع:
ـــ سأستحم، وألبس أفضل ماعندي، إنه يوم الجمعة المبارك.
 لزمت الأخرى الصمت، فقالت لها سناء:


ـــ كان أبى وأمى رحمهما الله يغتسلان قبل صلاة الجمعة، ألا تذكرين؟
تساءلت هناء بضيق

:
ـــ ستذهبين لشراء الكتب حقاً أم للقاء وائل؟
 مدت سناء رأسها لتستطلع الزقاق، ولتهرب من ملاحظات شقيقتها القاسية، انحنت كثيراً، فأتاحت للأخرى أن تتأمل بانزعاج واشمئزاز ساقيها الطويلتين العاريتين الظاهرتين من شورت نوم قصير، ولاحظت أن عجيزتها أضحت مدورة، ومكتنزة، فقالت لها باستياء:


ـــ ازداد وزنك سناء!
 ضحكت سناء ضحكة صافية طويلة وقالت بمرح وهى تدور حول نفسها دورة كاملة:
ـــ يريدنى وائل سمينة، ينادينى بطة.


سارعت الأخرى فحذرتها بحركة سريعة من إصبعها:
ـــ انتبهى لنفسك سناء، الحب غير الارتباط الرسمي، لاحق له فى ذلك.


 قفزت سناء حول شقيقتها مثل حمامة مرحة، وقالت كأنها تستعد لطيران مفاجئ:


ـــ إنه يحبنى هناء، يكتب لى شعراً رقيقاً، قد ينشر ديواناً عنوانه «سناء حب حياتي».


قالت الأخرى ضجرة وهى تقطف وردة وتشم عطرها:
ـــ من يراك ويسمعك يعتقد أنك تحبين نزار قبانى فى شبابه، من يعرف شاعرك الذى لايفرق بين الضاد والظاء.


 وقفت سناء غاضبة، وصاحت فى أختها:
ـــ أكان ذنبه أنه عرض عليك قصائده لأنك درستِ اللغة العربية؟
ـــ بل جاهل باللغة، والجاهل باللغة ليس بشاعر.


صاحت الأخرى بتهكم:
ـــ أخطأ فى النقل ليس غير، ليست هناك مشكلة، ويجوز للشاعر ما لا يجوز لغيره.
فقالت هناء بشدة وانفعال:


ـــ احذرى منه، الزمى حدودك.


هزت سناء كفها وقالت:
ـــ صرتِ واعظة هناء، هل نسيت نفسك؟من حطم السيارة فى مطاردة خيط دخان؟
ـــ تأدبى يابنت، أنا أختك الكبيرة!


قالت سناء مستاءة وهى تتأمل ساعة الحائط المعلقة خلفها على جدار داخلي:
ـــ تأخرت!


فصاحت هناء محذرة:
ـــ ثم إننى لا أقبل أن يكون عالة علينا، لبيت أهلى حرمة خاصة!
ارتفع صوت وقع اقدام سناء وهى تركض على السلم هابطة إلى الأسفل، استدارت هناء حزينة، شعرت بندم مباغت لأنها أساءت إلى أختها الوحيدة، وقالت وهى تمسح دمعة:


ـــ أنا غبية، غبية ويائسة،وحياتى لامعنى لها من دونك.
 عادت تتأمل نوافذ الشقق المواجهة لشقتهم، ركزت نظرها على الشقة المقابلة، وغمغمت:


ـــ صفية تغرق فى العسل مع النجم الوسيم مهند!
ألصقت نفسها بالشرفة حتى مس صدرها الناهد إناء الزهور فتراجعت قليلاً، خيّل إليها أنها رأت طيف جارتها صفية فى أحضان مهند، وراحت تفسر على ضوء الشعر العذرى الذى درسته فى الكلية، معنى الحب الأعمى، معنى الغيرة المرضية فى الحب، قالت لصفية بصراحة وقوة: كيف تأتين به ليعيش فى بيتكم صفية؟ هل وافقت أمك؟ أظنك تفرضين وجوده عليها قسراً، كان عليك أن تسأليه عن أحواله المادية قبل أن تسلميه قلبك يابنت. لا، ليس دائماً، أنت تفهمين الأمور على قدر ذهنك الصغير،أنت من بدل سياق الحكمة، خذوهم فقراء إلى خذوهم مثل القمر وسيضيئون لكم الليل، ترهات، سخافة، لا أظن أنك تملكين الحكمة، لكنك مندفعة وراء شعره الأشقر،ولأن اسمه مهند، تلك هى تبعات المسلسلات المدبلجة وآثارها الوخيمة. أنت وسناء تخطئان التقدير دائماً، وأنت ياهناء؟ أتنصحين غيرك وتنسين نفسك؟ أنت لاتصلحين للوعظ، أنت مغرمة بالمسلسلات وقصص الحب العذرى والخيال الجامح، اخرسي، بالعكس، أنا أصلح له لأننى متعلمة، وأقول لكما: إن الحب لا يبرر الخطأ الإملائى أو النحوى أو عبارة:يجوز للشاعر ما لايجوز لغيره.لايجوز المجيء بشاب ليعيش فى شقة اشتراها أبوك رحمه الله من مال حلال، ثم أنك سرقت مهند من غيرك يابنت من دون خجل، ماذا؟ أتسمين الزواج الشرعى سرقة يامجنونة؟


 أفاقت هناء من تداعياتها، وتراجعت بسرعة، عندما فتح مهند باب الشرفة وخرج إلى الواجهة، هتفت بغير تحفظ: 


ـــ مهند! 

بقى الشاب كأنه ممثل بارع، يمسد شعره الأشقر الجميل ويتقدم حتى الحافة الحادة ببجامة مفتوحة الصدر، بدا لعينيها كأنه يرضخ لكاميرا نصبت فى مكان ما على رافعة متحركة لتصور حركاته، وبعين صياد ماهر، ظل يتابع شرفتها مطمئناً إلى أنها ستعاود الظهور، وقالت فى نفسها بالاستناد إلى تقرير فصلى سابق: إن التفاحة التى ينخرها الدود هى القلب الذى خربه الحب، لكن الأستاذ اعترض على الفكرة كلها، فكتبت: الحب جرح فى الروح. 


وهزت رأسها وقالت: 
ـــ لا، لا، هذا ليس حباً صفية! 


 اشتدت الشمس عليه، ظلت تراقبه بحذر من مكمنها وتستعيد مع نفسها كلمات صفية عنه، قالت لها فى الهاتف بغنج مكروه:
ـــ له طباع غريبة؟ أنا فى حيرة من أمري.


ـــ غريبة؟ كيف؟
ـــ وسيئة أيضاً.
ـــ مثل ماذا؟
ـــ إنه يتعبني!
ـــ فى عمل البيت والطعام؟
ضحكت صفية منها، قالت لها لتغير الموضوع:
ـــ أشياء سخيفة، أشياء لاتقال فى الهاتف.


واصلت الضحك بمرح يشبه ضحك أختها سناء، وسمعت صوته يدندن بأغنية كأنه يريد أن يجلب انتباهها:
ـــ عرفنا خلاص عرفنا، إنك مشغول بنا.


 تبّسمت خلف باقات الورد، ورددت بصوت خافت:
ـــ عرفنا، عرفنا، عرفنا.


 كانت سعيدة، ورفعت رأسها لتفهم تعليمات المخرج الذى قد يطلب منها أن تهمله، أن تعاقبه لتشعل النيران فى قلبه، فالمشهد لاينبغى أن يبتر بانفعالات سريعة عابرة، وجفلت حين لوح لها مهند بكفه، وتقدم من حافة الشرفة الواطئة المقابلة لها،فتراجعت حزينة إلى الظل، لم يعد يراها، كانت فى مأمن من عيون الكاميرا، والمخرج، ومدير التصوير، والكادر كله، لذا تمددت على كرسيها باسترخاء، ورددت بصوت يكاد يذوب فى فمها كقطعة حلوى: 


ـــ أحبك مهند. 
 واستسلمت لتوجيهات المخرج باستقبال شفتيه على نحو ظميء، وظلت على حالها تتيح له فرصة أن يمتص رضابها العذب، إذ لم تسمع كلمة «ستوب»، والكادر كله يشتعل بالرغبة، ولكنها تنبهت لصوت صفية تقول بعصبية:


ـــ ماذا تفعل تحت الشمس حبيبي؟ستتضرر بشرتك الرقيقة!
أخفت رأسها حتى غادر الجميع، ولاحظت اقتحام الشمس للزقاق كأنها تغسله بالضوء من غبار وعتمة، وراحت تمد شعاعها الذهبى لتغمر شرفات المنازل المقابلة، وبدت الظلال تحت الواجهات والأشجار، ندية طيبة ذات حنان يوحى بالأمان والراحة. سحبت كرسيها من جديد إلى أمام لتبصر حركة غريبة فى الشارع، رأت رجلاً بملابس غجرية أو بدوية لم تر مثلها من قبل إلا فى المسلسلات القديمة، كان الرجل يطلب من جارتهم التى تسكن الطابق الأرضى المقابل اسمها واسم أمها، من بعد أن أقنعها بأنه يقرأ الطالع ويعرف البخت، كان عجوزاً فى نحو السبعين، يبدو وكأنه جاء من صحراء الربع الخالي، مغبراً، مرهقاً، ملفعاً بملابس لاتمت للعصر بصلة، كأنه يمثل مشهداً تاريخياً مقحماً، وسمعت المرأة تقول له:
ـــ صدقت ياشيخ، ذلك الحقير تزوج غيرى، سحرته ابنة الكلب.


قال الرجل بصوت منفعل:
ـــ ليس حقيراً، ولم يُسحر، لكنك غافلة.


ـــ غافلة؟
ـــ المرأة ينبغى أن تتعطر لزوجها حتى فى اللحظة التى تغادر فيها الحياة، نعم، المرأة الذكية تقابل ربها نظيفة معطرة.


ـــ نعم، كنت أهمل نفسى بسبب أولادى والمطبخ، أدفع لك ماتريد من مال لكى يعود إلى بيته.


ضحك الرجل، وأسقط عصاه ذاهلاً، ثم رفعها بتثاقل، وقال:
ـــ لست ساحراً.
سألته المرأة بحرقة:
ـــ وما الذى ينقصك لتكون ساحراً؟
فتمتم:


ـــ لايفلح الساحر يا امرأة، لايفلح أبداً.
غادر الرجل بوابة المرأة الثرثارة بغير ارتياح، من بعد أن منحته نقوداً لم يدقق فى مقدارها، ورفع رأسه بتوافق غريب فرأى هناء، قال لها وابتسامة ذاهلة على فمه الصغير المجّعد: 


ـــ نكشف البخت والطالع للصبايا الجميلات الحائرات.
 قالت له:


ـــ ياعم، أريد أن تكشف لى طالعي، اسمى هناء بنت عزيزة.
اتسعت ابتسامته، وهو يتأمل وجهها بعينين ذابلتين، يهطل فوقهما شعر حاجبيه الكثيفين، وفتح فمه الصغيراليابس إلى أقصى مداه، وقال:
ـــ ماشاء الله كأنك شمس مشرقة!


غمغمت:
ـــ شكراً!
وسألها إن كانت تستطيع النزول ليبصر كفها فاعتذرت:
ـــ لا أستطيع.
فقال الرجل:
ـــ أى شيء تودين معرفته؟
قالت:
ـــ أشياء محرجة، أشياء خاصة فى أعماقي.
قال الشيخ:
ـــ حددى أمراً واحداً.
 تراجع كى يبصر ملامحها جيداً، وقال لها:
ـــ تقدمى من الشرفة.
قالت:
ـــ لا أستطيع.
 هزّ رأسه بأسف، وقال:
ـــ أنت تشكين من ألم فى ساقيك، أهو حادث سيارة مؤسف؟ كنت تطاردين من لا يستأهلك؟ اسمه يبدأ بحرف الميم، أليس كذلك؟
 لم تجب، وأنصتت بانتباه كأنها تختبر معلوماته، فقال بثقة:
ـــ أما ما يشغلك الآن فشىء مضحك.
سألته بلهفة:
ـــ ماهو؟
فقال وهو يضحك: 
ــ أشياء لاتقال فى الشارع.
ـــ لم أفهم.
 نادت عليه امرأة أخرى من شباك مجاور، فتهيأ للمغادرة، سألته هناء محرجة:
ـــ نقودك؟
فقال بإشفاق:
ـــ لا داعى لها، لم أفعل شيئاً، وضعك خاص وصعب يا ابنتي.
قالت منزعجة:
ـــ لم تقل لى شيئاً ذا بال ياعم.
فغمغم وهو يومئ إلى الشرفة المقابلة:
ـــ الفلك يحذر من أية علاقة خطرة، علاقة ثلاثية كالموت، كالسقوط من جبل إلى الهاوية.
ـــ ما معنى ذلك؟
 لم يجب، بل تحرك مغادراً المكان وهو يقول بصوت مرتفع:
ـــ تمسكى بعربتك يا ابنتي، واصبري، فأنت فى امتحان ليس سيئاً قياساً بمن معك، جارتك وأختك على سبيل المثال، الرزايا والصعوبات ليست سيئة دائماً.
ــ كيف؟
ـــ تمنعنا مما هو أسوأ.
 ظلت واجمة، حائرة، لاترمش، وهى ترقب عودة المخرج الذى تخيلت وجوده فى مكان لايظهر لعينيها، ليشرح لها مشهد النهاية المأساوية الصعبة، النهاية اليائسة لحب قتيل، وتحرك مهند الوسيم فى قميص أصفر، وبنطلون أسود، وسلسلة ذهبية تتدلى على صدره، وصوت يصيح من فضاء سماوى بعيد أو من شرفة مجاورة:
ـــ أكشن!
خُيّل إليها أنه سيقفز باتجاه شرفتها مباشرة فى لهفة وشوق فى خروج فاضح عن النص، غافلاً عن توجيهات المخرج كلها، فدفعت كرسيها من دون انتباه، وتراجعت ذاهلة حائرة محرجة، لتجد نفسها فى فوهة السلم تتدحرج بشكل مأساوي، وعجلات الكرسى تدور فى فراغ مفزع، ولا أحد معها، لا أحد على الإطلاق، بينما كان صوت المخرج ينطلق من مكبرة الصوت ليوقف مشهداً خطراً، مردداً بقوة:
ـــ ستوب، ستوب، ستوب!.

اقرأ ايضا | قلب البراح

 

الكلمات الدالة

مشاركه الخبر :

 
 
 
 
 
 
 
 
 

 
 
 

 
 
 

مشاركة