عبدالله البقالى
عبدالله البقالى


حديث الأسبوع

ملَكة النقد والحق فى الشك

الأخبار

السبت، 28 مايو 2022 - 08:47 م

عبدالله البقالى

عاشت البشرية جمعاء تجربة متفردة خلال السنين القليلة الماضية، وبِقدر حجم الكوارث والمآسى التى خلفتها هذه التجربة، فإنها ألقت برزمة كبيرة من الحقائق والمسلمات العلمية والتقنية وحتى السياسية، إلى درجة أصحت معها الكثير من الحقائق العلمية ظرفية، بحيث ما أن تعمر حقيقة علمية لبعض الوقت حتى تأتى حقيقة علمية مختلفة عنها، بل ومناقضة لمحتواها العلمى فتنسخها.


والأكيد حالياً، أنّ مفهوم الأزمة الصحية العالمية التى تسبب فيها وباء كورونا الذى هز أركان النظام العالمي، لم يعد له المضمون نفسُه ولا المعنى ذاتُه، وأن العالم ما قبل وأثناء أزمة كوفيد-19 هو غير العالم ما بعد هذا الوباء الخبيث. ولعل كثيراً من البشر اليوم يتساءلون عن جدوى التدابير والإجراءات الصارمة التى اتخذت قبل وإبان الأزمة، وما إذا كانت الضرورة تقتضى كل ذلك التشدد، وبعضهم يستحضر اليوم بكثير من السخرية والاستهزاء تصرفات قيل، إنها كانت ضرورية آنذاك، والتى وصلت حد ملاحقة الفيروس فى الشوارع وفى مقابض الأبواب وفى الخضر والفواكه.
أزمة سارس كوف-2، بقدر ما أرهبت الناس وأخافتهم، وأزهقت ملايين الأرواح، ساهمت إلى حد بعيد فى تقوية ملَكة النقد عند عامة الناس. وهكذا، فإنّ التطعيم الذى كان ضرورياً فى بداية الجائحة وفى خضمها، وكان محل تسابق بين ملايين الأشخاص، وموضع تنافس بين الدول والشعوب، إلى درجة طُرحت فيها قضية العدالة اللقاحية بحدة كبيرة، هى اللقاحات نفسها التى تتكدس اليوم فى المخازن وتتعرض ملايين الجرعات منها للهدر والفساد والتلف بعد انتهاء مدة صلاحيتها، لأنّ الناس أعرضوا عنها، بعدما تعمقت الشكوك لدى عامة الناس من فعالية اللقاحات، وساد الاشتباه فى وجود أهداف أخرى وراء الحرص على تسويقها.
ملَكةُ النقد وجدت فرصتها فى ما يتم الترويج له حالياً من وجود خطر وباء جديد يمثله جدرى القرود، الذى انتظر خفوتَ وباء كورونا، وضعف انتشاره، وبداية العودة التدريجية إلى الحياة الطبيعية التى افتقدها العالم طيلة أكثر من سنتين، ليعلن عن حضوره مخلفا جملة من المخاوف لدى عامة الناس، وهم يتذكرون تفاصيل الحياة الاستثنائية التى عاشوها خلال السنتين الماضيتين. وهو تزامن أو مصادفة يعطيان مشروعية حقيقية لطرح أسئلة حول حقيقة هذا الوباء، وحجم خطورته والأهداف الحقيقية من وراء التسويق له فى هذا التوقيت بالتحديد.
ما حدث قبل سنة ونيّف، يكرس منهج الشك فيما يحدث ويجري. فقد تنبأت ورقة بحثية مشتركة بين مؤتمر ميونيخ للأمن (MSC) ومبادرة التهديد النووى (NTI) صدرت فى شهر مارس من السنة الماضية بالموعد الدقيق والمحدد لانتشار جدرى القرود، بل وتوقعت حجم الخسائر البشرية التى سيخلفها الوباء الجديد. وقيل آنذاك، إن الورقة أعدت ضمن إجراء تمرين افتراضى حول الحد من التهديدات البيولوجية عالية المخاطر، وفحص التأثيرات الموجودة فى هياكل الأمن البيولوجى الوطنية، بما يضمن التأهب والاستعداد لمواجهة الأوبئة.
والمثير حقا، هو أن الورقة البحثية التى اختير لها عنوان (تعزيز النظم العالمية للوقاية والاستجابة للتهديدات البيولوجية عالية النتائج)، تشير إلى أن الكارثة العالمية التالية ناجمة عن سوء استخدام متعمد لأدوات بيولوجية حديثة، أو عبر حادث معمل بشكل أساسي. وشددت على أن تعزيز استعدادات كل دولة لمواجهة هذه التحديات ضرورة إنسانية تصب فى المصلحة الذاتية والجماعية للمنتظم الدولي. والأدهى من ذلك فقد افترضت التجربة الافتراضية للورقة البحثية وجود وباء عالمى مميت يتضمن سلالة غير عادية من فيروس (جدرى القرود) سينتشر على مستوى العالم على مدى 18 شهرا، وتنبأت التجربة بإصابة ثلاثة ملايير شخص بالوباء وبوفاة 270 مليونا فى جميع أنحاء العالم. وحددت الورقة البحثية موعدا لبداية المرحلة الأولى لانتشار الوباء فى منتصف شهر ماي، وستبدأ تجلياته البارزة فى اليوم الثالث من شهر يونيو من السنة الجارية.
ما قيل بالأمس إنه افتراضى أصبح اليوم حقيقة وأمرًا واقعا، حيث توافقت التطورات مع السيناريوهات المحتملة. وتم الإعلان فعلا عن تسجيل حالات بهذا الفيروس فى الموعد نفسه بالتدقيق الذى أعلنت عنه التجربة الافتراضية، ولن نغوص فى التفاصيل الأخرى المتعلقة بالتوقعات التى تتنبأ بانتشار الوباء فى 83 دولة، وإصابة أكثر من 70 مليون شخص، ووفاة 1٫3 مليون شخص بعد مرور ستة أشهر من بداية الانتشار، والتى ذهبت حدَّ الحديث عن العودة إلى تدابير العزل والإغلاق.
نحن إذن أمام احتمالين لا ثالث لهما، أولهما أن أوساطا بحثية معينة ترى بالعين المجردة ما سيعيشه العالم فى المدى المنظور، بالتفاصيل المملة، وأنه تبعا لذلك لا خوفَ على مستقبل البشرية برمتها. فهذه الأوساط تقبض بالغيب وقادرة على مواجهته بتمرينات بحثية. وثانيهما يرجح فرضية المؤامرة التى تتأسس وتستند إلى الترهيب والتخويف لإجبار الأشخاص والشعوب على الاستهلاك، وبما أنه تأكد، خصوصا بعد تجربة كورونا أن المجال البيولوجى هو أكثر المجالات غموضا وخطورة، فإنه الأكثر قابلية للاستثمار المالى والاقتصادي، مما يتيح تحقيق الأرباح المالية الهائلة والطائلة.


لا نملك أن نجزم، وما يعلمه الرأى العام العالمى أن مرض الجدرى لدى الحيوان كما الإنسان معروف، ونجحت العلوم الحديثة فى تحويله من مستوى الوباء فى نهاية سنوات الخمسينات من القرن الماضى إلى مرض عادى يعالج بلقاحات وأدوية أضحت متوافرة، ولذلك لا نملك إلا أن نتسلح بسلاح النقد والشك فى هذا التوقع الدقيق.
أما إدراك الغيب فتلك مسألة تتجاوز العقل لترتبط بالإيمان، وهذا ما لا يقدر كثير من تجار المآسى على إدراكه.
< نقيب الصحافيين المغاربة

 

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة