محمد السيد عيد
محمد السيد عيد


يوميات الاخبار

مصر.. حافظة الحديث النبوى

محمد السيد عيد

الأحد، 29 مايو 2022 - 07:13 م

مصر هى بلد الحديث النبوى الشريف. بدأت قصتها معه منذ صدر الإسلام، ولم تنته حتى الآن. وفى هذه اليوميات نتعرف على بعض ملامح هذه القصة

• نقطة البداية
كان عبد الله بن عمرو بن العاص صحابياً محباً للنبى صلى الله عليه وسلم، ومن شدة حبه له راح يكتب عنه كل كلمة يتفوّه بها. لكن رجالاً من قريش اجتمعوا حوله غاضبين.
- ماذا تفعل يا عبد الله؟
- ألا تعلم أن النبى نهى عن كتابة أقواله حتى لا تختلط بالقرآن؟
- يجب أن تكف عن هذا فوراً.
- إنك تكتب كل شيء تسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله بشر يتكلم فى الغضب والرضا، فلا تكتب كل ما تسمع.
احتار عبد الله، هل يواصل الكتابة أم يتوقف؟ وأخيراً حسم أمره. ذهب إلى النبي. روى له ما حدث. سأله هل يكتب عنه أم لا؟ وجاءه الرد النبوى حاسماً بأن يكتب كل ما ينطق به. «فوالذى نفسى بيده ما خرج منى إلا حق».
وواصل عبد الله الكتابة خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم جمع كل ما كتبه فى صحيفة (كتاب)، وسماها «الصادقة». فكانت أول تسجيل للحديث النبوى فى التاريخ الإسلامي.. يروى التاريخ أن عبد الله بن عمرو بن العاص كان جندياً فى جيش أبيه الذى فتح مصر، وبعد بناء جامع عمرو (أول جامع فى مصر وإفريقيا) جلس عبد الله يعلم الناس الحديث النبوى، وكثيراً ما كان يتحدث عن صحيفته باعتزاز قائلاً «هذه «الصادقة» فيها ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس بينى وبينه فيها أحد» ومن دروس عبد الله بن عمرو بن العاص بدأت قصة الحديث النبوى فى مصر.. ومن الضرورى أن نشير إلى أن عبد الله بن عمرو لم يكن الصحابى الوحيد الذى نزل مصر، فقد أحصى السيوطى فى كتابه «حسن المحاضرة فى أخبار مصر والقاهرة» ثلاثمائة وثلاثة وخمسين صحابياً وصحابية، وكان منهم من سمع من رسول الله وروى ما سمع فحفظ عنه المصريون ما روى من أحاديث.
• نافع
دخل نافع مولى ابن عمر على أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز. حياه بتحية الإسلام. هش عمر له. نهض لاستقباله. كان نافع من الموالى (أى لم يكن عربياً)، لكنه تعلم على يد سيده عبد الله بن عمر بن الخطاب، ونبغ فى العلم، فأعتقه سيده، ولما اشتهر علم نافع أتى إليه الناس من كل مكان ليأخذوا عنه. وها هو أمير المؤمنين شخصياً يدعوه إليه فى دمشق. قال نافع لأمير المؤمنين: خيراً يا أمير المؤمنين؟ فيم تريدني؟
قال عمر: يا نافع، إنك الآن من أعلم أهل الأرض بالحديث النبوى، لذا طلبتك لأكلفك بالذهاب إلى مصر لتعلم أهلها الحديث النبوى، فما رأيك؟
- إذا أمر أمير المؤمنين فليس لنافع إلا الطاعة.
- بارك الله فيك يا شيخنا. سآمر بتجهيزك فوراً.
وشد نافع الرحال إلى مصر. جلس فى جامع عمرو. التف حوله الطلاب ليأخذوا عنه. وواصل نافع ما بدأه عبد الله بن عمرو بن العاص وغيره من الصحابة من نشر الحديث النبوى فى مصر.. ونافع ليس أى محدث، إنه الحلقة الوسيطة فى السلسلة الذهبية فى الحديث النبوى. والسلسلة الذهبية فى رأى الكثيرين هي: مالك عن نافع عن ابن عمر. وهذه الحلقة الثمينة فى السلسلة الذهبية كانت من أكبر المساهمين فى تأصيل الحديث النبوى فى التربة المصرية.
• الليث بن سعد
الليث هو إمام أهل مصر، ولد فى السنة الثالثة والتسعين للهجرة فى قرية قلقشندة من أعمال محافظة القليوبية الحالية. حصل من العلوم فى مصر الكثير فى صدر حياته، وفى العشرين شد الرحال للحج، فلقى فى الحجاز أعلام الحديث والفقه وعلوم الدين، وأخذ عن شهاب الزهرى وربيعة الرأى، ونافع، والتقى بالإمام مالك وصارت بينهما صداقة متينة ومراسلات لا تنتهي. واستمر يتنقل بين البلاد سنوات طويلة لطلب العلم. حين شعر بأنه بلغ النضج جلس للتعليم فى جامع عمرو. ولغزارة علمه، وعلو أسانيده، ودقته فى الحفظ، لم تلبث شهرته أن ملأت الدنيا، فقصده الطلاب، وصار إمام أهل مصر بلا منازع. ووصلت شهرته لأمير المؤمنين المنصور العباسى فطلب منه أن يلى حكم مصر لكنه اعتذر، فقد كان يرى أن رسالته فى الدنيا هى العلم.
ويرى الشافعى أن «الليث أفقه من مالك لولا أن تلاميذه ضيعوه»، وقد ألف ابن حجر العسقلانى كتاباً أسماه «الرحمة الغيثية بالترجمة الليثية»، وأورد فيه جملة من أحاديثه الصحيحة.
• الشافعي
نظر أحد أصدقاء أحمد بن حنبل حوله فى مجلس الشيخ الجليل ابن عيينة فلم يجد صديقه. نهض يبحث عنه. أخيراً رآه يجلس مع رجل أعرابى فى ناحية بعيدة من نواحى المسجد. سار إليه. عاتبه: كيف تترك مجلس ابن عيينة وتجلس إلى هذا الأعرابي؟ قال ابن حنبل: اسكت، إنك إن فاتك عقل هذا أخاف ألا تجده. ما رأيت أحداً أفقه بكتاب الله من هذا الفتى.
- من يكون هذا الفتى؟
- محمد بن إدريس الشافعي. احفظ هذا الاسم، فسيكون له شأن.
هذه هى شهادة ابن حنبل لشيخه الشافعي. والشافعى رجل قرشى من بنى هاشم، ولد بغزة فى العام الخمسين بعد المائة الأولى للهجرة، وكان ذا مواهب جبارة، حتى إنه كان يسمع الكلام مرة واحدة فيحفظه. وقد تعلم اللغة والفقه والحديث والقرآن الكريم والشعر وعلوم عصره بصورة مدهشة، وأسس علم أصول الفقه، وصار علم زمانه. وفى أخريات حياته جاء إلى مصر وقضى بها خمس سنوات، ومات بها، فى العام الرابع بعد المائة الثانية للهجرة.
وقد اطلع بمصر على فقه وأحاديث الليث بن سعد فانبهر بهما، كما طالع أموراً لم تكن عرضت له من قبل، فأعاد النظر فى مؤلفاته. وعلى أرض مصر كتب كتبه الخالدة بصورتها النهائية: الأم، والرسالة، وكتاب السنن، واشتهر أصحابه باسم «أصحاب الحديث»، لأنه كان يغلِّب الحديث على الرأى. وكان تلميذه أحمد بن حنبل يقول: خذوا عن أستاذنا الشافعى ما كتبه بمصر».
وتتلمذ على يد الشافعى كثيرون، واصلوا الطريق بعده كى تبقى شعلة الحديث النبوى متوهجة فى مصر.
• النسائى
استوقف رجال حرس الحدود المصريون الرجل الغريب القادم من جهة الشرق. سألوه: إلى أين يا رجل؟
- أريد الفسطاط.
- فيم تريدها؟
- أنا رجل محدّث، جئت لأعلم بها الحديث النبوى.
- ما شاء الله. ما اسمك؟
- أحمد، أحمد بن على بن شعيب، المعروف بالنسائى.
- النسائى؟ ما هذا الاسم الغريب؟
ضحك الرجل. قال: بلدتى اسمها نسا، بفتح النون والسين، وأنا أنسب إليها فيقال لى النسائي.
- على كل حال أهلاً بك فى مصر. تفضل.


دخل النسائى إلى مصر فى بدايات القرن الثالث الهجرى بعد أن طاف ببلدان الشرق وحصل الحديث النبوى على يد علمائها الثقات، وحفظ كتبهم، وعرف علوم الجرح والتعديل، والصحيح والضعيف والمنكر، حتى صار علماً من أعلام عصره.. تجمع حوله التلاميذ فأملى عليهم كتبه التى ألفها واشتهرت فى أرجاء الدنيا، وعلى رأسها السنن الكبرى، والخصائص، وفضائل الصحابة، وغيرها. وصار كتابه «السنن» واحداً من الستة الكبار فى علم الحديث، تأتى مرتبته بعد صحيح البخارى وصحيح مسلم، لقلة الأحاديث الضعيفة فيه، وقلة الرجال المجروحين.


عاش النسائى طويلاً فى مصر. تجاوز الثمانين. وفى العام الثانى بعد المائة الثالثة للهجرة غلبه الشوق للحج، فشد الرحال، لكنه مر أولاً بدمشق. وهناك خالفه فى الرأى بعض المتشددين فضربوه حتى أوشك على الهلاك، فلما أحس بدنو الأجل قرر الرجوع لمصر، لكنه مات بفلسطين ودفن بالرملة.
• ابن حجر العسقلانى
سنقفز قفزة زمنية طويلة لأن الحديث المتمهل يحتاج إلى كتب كاملة. ها نحن فى العصر المملوكي، وهو أزهى عصور الحديث النبوى فى مصر. وإذا سئلت عن علم الأعلام فى الحديث النبوى فى هذا العصر فقل: هو الشيخ ابن حجر العسقلاني. الملقب بـ «أمير المؤمنين فى علم الحديث». زار ابن حجر الحجاز والشام واليمن، وبدأ التأليف وهو فى ريعان الشباب، وتولى المناصب الرفيعة، ومنها تدريس الحديث والقضاء والخطابة بالجامع الأزهر وغيره.


ها هو الشيخ ابن حجر فى عام 817 للهجرة يجلس فى الأزهر شارداً. سأله أحد تلاميذه: ماذا يشغل بالك يا شيخي؟
- أفكر فى كتاب أراه سيخدم المسلمين فى كل زمان ومكان.


- أى كتاب؟
- أريد أن أشرح صحيح البخارى، فهذا الكتاب هو أدق كتب الحديث النبوى، وفيه من تفسير القرآن والعبادات والأخلاق الشيء الكثير، وشرحه سيفيد الكثيرين. إننى أعرف أنه عمل صعب، سيستغرق أعواماً طوالاً، لكنى مُصر على القيام بهذه المهمة.. استغرق شرح صحيح البخارى أكثر من ربع قرن من الزمان، لكن ابن حجر لم يمل، وفى النهاية قدم لنا عملاً خالداً ينتفع به الناس فى كل زمان ومكان.
وهذا الكتاب ليس سوى واحد من كتب الرجل الجليلة.


• السيوطى
عاش السيوطى فى نهاية الدولة المملوكية، وكان موسوعة تمشى على قدمين. نبغ فى علوم القرآن والحديث واللغة والتاريخ، وترك أكثر من ستمائة كتاب. منها عدد وفير فى مجال الحديث النبوى. لعل أهم هذه الكتب جميعاً هو كتاب جمع الجوامع.
• بلا نهاية
استمر الأزهر الشريف يحمل راية علم الحديث، وهناك أقسام متخصصة الآن فى كليات جامعة الأزهر تزخر بعلماء الحديث الفحول.

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة