مظفر النواب أيقونة جيل السبعينيات
مظفر النواب أيقونة جيل السبعينيات


محطات في حياة الشاعر«مظفر النواب» أيقونة جيل السبعينيات

أخبار الأدب

السبت، 28 مايو 2022 - 06:40 م

بقلم : شعبان يوسف
فى عقد السبعينيات مثَّلت القضايا الوطنية العظمى بؤرة اهتمام الجميع، وشغلهم الشاغل. رفع الشباب الثائر فى كل الاحتجاجات الكبرى والصغرى شعارات الحرب الشعبية وتحرير كامل التراب الفلسطينى، وفى هذا العقد تكونت ذائقة جيل السبعينيات عبر عدة أصوات شعرية متناغمة ومتنافرة فى نفس الوقت.

كان الشاعر أمل دنقل هو الشاعر الذى جمع، بعبقرية فنية ولغوية وسياسية خاصة، كافة أشكال الأشواق والآمال والأحلام وروح الثورة والتمرد من ناحية منذ ديوانه الأول «البكاء بين يدى زرقاء اليمامة»، وقصيدته «كلمات اسبارتاكوس الأخيرة» التى أصبحت نشيداً ثورياً يردده كثيرون:
«المجد للشيطان معبود الرياح
من قال لا فى وجه من قالوا نعم
من علّم الإنسان تمزيق العدم»، إلى آخر القصيدة.


وعدا أمل دنقل اختلطت أصوات أدونيس «على أحمد سعيد»، ومحمد عفيفى مطر، وسعدى يوسف، ووقف فى الخلفية صلاح عبدالصبور صلباً شامخاً ونبيلاً وفذَّاً فى وجدان الشعراء، رغم كل الخلافات السياسية التى لحقت به، فلم تستطع أن تقصيه بعيداً، أو تنفى تجربته الخصبة فى صحراء المعارك. لقد حاولت أن تسقطه نثراً، ورغم ذلك لم تُزحزح مكانته، ولم تمح كلماته. ظلت عذاباته الشعرية راسخة فى قلوب الجميع ولم تذهب أدراج رياح القصيدة الجديدة، مثلما ذهبت قصائد آخرين إلى زوال.


فى ظل ذلك الزخم الشعرى والسياسى صعد صوت غريب للغاية، صوت حاد، ويبدو أنه صوت ممسوس بحالة هجومية فجة، لا تتسق مع الأذن فى البداية، ولا تنسجم مع الحالة التى استقر فيها الشعراء، ولكن ذلك الصوت أخذ فى الصعود رويداً رويداً:-


«القدس عروس عروبتكم
فلماذا أدخلتم كل زناة الليل إلى حجرتها
ووقفتم تسترقون السمع وراء الأبواب لصرخات بكارتها
وسحبتم كل خناجركم، وتنافحتم شرفاً


وصرختم فيها أن تسكت للعرض؟».


كان صديقى الذى ينشد القصيدة، هو أحد أعضاء الجوقة السياسية الهتّافة والواسعة فى المحافل السياسية، وغذت القصيدة حالة شعارية تنشط بقوة فى محافل لم تنقطع فى عقد السبعينيات. كان صديقى يتطوح ويشتد صوته تلوناً وصخباً وطرباً عندما يصل إلى المناطق الهتّافة، والتى ترتفع فيها مفردات صريحة وواضحة وخادشة أو نافية لجمال الصور البديعة التى أطلقها سلفاً، ولكن سرعان ما وجدت تلك المناطق الهتّافة طريقها سالكاً إلى الأذن، مناطق شعرية متوترة، ومحرضة وساخنة وقادرة على التقاطع مع أحداث عنيفة اندلعت على أرض الأوطان العربية، تقاطعت تلك القصيدة مع قصائد الشاعر المصرى أحمد فؤاد نجم العامية الحادة والهجائية بقوة وعالية الصوت.



كانت تلك القصيدة التى تتغنى بالقدس، وتهجو كل من فرّطوا فى حريتها واستقلالها، وتركوها لقمة سائغة فى فم العدو، هى السفير الأول لذلك الشاعر. وصلت القصيدة بداية عبر شرائط كاسيت بصوت مظفر. كان صوته يتطوح ويتهدج ويتألم ويغنى وينشد وفى الوقت ذاته يفن، تمتزج الصورة الكثيفة بمفردات كثيرة، ويحاول ذلك الصوت العربى الخاص جداً فى أدائه، أن يتمثّل الصورة، وكأنه يشرحها، وكأنه يفصل أجزاءها ثم يعيد تركيبها مرة أخرى. أعتقد أن كل من سمع قصائد مظفر النواب «ذلك الاسم الخاص أيضاً»، لن يفقد حدته ورقته إلى نهاية العمر، أنا لا أتذكره فقط، بل أعيشه، رغم أنه لم يكن متناغماً مع الأصوات التى تشكّل وجداننا بها ومعها، هو ليس أمل دنقل ولا ممدوح عدوان ولا أدونيس ولا محمد عفيفى مطر، إنه خاص ومشتبك وشديد الحدة.


تساءل معظمنا: من ذلك الشاعر الذى اقتحم أسماعنا وأرواحنا ووجداننا فجأة وبقوة دون أى اسئذان؟ وهل يستأذن الشعر سامعه أو قارئه؟ هنا بدأت قصة مظفر النواب، إنه شاعر من محافظة الأهواز، البلدة التى تقع على الحدود الإيرانية العراقية، وهو محكوم عليه بالإعدام فى العراق، وكانت تطارده عدة أنظمة عربية، وقد أنشد قصيدته التى تتغنى بالقدس فى كل مكان ذهب إليه، وضمن ما قيل: إنه كان فى أمسية له فى دمشق، وقرأ تلك القصيدة، وجاء عند البيت الذى يهجو فيه بعض الحكام وقتها، وكان يقف على المنصة، وقال:-


«.لا أستثنى منكم أحداً».


وأشار بإصبعه للخلف، مشيراً إلى الرئيس حافظ الأسد، مما عرّضه للمطاردة، وكما تناقله المثقفون آنذاك، أنه خرج بليل وبمعاونة محبيه من دمشق، بعد أن لحقه سخط قادتها وحكامها، وحظى أيضاً بحكم إعدام جديد فى دمشق، وظل مطارداً من عدة بلدان أخرى، حتى حط به المطاف فى ليبيا، ليظل بها حتى رحل مؤخراً.

لكن السؤال الذى يطرح نفسه هو: هل تكمن أهمية الشاعر مظفر النواب فى قصيدته تلك؟ وهل الصوت السياسى فى القصيدة وما شابهها من قصائد، هو الذى كتب للشاعر شهرته، ورفع من جماهيريته؟

الشواهد تقول: نعم، إن التلقى السياسى لقصائد مظفر النواب، ظلم الحالة الفنية العالية التى كانت تغمر أشعاره، والمدهش أن المتلقى العربى محكوم عليه بالاحتفاء بالشعار قبل الشعر، محكوم عليه بالاحتفال بالمضمون الفكرى، على حساب الحالة الجمالية، ومن ثم تم الاحتفال بالجانب السياسى فى قصائد مظفر، ذلك الجانب الذى يرضى حالة التمرد، فى مواجهة الأبعاد الفنية التى تغمر كل قصائده بجدارة، وبالطبع لا مجال هنا لتقديم دراسة عميقة لكافة الجوانب الجمالية التى تتمتع بها تلك القصائد.

 

وأعتقد أنه بعد رحيل الشاعر واكتمال دائرته أو إغلاقها، يستطيع النقاد أن يقرأوا هذا الشاعر فى اكتماله الفنى والجمالى، ذلك الاكتمال المتجذر فى الشعر العربى القديم، واستلهامه بقوة، رغم الشك الذى طرحه كثيرون حول عربية مظفر النواب. الآن يستطيع النقاد العارفون والكاشفون أن يقولوا بعضاً مما لم يستطيعوا قوله وقراءته ودراسته فى حياته، تلك الحياة المشتبكة سياسياً مع أطراف عديدة، ومع قادة عديدين، إن مظفر النواب مثّل حالة هلع بالنسبة لكثيرين، فمجرد ذكره، من الممكن أن يطيح بمكانة ناقد عند سلطة ما، فما بالنا بأن ناقداً هنا أو هناك يقدم قراءة عادلة نقدياً فى منتج ذلك الشاعر الذى ظلمه النقاد، ولكن أنصفته جماهير واسعة لا تعبأ بما يقوله ذلك النقد المرعوب والخائف والواقف على عتبات السلاطين، وظلمه أيضا الصوت السياسى القادح فى قصائده، رغم ذلك الجمال الذى يغمر تجربته بقوة. الآن نستطيع أن نقرأ مظفر النواب بعيداً عن أشكال التراشق التى تصنعها السياسة، ويتقنها السياسيون، نستطيع أن نغوص فى لغة مظفر النواب دون إشهار آلات حادة فى وجه قصيدته، والتعامل مع البعد السياسى الواضح والفادح فى شعره، ضمن لوحة لغوية وفنية كما يجب أن يكون.


ظل مظفر النواب حالة شعرية خاصة قرابة أربعين عاماً، فهو لم يكن محمود درويش الذى احتفى به الجميع، واحتفلت به كل الأوساط، محمود درويش العظيم الذى كان قادراً على ضبط إيقاع علاقته مع أى سلطة فى أى مكان، وتوفرت له كل سبل التعبير الشعرى والنثرى والصحفى، كما توفر له ظهير شعبى كبير بامتداد الوطن العربى، واستطاع أن ينشد لقضيته دون إزعاج سلطة، وكذلك لم يكن مظفر النواب مثل أمل دنقل الذى اشتبك مع القضية عبر تجليات فنية عديدة، وبدون أن يطغى البعد السياسى منفرداً على قصيدته، وكذلك كان يبتعد عن جميع المحافل السياسية، بينما ظل مظفر النواب حالة فنية وشعرية وسياسية تنتشر وتتمدد جماهيرياً، غير آبه بإرضاء الجميع، لدرجة حصره النقاد فى خانة السياسة، مع أنها جزء من كلٍ، وغيض من فيض، فى قصائده الممتعة، والراقية، والتى كانت تمزج بين الحديث والقديم فى سلاسة دخلت وجدان القارئ الجائع فنياً وسياسياً إلى ذلك الوضوح، ولكن تلك القصائد ذاتها لم تدخل باب السلطات المنيع، وظل مظفر النواب مستقراً فى وجدان الناس دون أى وساطات نقدية أو علوية.

اقرأ ايضا | الشعراء الأخيرون

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة