كتاب الببلومانى الأخير
كتاب الببلومانى الأخير


قراءة في كتاب «الببلوماني الأخير».. جماليات التجريب

أخبار الأدب

السبت، 28 مايو 2022 - 06:46 م

 

بقلم: د. أحمـد فـؤاد

في أحدث مجموعاته القصصية (الببلوماني الأخير) الصادرة عام 2022 عن دار الرُّبى للنشر والتوزيع، لا يزال شريف عبد المجيد مخلصًا لتيمته المفضلة (التجريب)، عاشقًا لها، مطورًا إيَّاها، بعد مجموعاته القصصية «مقطع جديد لأسطورة قديمة»، «خدمات ما بعد البيع»، «فرق توقيت»، (تاكسي أبيض)، و(صولو الخليفة)، و(بالحجم العائلي).


وهنا تتبادر إلى الأذهان أسئلة بديهية: هل بعد كل هذه السنوات ظل منجز شريف عبد المجيد القصصي على الدرجة نفسها من التجريب؟

ألم تخفت حدة التجريب بعد سنوات مستمرة من الإبداع القصصي المتواصل؟ ألم تتغير الحياة الواقعية الباعثة على تجريب شريف عد المجيد القصصي، أو حتى تغيَّر هو إنسانا ومبدعا؟ باختصار: كيف كانت حدود التجريب الأخير في (الببلوماني الأخير)؟!


أسئلة كثيرة، آمل أن يجد القارئ في هذا المقال إضاءات واضحة وإجابات شافية عنها.
تكشف القراءة النقدية المدققة لقصص هذه المجموعة عن استمرار الكاتب في تجريبه المضموني والسردي، وإن هدأت قليلاً حدَّة التجريب, وصار أكثر اقترابًا من السرد الواقعي، مع وجود لمسات تجريبية وتقنيات كتابية جديدة، لا يمكن إغفالها.


فعبر إحدى عشرة قصة قصيرة توَّزعت في جزأين، مارس شريف عبد المجيد التجريب الإبداعي في صورته الإبداعة الجديدة.
 أولى ملامح التجريب الإبداعي الجديد تتمثل في الابتعاد عن الفانتازيا؛ ومن ثم بدأ يطالعنا إغراقً واقعيًّ واضحً للتعبير عن أزمة الإنسان المعاصر في تعامله مع التحولات التكنولوجية المتلاحقة والعولمة التي لا يقوى على مجابهة تأثيراتها المتنوعة، وغير ذلك من الأزمات التي كانت مصدر إلهام للكاتب وشخصياته القصصية في محاولاتهم لمواجهتها أو التغلب عليها، ولو حتى عبر أخيلتهم وعقولهم الباطنة.


ومن هنا استمرت إدانة شريف عبد المجيد وأبطال قصصه في مجموعته الجديدة – مثل سابقاتها – للعولمة والتحول التكنولوجي الهائل، بما يصنع المفارقة الواقعية البائسة بين ثراء العالم رأسماليا وتكنولوجيا في ظاهره، وفقر الإنسان المبهور/ المقهور في حقيقته وجوهره، وهي مفارقة تكشف أيضا عن استغلال الأفراد لخداع الجماهير وبالتالي خداع الأفراد والجماهير معا، باسم التكنولوجيا والعولمة !!


وقد جعل هذا الخداع والفساد المجتمعي الكبير كثيرا من الأفراد لا يستطيعون تحمله؛ مما دفعهم إلى الانتقام بأنفسهم ممن يرونهم فاسدين أو مخطئين من وجهة نظرهم، وهو ما ظهر في قصتي (رائحة الجوافة – صاحب الرسالة).


وفي الإطار ذاته لم يقوَ بعض أبطال قصص (الببلوماني الأخير) على اعتماد التكنولوجيا الرقمية بديلا عن الكتب الورقية في تحصيل العلم والمعرفة أو حتى رغبة الاقتناء في حد ذاته؛ مما جعل بطل (الببلوماني الأخير) يعاني من أزمة نفسية دفعته إلى التورط في جرائم قتل ناشر وناقد وكاتب، من أجل الحفاظ على قدسية الكتاب الورقي، وأورث سره لابنته، والتي بدورها قامت بقتل زوجها الذي أراد بيع كتب أبيها؛ لتورث ذلك لابنها، وتواصل حماية الكتاب من الاندثار، ويُلقَّب ابنها الصغير بـ (الببلوماني الأخير)!!


وإذا تطرَّف أبطال القصص السابقة في انتقامهم من الأزمات الواقعية المتعددة، بما دفعهم لتنصيب أنفسهم قضاة وجلادين في الوقت ذاته، لم يقوَ أبطال قصص أخرى (رجل يشبهني) و(الجميع ينسون شيئا ما) على مواجهة هذه الأزمات، فدخلوا في نوبات بؤس نفسي عميق، جعل بطل (رجل يشبهني) يعاني من الانفصام ويشعر بهلاوس تجعله يتخيل أن هناك شخصا بائسا مثله يتحدث ويتحاور معه طوال القصة، كما أن بطل (الجميع ينسون شيئا ما) لا يعرف كيف يكتب قصته ومن أين يبدأ، كا يعمل في غير ما يحلم به؛ حيث كان حلمه إعداد فيلم تسجيلي عن أحلام الناس وما يؤرقهم، ولكن انتهى به الحال إلى أن «يسجل فيلما تسجيليا عن أطفال الأثرياء الذين انتهوا من الحضانة توًّا» – ص 91، ويتخيل وجود فتاتين في حياته، (إلهام) تحبه وتحاول الاتصال به ولا يرد عليها، رمز (الحلم المثالي) في حياته، في مقابل (منى) التي يكلمها ويراها وتسخر من أفكاره المثالية الحالمة، رمز (الواقعي المعاش).


ولعل هذه الأجواء الواقعية المخيفة قد يتضح فيها التدين الظاهري تارة والخرافات تارة أخرى، وهو ما ظهر في قصة (المزرعة السعيدة) التي وجد بطلها بيضة مكتوب عليها لفظ الجلالة بشكل بارز، وهو الأمر الذي أحدث جدلا كبيرا حول البيضة، هل هي مقدسة فعلا؟ أم من صنع فنان يسخر من بلادة مجتمعه؛ لتنتهي القصة بتوالي ظهور هذه البيضات في المدينة، ويستمر هوس البحث عن البيض المقدَّس!!


تجريب مضموني واضح إذن في قصص (الببلوماني الأخير)، وقد سانده الاعتماد على تقنيات تجريبية متنوعة، أسهمت في إكمال صورة الواقع القاسي الذي يعاني منه الإنسان في عالمنا المعاصر، ويحاول التكيف معه، معاناة أو انتقاما أو عزلة أو حتى اكتفاء بالمشاهدة، أو ربما أملا في مستقبل أفضل، ومن أبرز هذه التقنيات، عتبات النص، (الإهداء والبداية والعنوان).


فقد وظَّف شريف عبد المجيد عتبة (الإهداء) لتحقيق نوع من التناص بين بطل (الببلوماني الأخير) – القصة الرئيسية في المجموعة، وبطل رواية (401 فهرنهايت) للكاتب الأمريكي المشهور راي براد بري.


تصدَّر الإهداء التالي بداية المجموعة القصصية (إلى جاي مونتاج أعظم سارقي الكتب في تاريخ الأدب).
ولا يخفى وجه الشبه بين بطل الببلوماني الأخير وهذا البطل، فـ(مونتاج) تم تكليفه بحرق الكتب، لكنه تحوَّل إلى عاشق لها بعد عشقه للمعلمة التي جعلته عاشقًا للكتب.


ووظف شريف أيضا عبارتين تصدرتا كل عبارة بداية كل جزء من جزأي المجموعة، تمثل كل منهما إشارة دلالية ورمزا إيحائيا للدلالات العامة التي انطوت عليها قصص كل جزء.


العبارة الأولى من (جريمة قتل أخوية) لكافكا: «لماذا لم تكن ببساطة بالونة مليئة بالدم؛ لأمكنني عندئذ أن أجلس عليك وأفرقعك فتختفي مرة واحدة...» – ص 6، في إشارة دلالية واضحة لمظاهر الانتقام الواضحة لشخصيات معظم قصص هذا الجزء، جرَّاء أزماتها الفكرية والاجتماعية والنفسية، والتي تتعامل معها بالقتل أو الانتقام القاسي!!


والعبارة الثانية من (حفلة القنبلة) لجراهام جرين: «الأصوات المسموعة عذبة، غير أن تلك التي لا تسمع أشد عذوبة» – ص 70، في إشارة إيحائية إلى أبطال معظم قصص هذه المجموعة الذين يعانون في صمت، ولا ينتقمون مثل أبطال قصص الجزء الأول، وربما تكون هذه هي الأصوات الأشد عذوبة التي لم تُسْمَع !!


ولو انتقلنا إلى عتبة (العنوان)، فسنجد حدة التجريب قد هدأت كثيرا في نبض شريف عبد المجيد الإبداعي عن عناوين مجموعاته السابقة.


فإذا كانت من عناوين قصصه السابقة (Barcode) و(نظرية كإن) و(حكاية الرجل الذي كلَّم السمكة)، و(قصة في أربع لقطات)، وغيرها الكثير، فأغلب عناوين (الببلوماني الأخير) عناوين واقعية معبَّرة عن مغزى القصص بدون غرابة ظاهرة أو رمز واضح، باستثناء عناوين قليلة تنطوي على غرابة أو رمز، بما يمثل لونا من التجريب بشكل مختلف عن مرحلته الإبداعية السابقة.


فـ (الببلوماني الأخير) مثلا عنوان وُفِّق شريف في اختياره؛ لأن القصة بها غرابة واضحة في مشاهدها السينمائية الممثلة لجرائم قتل كثيرة، والقاتل مجهول، كما أن بطلها غريب في قتله الكثيرين من أجل الحفاظ على الكتب الورقية! وابنته أيضا غريبة في قتلها زوجها ليصبح ابنها وريثا للكتب، ويصبح بذلك (الببلوماني الأخير)، وكل ذلك يجعل من المناسب أن يكون هذا العنوان الغريب عنوانا مناسبا لهذه القصة ذات الأحداث الغريبة بعض الشيء.


و(رائحة الجوافة) أيضًا عنوان ينطوي على مفارقة واضحة، تتمثل في اختيار هذا العنوان لقصة بوليسية مثيرة تمثل جريمة قتل، فالدلالة الإيحائية للعنوان تكشف عن البراءة والنقاء اللذين لا يزالان حلما نبتغيه جميعا، مع هذا الواقع القاسي المشحون، وتؤكد القصة هذه الدلالة بعنوان جانبي أخير، يقول من خلاله السارد: «لا يزال هناك من يزرع الجوافة في مواسمها ويروي الحقول ويروي الحكايات مع أقرانه، بينما تغمرهم رائحة الجوافة» – ص 32.


من التقنيات التجريبية الواضحة في (الببلوماني الأخير) كذلك طرائق السرد الحكائي غير المألوفة، والتي تجاور السرد الواقعي التقليدي، ومن أبرز هذه الطرائق ما يمكن أن نصطلح عليه (السرد السينمائي)، و(السرد بضمير المخاطب).


اتسمت كثير من الحكايات السردية في (الببلوماني الأخير) بطريقة السرد السينمائي، والذي أضحت معه القصة أشبه بمشاهد ولقطات سينمائية مكثفة وعميقة في الوقت ذاته، في تقديم الدلالات الإيحائية المطلوبة في كل قصة.


وتعد كذلك تقنية (السرد بضمير المخاطب) من التقنيات التجريبية التي اعتمد عليها عدد من قصص (الببلوماني الأخير)، والمعروف أن السرد بضمير المتكلم والسرد بضمير الغائب هما الأكثر استخداما بين مبدعينا في النصوص السردية القصيرة والطويلة؛ ومن ثم الاعتماد على هذه التقنية لون من التجريب السردي المثير لانتباه الآخر، كما يناسب القصص المعبرة عن الواقع الاجتماعي والنفسي المأزوم لأبطالها، ولعله يقترب من المونولوج الداخلي، وكأن البطل المأزوم يخاطب نفسه، ليجد حلا لأزماته.


كثيرة هي التقنيات التجريبية التي تعتمد عليها مجموعة (الببلوماني الأخير)، ولعله اتضح من خلال هذا المقال التطور الذي لحق بإبداع شريف عبد المجيد القصصي بعامة والتجريبي بخاصة، ولا غرابة بعد ذلك أن يكون مخلصا للكتابة السردية في فن القصة القصيرة؛ ربما لأنه عاشق لتجريب يتطور عبر الزمن، لكنه لا ينتهي، وكأنه يرى أن هذا الفن المراوغ هو ميدان التجريب الأول بين النصوص. 

اقرأ ايضا

خلال ندوة بـ«الخالدين».. مثقفون: المجتمع يخنق اللغة العربية

الكلمات الدالة

مشاركه الخبر :

 
 
 
 
 
 
 
 
 

 
 
 

 
 
 

مشاركة