كريستين أوتِن
كريستين أوتِن


الكاتبة والمخرجة العالمية كريستين أوتن تكتب: «الشعراء الأخيرون»

أخبار الأدب

السبت، 28 مايو 2022 - 06:33 م

كريستين أوتِن كاتبة ومؤدية ومخرجة مسرحية وصحافية موسيقية هولندية من مواليد 1961، تنطلق فى أعمالها من التزام عميق بالقضايا الاجتماعية، وتستلهم فى رواياتها أشخاصا حقيقيين وأحداثا حقيقية. تقدم عروضها الأدائية بانتظام فى المهرجانات الأدبية والمسارح. أسست مشروعا مسرحيا بعنوان (مونولوجات السجن)، وتقوم بتدريس الكتابة الإبداعية للسجناء.
فى روايتها (الشعراء الأخيرون) -التى صدرت بالهولندية عام 2004 وترجمها إلى الإنجليزية الموسيقى والمترجم الأمريكى جوناثان ريدر وصدرت ترجمته عام 2016- تكتب كريستين عن حياة أربعة شعراء أفرو-أمريكيين ذاعت شهرتهم فى ستينيات وسبعينيات القرن الماضى ولُقبوا باسم (الشعراء الأخيرون) وهم: عمر بن حسن (جيروم هولينج)، فيليب لوتشيانو، ديفيد نيلسون، أبيودون أويول، كما تلقى الضوء على بقية أعضاء هذه الجماعةالشعرية الموسيقية التى يُعتبر أعضاؤها هم الآباء المباشرون لأغانى الراب فى الثمانينيات. تبدع الكاتبة صورة فائقة الحيوية تضم بورتريهات متخيلة، وتسجيلات مفرغة لحوارات مع شهود عيان، وأغاني/قصائد. لا تستخدم كريستين القصائد كبهارات للقصة، بل تدع الكلمات تتحدث عن نفسها. تضيف هذه المعالجة بُعدا مليئا بالظلال للحياة كما هى -تلك العصية بالفعل على الفهم دائما- وفى إطار هذه الخلفية تُبعث النصوص إلى الحياة بقوة. يجتمع السرد المتخيل مع الشعر والتوثيق ليصنعوا مزيجا مثيرا ونابضا بالإيقاع.

آكرون، أوهايو، 1953
الجدة إليزابيث 
استيقظ على ضجة غامضة لأصوات من بعيد. همهمة غائمة مبهمة بدأت عالية وسريعة وصارت منخفضة وعميقة وبطيئة. انزلق من الفراش، فتح باب غرفة النوم، وزحف إلى البسطة.


«إنها غلطته..» سمع جيروم جدته تقول بصوتها العالى الأجش. «الأحمق.» رفع ذراعه أمام وجهه فى مواجهة ضوء الرواق الساطع. فى الصالة بالطابق الأرضي، تحت المصباح النحاسى الكبير المعلق، وقف الجد ويلى وماما والجدة إليزابيث فى حلقة صغيرة. الآن فقط لاحظ كم كانت جدته أضخم بكثير من أمه.
قال جده: «كيف يمكنك أن تتحدثى هكذا؟»


اختبأ جيروم وراء الدرابزين واسترق النظر إلى الطابق الأرضي.
«كيف يمكننى أن أتحدث هكذا؟ لم يكن ينبغى قط أن يعود من ديترويت. أقول لك إنه لا يجلب معه غير المتاعب. وبعد ذلك يكون عليّ أن أعتنى بنسله.»
لم يعرف جيروم عمَّن كانت تتحدث جدته، لكن كلمتها كانت منذرة وقبيحة. نظر إلى أمه. كانت يداها فى جيبى مريلتها، وإحدى قدميها تحك الأرضية الخشبية. لم تشترك فى المناقشة.


حملقت الجدة فى الجد. قالت: «لا فائدة منه.»
«إنه ابنك.»
«ليس بعد الآن.»
«وماذا عن الأطفال؟»
«يمكنهم أن يظلوا حتى يطلق سراح أبيهم وبعد ذلك يمكنهم جميعا أن يخرجوا إلى الجحيم من بيتى. مفهوم؟»
عاد إلى غرفة النوم على أطراف أصابعه. احتكت ذراعه عرضا بالباب وهو يمر، لتجعل المفصلات تصدر صريرا. انكمش وانتظر. وعندما تأكد أن أحدا لم يسمعه، عاد ليغوص فى الفراش وسحب الأغطية حتى أذنيه. أحس بأنفه باردة كالثلج. فى فراش آخر إلى جواره بالقرب من النافذة، رقد لارى نائما على بطنه. سقط خط من سنا القمر على وجهه. تدلى فمه مفتوحا وعندما يتنفس كان يصدر صوتا مخشخشا غريبا. كان لارى فى السادسة من عمره بالفعل. وكان لارى أطول قامة بمقدار رأس.


أغلق جيروم عينيه بقوة. طارت الكلمات القاسية التى سمعها للتو فى دوائر داخل رأسه. « لم يكن ينبغى قط أن يعود من ديترويت»... «إنه ابنك»... «وماذا عن الأطفال؟»... «حتى يطلق سراح أبيهم». ماذا حدث لوالد هؤلاء الأطفال؟ كانت الجدة ساخطة. دقت الأرض بضربات كبيرة ثقيلة من قدميها. كان سعيدا لأنها لم تمسك به متلصصا.


تقلب فى فراشه. كان لارى قلقا، خرج من فمه المزيد من الأصوات الغريبة. أغلق جيروم عينيه بقوة وبذل قصارى جهده كى يعود إلى النوم من جديد. ارتطمت الكلمات التى سمعها بداخل رأسه كمطارق صغيرة مكتومة. «يمكنهم جميعا أن يخرجوا إلى الجحيم من بيتي.» هل عليه هو ولارى والصغار أن يذهبوا؟ أين بابا؟ لم يكن جيروم ممانعا فى مغادرة بيت الجدة، لكن إلى أين؟ لماذا لم تقل ماما أى شيء؟ حاول أن يتمدد على ظهره، ثم على بطنه. لكن مهما كانت الطريقة التى يرقد بها، كان فى تمام يقظته. استطاع أن يسمع قلبه يدق بقوة فى صدغيه. ساد الهدوء فى الطابق الأرضى إلا من بعض الأصوات فى المطبخ. كان يود أن ينهض ويهبط إلى هناك، إلى ماما، لكن الجدة إليزابيث دائما فى الجوار، وكانت لتعيده إلى الفراش على الفور –»لديك بعض الشجاعة!»- وربما حتى يجن جنونها لدرجة أن تخلع عنه منامته وتصفع مؤخرته. لم يكن بمقدور ماما أن تصنع شيئا حيال ذلك. كان بيت الجدة.


من بعيد سمع طيور البوم تتنادى فى غابات الشجر. كأنها تحدث بعضها البعض. فى البداية يأتى النداء العميق القاتم لبومة وبعد لحظة تجيبها بومة أخرى بصرخات حادة قصيرة، وبعد ذلك ترد عليها البومة الأولى بدورها. لا بد أنها تتحدث عن شيء سرى جدا، لأنك لا تسمعها إلا عندما يكون الظلام دامسا فى الخارج. صارت أصوات البوم ألوانا فى رأس جيروم. كان نداء البومة الأولى بنيا محمرا مثل التراب وراء المنزل. أما صوت البومة الثانية فكان فضيا ونقيا مثل سنا القمر. أنصت جيروم إلى النداءات الغريبة النائية حتى جرفه النوم.


كان فى الخامسة من عمره تقريبا ولم يستطع أن يقول كلمة واحدة.
سمع جدته تقول: «ربما هو أبكم.»
قالت ماما: «ليس أبكم. أعرف أنه ليس أبكم.»
«يسعدنى أنه ليس طفلي.»


كان يختبئ من الجدة إليزابيث قدر ما يستطيع. لحسن الحظ كان المنزل كبيرا. كان بيتا خشبيا وله شرفة بها مقعد هزاز ومنضدة متهالكة. نهض بعيدا عن الطريق الممهد والعالم المتحضر. أحاطت به المروج. فى الصيف كان العشب جافا وأصفر وبدا أشبه بنجد أجرد. كان جيروم يجلس لساعات محدقا فى الحقل الذهبى المغبر والسماء فى الأعلى ترتعش وتتماوج كالماء. لم ير المحيط قط، لكن ماما حكت له عن البحيرات العظمى وكيف أن الوجود هناك يشبه الوجود عند المحيط، كيف أن البحيرات كانت تبدو كبيرة وزرقاء مثل البحر تماما وكيف كانت السفن تبحر فيها. تخيل جيروم أن الحقل الذهبى يمتزج بالمحيط. نظر إلى السماء الزرقاء الصافية، تقريبا لا توجد سحابة يمكن رؤيتها، مجرد خطوط بيضاء مجعدة وغامضة. كانت الخطوط البيضاء هى زبد الأمواج. ضوء الشمس الساطع جعل الماء يلتمع مثل الفضة. سمع هدير الأمواج. دوى مدفع. نهضت سفينة من الضباب البعيد، سفينة قراصنة ذات أشرعة ضخمة ممزقة. اقتربت السفينة، رأى الرجال يلوِّحون من سطحها، رجال بشعور طويلة وعصابات أعين. كان القراصنة قادمين من أجله، لا من أجل لارى. كانوا قادمين لإنقاذه من ذلك البيت الكبير الأجرد فى البراري.


بذل جيروم قصارى جهده كى ينسى المناقشة الكابوسية فى الصالة بين الجدة والجد. لكن بابا لم يعد إلى البيت. لم ينطق أحد بكلمة خلال العشاء فى الليلة التالية. تناولوا فى صمت حساءهم من الذرة الصفراء. ثم قدمت الجدة إليزابيث أقدام الخنازير المشوية والبطاطس المهروسة وصلصة اللحم. التمعت صلصة اللحم فى ضوء المصباح. غمزت ماما لجيروم من الناحية المقابلة على المائدة بينما كانت تطعم الصغير بيلى. عاث بيلى فى طعامه فسادا. كان وجهه أصفر من الحساء. أطاح بملعقة من البطاطس المهروسة من يد ماما وتناثرت البطاطس على الأرضية الخشبية. حبس جيروم أنفاسه. تمنى أن تنهض ماما بسرعة وتمسحها قبل أن تراها الجدة.


تلك الليلة فى الفراش سمع ماما ولارى يتحدثان. تظاهر أنه نائم.
قالت ماما: «فعل ذلك من أجلنا، إياك أن تنسى هذا أبدا»
تساءل لاري: «هل كانت لديه بندقية؟»
«كانت لديه بندقية.»
«وحصان؟»
ضحكت ماما: «لا يا حبيبى، لم يكن لديه حصان. أبوك ليس راعى بقر.»
«ماذا حدث؟»
«أراد أن يكسب مالا من أجلنا. حتى يتمكن من استئجار بيت لنا.»
«لكننا نعيش هنا، أليس كذلك؟»
«لا يمكننا البقاء هنا.»
«لم لا؟ أحب المكان هنا.»
«الصغار يتعبون الجدة.»
«أُو-أُووه.»
«اذهب للنوم.»
«لكن ماذا حدث؟»
«ماذا؟»
«مع بابا.»
«لم يكن والدك ليطلق النار على أحد أبدا. لهذا سار الأمر على نحو خاطئ. هو ليس لصا. هو موسيقى.»
«تقول الجدة إنه لا فائدة ترجى من الموسيقيين. تقول: الشيء الوحيد الذى يفعله الموسيقيون السود هو الشرب.»
«يعزف والدك على ترومبيت متواضعة.»
«لم أسمعه يعزف قط.»
«عندما يعود سأطلب منه أن يعزف من أجلك.»
«لا يهمنى أن يعزف.»
«بربك الآن يا لارى.»
«أنا متعب.»
«أبوك يحبكم جميعا. وأنا أحبكم أيضا.»
سمع جيروم صوت قُبلة.
قالت ماما: «تصبح على خير.»
لم يرد عليها لارى.
ثم قبلت ماما جبهته وغادرت غرفة النوم. تركت الباب مواربا وسقط خط ضوء أصفر من البسطة بالضبط بين فراشه وفراش لارى.
كان لدى الجدة قطعة أرض مزروعة بالخضروات وراء البيت. كانت تزرع فيها الأعشاب العطرية والفراولة والطماطم والبطاطس. لم يكن مسموحا لأحد بالدخول إلى حديقتها، ولا حتى الجد ويلى. أحيانا، لأن جيروم لم يكن يستطيع الكلام، كان الأمر وكأن الجدة نسيت أنه يعيش هناك. كان يتسلل خارجا ويتلصص عليها من وراء شجيرة، وكان يراقبها وهى تجثو وتلتقط الأعشاب أو الحشائش الضارة. كانت يداها الضخمتان تتحركان وكأنهما مستقلتان عن جسدها: كانت تمثالا، ظهرها مستقيم ورأسها مرفوعة عاليا، وكانت تهمهم لنفسها وكأنها تصلى. كانت للجدة إليزابيث بشرة بنية فاتحة بلون القهوة، ووجه ضيق، وعظام وجنتين مرتفعة، وأنف معقوف. كانت نصف شيروكى. أتت من ألاباما. وكان هذا كل ما يعرفه جيروم عن جدته. لم تتحدث ماما قط عنها. وكأن الأمر محظور، وكأن الكلام عنها يستوجب العقاب.


سأله الجد ويلى ذات ظهيرة: «ألا ينبغى أن تلعب الآن فى الخارج؟»
كان جيروم جالسا على حافة النافذة، ينظر إلى السماء. كانت السحب سميكة وبيضاء ومنفوشة. بدت أشبه بكرات من القطن.
قال الجد: «رأيت لارى ذاهبا إلى غابات الشجر.»


تمكن جيروم من تمييز وجه فى إحدى السحب. وجه له عينان وأنف وفم. ذكَّره بسانتا كلوز.
«لماذا أنت جاد هكذا دائما؟ تعال هنا.»


جلس الجد فى مقعد كبير بذراعين قرب المدفأة. ورقدت على حِجره نسخة سميكة من الكتاب المقدس. كان الجد يقرأ دائما الكتاب المقدس، حتى أنه كان يحفظ الكتاب عن ظهر قلب.


«سأخبرك بشىء.»

بدا الجد صغير الحجم وعجوزا فى مجلسه هناك. وكان شعره الخشن الأجعد قد شاب بأكمله تقريبا. وكانت يداه العريضتان مجعدتين. ظل جيروم جالسا على حافة النافذة.

«أنت طفل حساس، رأيت ذلك على الفور. لا يفهم الجميع ذلك، أليس كذلك؟»
أومأ جيروم برأسه. لم يفهم فى الحقيقة ما كان يعنيه الجد.


«أعتقد أنك تسير على خطا أبيك. لا تدع هذا يقلقك. ابنى فتى صالح.»
بدت كلمات الجد حزينة وواهنة. أراده جيروم أن يتوقف عن الحديث على هذا النحو. انزلق هابطا من فوق عتبة النافذة ومضى نحو الباب المؤدى إلى الخارج.
سمع الجد يتمتم لنفسه: «أدعو الله ألا يكسره هؤلاء الشياطين البيض.»


لعل جيروم لم يتحدث بصوت عال، لكن كانت هناك كلمات كثيرة فى رأسه. بيد أنه ما إن كان يحاول إخراج الكلمات والجمل، كان لسانه وكأنه أقصر وأغلظ مما يجب، وحلقه ضيق. كل ما كان يصدر عنه أصوات غريبة وخشنة. لذا لزم الصمت.


أحيانا كان لارى يغيظه: «رضيع. أنت مجرد رضيع.»

كان جيروم يتركه ليفعل ذلك. رغم أنه كان أصغر من أخيه، إلا أنه كان يحس أنه الأكبر عمرا. لم ير لارى قط ما كان يحدث لماما. كيف كانت الجدة تعاملها. كانت الجدة تتصرف وكأن ماما غير مرئية، وجعل هذا ماما تبدو حزينة جدا. لذا كان يزحف إلى حِجرها، وهو ما كان يبهجها على الفور.


كانت الجدة إليزابيث تقول: «لارى من نسل هولينج فعلا. انظروا كم هو طويل. ليس مستديرا وسمينا مثل جيروم. جيروم من نسل فولر.» كانت الجدة تحمل شيئا تجاه عائلة أمه. كانت تعتقد أن آل فولر قرويون حمقى. أنهم يلدون أطفالا أكثر مما يجب. لم تولِ الجدة أى اهتمام لأخيه الصغير كريس أو الرضيع بيلى. وكانت الجدة تقول إنه من المخزى أن تمتلئ بطن ماما مرة أخرى.


حاول أن يرى وجه بابا. أغلق عينيه بإحكام لكن كل ما رآه كان هو الخطوط الخارجية لشعره، إكليل سميك مستدير، وظل الوجه فارغا. رقد جيروم على ظهره فى الفراش. كان الوقت متأخرا بالفعل، وكان الجميع نائمين والمنزل هادئا. كان بمقدوره أن يسمع صرير الخشب. أراد أن ينهض ويذهب إلى الغرفة المجاورة حيث كانت ماما تنام مع الصغيرين، لكنه لم يجرؤ. حاول مرة أخرى. لم ير شيئا. لم يسمع شيئا. أحس بحلقه الجاف وكأنه يحترق. كانت رأسه ساخنة والدم ينبض فيها بعنف. فتح فمه. حاول: «دهه..» تقلب لارى فى نومه. «دهه..» نطقها متأوها بهدوء قدر الإمكان. لو أمكنه أن ينطق باسم أبيه، ربما يتمكن من تصوره. جذب الأغطية فوق رأسه. «دهه..» اختنق تقريبا. من صرير الفراش الحديدى استطاع أن يعرف أن لارى يتقلب. كان عليه أن يكف الآن، وإلا سيوقظ أخاه. أزاح الأغطية وأطلق تنهيدة عميقة. تبخر والده. 

مريض بالحنين (1993)
كنا هناك فى بداية الثقة والإيمان والاحترام
خلف الأبواب المغلقة اعتدنا أن يكلم أحدنا الآخر بالنغمات
الناعمة لقوس قزح وهو يبتسم عبر غبش النهر الملطف
لدفء وشغف الوقت الذى ينتظرنا كى نعود إلى البيت.

اقرأ ايضا | لويز إردريك: جدي هو بطل روايتي

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة