نصوص كُتِبَت تحت وطأة القصف: أدب الحرب فى صوره المختلفة
نصوص كُتِبَت تحت وطأة القصف: أدب الحرب فى صوره المختلفة


نصوص كُتِبَت تحت وطأة القصف: أدب الحرب في صوره المختلفة

أخبار الأدب

السبت، 04 يونيو 2022 - 02:16 م

 

بقلم : شعبان يوسف
منذ أن حلّت دولة اسرائيل فى بلادنا، وتم احتلال أرض فلسطين عام 1948، دخل عنصر جديد على بلادنا العربية، وهو عنصر «الحرب»، رغم أن مصر تم توريطها فى حروب سابقة، ولكنها كانت حروبًا بالنيابة، حدث ذلك فى الحرب العالمية الأولى «1914_1918»، كما حدث فى الحرب العالمية الثانية «1939_ 1945»، وذلك لأن الدولة المصرية كانت تحت الحماية البريطانية، وكانت بريطانيا العظمى تعلن أن مصر هى إحدى مراكزها الحربية، لذا كانت الدولة المصرية بنظامها وحكومتها وشعبها، تجد نفسها متورطة فى حرب بالوكالة، حرب مفروضة عليها، وتدفع الثمن عبر وجود الجيش البريطانى فى مصر، وكذلك وجود حلفائه من الجيوش الأخرى، وبالتالى لم يجد المصريون أى حماس لتلك الحروب التى تخوضها الدولة المستعمرة، والتى تحتل البلاد تحت ذرائع سياسية واقتصادية وعسكرية مختلفة، وبالتالى لم تكن الحرب تشغل المصريين، فالحرب ليست حربهم، ولا يهمهم هزيمة أو انتصار المحتل من قريب أو بعيد، بل حدث فى عام 1942 عندما قررت دول المحور بقيادة ألمانيا أن تضرب الانجليز فى أقوى مستعمراتها، وتدخل مصر، ووصل القائد روميل إلى حدود مصر عند العلمين، هتف المصريون «إلى الأمام يا روميل»، وسنجد أن مثقفين وقطاعات من الشعب المصرى انحازوا إلى دخول الألمان إلى مصر، وذلك أملا فى أن يتم تحررهم من الإنجليز فى مصر، ومن المثقفين كان الدكتور عبد الرحمن بدوى، والذى من فرط انحيازه للألمان، كان يقلد هتلر فى كثير من طباعه، ويدعو إلى الثقافة الألمانية، والتى أبدعت فى مرحلة من مراحلها الحالة النازية التى كانت سببا رئيسا فى تلك الحرب الشاملة، وتجددت الحوارات حول تعاطف عبد الرحمن بدوى مع الفكر النازى، والدعاية له فى عقد التسعينات، وذلك بعد أن كتب الدكتور مراد وهبة مقالا فى مجلة إبداع المصرية، وانتقد فيه الدكتور بدوى، ورد عليه الناقد محمود أمين العالم، واعتبر أن ذلك الانحياز لم يكن إلا نوعا من الرومانسية الوطنية التى كان يتمتع بها كثيرون فى ذلك الوقت، وعلى رأسهم أستاذ الفلسفة فى الجامعة المصرية دكتور عبد الرحمن بدوى.

أقصد القول بأن مصر والدول العربية لم تشعر بخطر الحرب المباشر، إلا عندما دخل الاسرائيليون دولة فلسطين، وطرد وشرد الشعب الفلسطينى عبر وسائل لم تكن إلا محرضا كبيرا على حماس الدول العربية بقياداتها وشعوبها وقواها السياسية وجيوشها على دخول الحرب، وذلك لتحرير كامل التراب الفلسطينى، ومن ثم وجد الأدباء بكل ما يكتبون من أجناس أدبية، والفنانون بكل ما يبدعون من مسرح وسينما ولوحات تشكيلية، أنفسهم أمام حرب فعلية، وبالتالى وجدوا أنفسهم أمام مقاومة ذلك المحتل بكل الطرق التعبيرية، فقرأنا شعرا لابراهيم وفدوى طوقان ومعين بسيسو وعبد الرحيم محمود وغيرهم، كما تفتقت الطاقات السردية لكتّاب قصة وروائيين شباب ليضيفوا ويبدعوا ألما جديدا فى الثقافة العربية، وهو الألم الذى سببته تلك الحرب، ومن ثم وجد فى عالم الأدب مصطلح «أدب الحرب» فى الثقافة العربية، والذى أخذ مصطلحا آخر عند الفلسطيين، أقصد مصطلح «أدب المقاومة».


هذان الشكلان فى حقيقة الأمر، أى أدب الحرب وأدب المقاومة، صارا يعملان بقوة فى الثقافة العربية منذ عام 1948، وهناك تفريعات أخرى مثل أدب النكبة، وأدب الهزيمة، وأدب النكسة، وغيرها من مسميات، لكنها فى الأساس تنطلق من معين واحد، وهو معين أدب الحرب، ذلك الأدب الذى راح الأدباء والفنانون يعبرون من خلال عن غضبهم تجاه المحتل الأجنبى، ذلك المحتل فى حالتنا العربية، هو المحتل الاستيطانى اسرائيل، وفى كتابه «الأدب الفلسطينى المقاوم تحت الاحتلال 1948_ 1968»، الصادر فى بيروت عام 1968، يقول القاص والروائى الفلسطينى غسان كنفانى ص 9 «وفى الفترة التى امتدت بين 1948و1968، قدم المثقفون العرب فى فلسطين المحتلة، من خلال أقسى ظروف القمع، والأسر الثقافى، نموذجا تاريخيا للثقافة المقاومة، بكل مافيها من ذلك، بكل ما فيها من استمرار وتصاعد وعمق، وفى الواقع فإن أدب المقاومة_على وجه الخصوص_ لم يكن أبدا ظاهرة طارئة على الحياة الثقافية الفلسطينية، وفى هذا النطاق فإن المقاومة الفلسطينية قدمت، على الصعيدين الثقافى والمسلح، نماذج مبكرة ذات أهمية قصوى كعلامة أساسية من علامات المسيرة النضالية العربية المعاصرة».


ولم يكن الفلسطينيون وحدهم، والذين وقعت عليهم الكارثة بشكل مباشر، هم الذين قدموا أدبا فى المقاومة، أو فى الحرب، بل اختلطت أصوات عديدة فى شتى أنحاء البلاد العربية، خاصة عندما وقع العدوان الثلاثى على مصر، كتب شعراء وكتّاب قصة ومسرحيون، وكتب الشاعر المصرى السودانى محمد الفيتورى دراسة تحت عنوان «الكتاب فى المعركة»، وذلك عدد نوفمبر 1956من مجلة الرسالة الجديدة «المعركة الوحشية الرهيبة، التى خاضتها الشعوب العربية، منذ صبيحة 31 أكتوبر الماضى...إن أقلام الكتاب لم تنخفض لحظة واحدة عن مستوى المعركة، وإنها استطاعت دائما أن تحتل منها دور القيادة الرشيدة الموجهة، اشترك فى هذه المعركة من كتابنا الأساتذة: طه حسين وكامل الشناوى وإحسان عبد القدوس...»، ويرصد الفيتورى بعضا من أسماء الذين شاركوا، وجعلوا من الكلمة بارودا فى معركة المصير، وجاءت فى هذا العدد كثير من المشاركات السردية والشعرية، وكانت أبرز هذه المشاركات قصيدة «يابور سعيد» للشاعر عبد الرحمن الشرقاوى، والشرقاوى كان له حضور قوى فى هذا المجال، وذلك منذ كتب قصيدته الشهيرة «رسالة من أب مصرى، إلى الرئيس الأمريكى» عام 1951، كتبها فى الغربة، عندما كان يدرس فى باريس، ونشرت للمرة الأولى فى بيروت عام 1953، واعتبرها المصريون والعرب صرخة احتجاج قوية فى وجه الغاشم الأمريكى، وفى وجه كل غاشم محتل، وهو يبدأ تلك القصيدة قائلا، أو صارخا، أو هاتفا:
«يا سيدى 
إليك السلام، وإن كنت تكره هذا السلام
وتغرى صنائعك المخلصين لكى يبطشوا بدعاة السلام
ولكننى
سأعدل عن مثل هذا الكلام
وأوجز فى القول ما أستطيع
فأنت معنّى بشتى الأمور
بكل الأمور
وإنى لأعجب لم صوروك حديد الفؤاد بليد الشعور
وأعلم أنك تهوى الزهور
فتنشد ألوانها فى الدماء
وتمشى من الأرض فى حيث شئت 
لتقطف كل زهور الربيع
فتسحق أوراقها اليانعات وتنثرها فوق أرض الشقاء...»
وهكذا جاءت القصيدة التى صنعت لعبدالرحمن الشرقاوى اسما كبيرا فى الشعر العربى، وإذا كان هذا ماقاله فى تلك القصيدة، ففى مواجهة العدوان الثلاثى قال:
«الليل يهبط من جديد
بالرعب والظلمات والفوضى
وسلطان الذئاب، والخراب..
وتسيل من هذا الظلام...
جميع أشباح الظلام..
مسنونة الأنياب تزحف بالكريهة والسموم..
كزواحف العصر القديم!
يا بور سعيد..
هم يهبطون..!
سيدمرون... ويتكون...ويذبحون.. ويسفكون!
لا تتركيهم يزحفون..
واحمى الصغار من الظلام
واحمى الحضارة والسلام
يا بور سعيد..».
وكما هو واضح فى القصيدة، فهى تعتمد بشكل أساسى على عنصرين سادا غالبية ما كتب فيما بعد من أدب الحرب أو المقاومة، العنصر الأول يركز على غشامة وبلطجة العدو فى كل صوره، والعنصر الثانى يؤسس لثقافة التحريض والمقاومة ضد كل ما يحمل الشر لبلادنا ولشعوبنا ولأماننا ولسلامنا، وما بين هذين العنصرين فى أدب أو شعر المقاومة بشكل خاص، يأتى الحديث عن الشعوب التى تم تشريدها أو اغتصابها، والسطو على كافة مقدراتها، ولم يكن الشعر هو فقط الذى يحمل تلك السمات، ولكن السرد والفن التشكيلى والسينما والمسرح والغناء، تم تحميلهم بتلك العناصر التى أصبحت سمات ومواصفات شبه سائدة، وبالطبع حدثت تطورات مختلفة فى مختلف أساليب تلك الفنون المكتوبة أو المرئية، فلم يعد الهتاف الذى كان سائدا هو سيد الكتابة، بل تطورت فنون الكتابة، جاءت بعضها هامسة، أو شارحة، أو تحليلية بشكل ممتع، وجاءت أيضا فنون السرد تحمل صفات فى غاية الأهمية، فعرفنا إميل حبيبى، وتوفيق فياض، وغسان كنفانى، وهم من المؤسسين للسرد الفلسطينى المقاوم، ثم جاءت أجيال أخرى تالية، مثل أحمد عمر شاهين، ويحيى يخلف وربعى المدهون وليانة بدر وسحر خليفة وغيرهم، وانفجرت كتابات كل هؤلاء فى قلب المعركة الواسعة والشاملة والحادة، للدرجة التى تجعل من ذلك الأدب المقاوم، أو أدب الحرب، عناصر وجود، وعناصر لتأكيد ولتجذير ولتكثيف الهوية العربية فى أشكالها القطرية المختلفة، ودائما ما نلاحظ أن هذا الأدب لا يركز على حكايات الحرب فحسب، بل أننا سنجد استعادة تلك الهويات وتأكيدها عبر استدعاء سمات وصفات وتقاليد أصيلة عند الشعب الفلسطينى، مثل الحديث شعرا أو نثرا عن أنواع الأكل والرقص والغناء والألعاب المختلفة، وكلها أدوات مقاومة وحرب ضد الفناء الذى تريده قوى الاستعمار، ولا تأتى هذه السمات المسرودة فى لغة هتافية حماسية تحريضية، ولكنها تطورت بشكل ملحوظ لكى تكون ممتعة ومؤثرة للغاية.


وفى هذا المجال لا نستطيع أن نقول كما يقول كثيرون بأن أدب الحرب لا يأتى سريعا، بل يحتاج إلى وقت طويل المدى، حتى تتضح التجربة، وهناك تصريح أطلقه كاتبنا العظيم نجيب محفوظ عندما سألته مجلة صباح الخير فى أعقاب حرب أكتوبر مباشرة عن مستقبل أدب الحرب، ونشر التصريح فى المجلة بتاريخ 15 نوفمبر 1973، حيث قال نجيب محفوظ: «علينا ألا نتوقع ظهور هذا الأدب فى القريب العاجل... ربما استطاع الإعلام واستطاعت الاعمال الصحفية أن تقدم جانبا من الصورة...

ولكن الحدث يحتاج إلى وقت طويل حتى يتغلغل فى النفس..وأنا أتوقع أن يظهر الأدب المعبر حقيقة عن حرب أكتوبر.. بعد عشرسنوات على الأقل، وبالتالى فسوف يكتبه الجيل الجديد»، وعندما سأله المحرر عن ملامح هذا الأدب، رد قائلا: «هنا أيضا ليس شرطا أن يكون موضوعه هو العبور أو المعارك، وإنما يكون ممثلا للخط الصاعد فى نفسية الإنسان المصرى، بعد أن كان هذا الخط، وفى ظل النكسة، ميالا إلى الهبوط، وقد تكون قصة حب بين تلميذ وتلميذة، معبرة عن الخط الصاعد».


هكذا عبّر نجيب محفوظ عن فكرته الكاملة، خاصة عن التوقيت الذى يحدد عملية إبداع نص أدبى عن حرب ما، وكذلك ليس شرطا_كما يصرّح_ أن يكون ذلك النص مشغولا بالحدث المباشر، وهو الحرب، بل من الممكن أن يتحدث عن قصة حب بين تلميذ وتلميذة، وهكذا تورط نجيب محفوظ فى تصريحات أعتقد أنه قد بولغ فى جزافيتها، وربما أراد محفوظ أن يفلت من محاولة استنطاقه بكلام واضح وصريح عن الكتابات التى كانت تظهر بشكل سريع، وبعضها كان مجرد تلبية لأغراض إعلامية، ولكننا نعرف أن رواية مهمة وبديعة كتبها الراحل مجيد طوبيا، وهى رواية «أبناء الصمت» فور حدوث الحرب، ومن فرط إبداعها تحولت إلى فيلم سينمائى، شهده وأحبه المصريون جدا، وما زال الفيلم حتى الآن يشاهد دون أى إملال، لأن من كتبه مبدع، ولديه خبرة عميقة بالكتابة السردية، وانفعل بالحدث انفعالا جعله يستطيع أن يكتب ذلك النص، إذن العبرة هنا، ليست بالوقت الكافى الذى لا بد أن يفصل الكاتب عن الحدث بفترة طويلة، حتى يستطيع أن يستوعب الحدث ويدرك أبعاده، وهذا الرأى الأخير لا يضع كاتبا فذّا وعظيما كتب معظم أعماله عن الحرب تحت هدير المدافع، بل إنه أبدع أسلوبا فريدا، وأسّس لنوع من الكتابة، وسار خلفه مبدعون كبار من أنحاء المعمورة، ذلك الأسلوب الذى يميل إلى التكثيف الشديد، وينحت العبارة الخبرية، والتى تنم عن الحدث، دون أى مجازات، وربما دون ذلك التأمل العميق، فلا وقت لذلك، ولا مجال للاسترخاء، هناك كاتب يعيش تحت طبول الحرب، وهناك قارئ ينتظر وعجول يريد أن يعرف ويفهم ويستوعب ويستمتع أيضا، كذلك أتت كل الكتابات العظيمة التى كتبها أدباء روس فى ظل حصار ستاليننجراد، فالكاتب يبدع هنا قبل أن يموت برصاص الأعداء، ويريد أن يبلغ رسالته الفنية كاملة، ومن الممكن أن يتم قتله دون أن يفعل ذلك، أى إبلاغ كل أو بعض ما رآه فى شكل فنى شعرى أو سردى، وهذا بعض ما حدث فى أدبنا العربى، وبعد هزيمة أو نكسة 1967، ظهرت نصوص كثيرة، هى ليست مذكرات أو مذكرات لتدوين ما يحدث لحظة بلحظة، ونخصّ بالذكر «مذكرات جندى مصرى فى حرب الاستنزاف»، كتبها الضابط الطبيب أحمد حجى، والذى استشهد فى مطلع عام 1973، هذه المذكرات هى أدب أصيل، تؤكد أن الأدباء الموهوبين الذين عاشوا تجربة الحرب، استطاعوا أن يقدموا نصوصا إبداعية جيدة، ربما تستعصى على التصنيف، لكنها لا تستعصى على الإمتاع والإفادة وإبلاغ الرسالة عبر كتابة فائقة الجمال.


وإذا كانت مذكرات الضابط المقاتل أحمد حجى، والمشارك فى الحرب، انتشرت وتم قراءتها بشكل واسع، رغم تأخر نشرها أكثر من أربعة عشر عاما، حيث انتهى من كتابتها قبل استشهاده فى مطلع 1972، ونشرت المذكرات عام 1986 بعد جهد جهيد، هناك كتابات أخرى كتبت فى ظل الحرب، وأشير إلى الكتابات التى شارك أصحابها فى الحرب، وتم أسرهم فى معتقلات العدو، وكان أول هذه الكتابات، رواية «عودة الأسير»، لكاتب أعتقد أنه غير معروف على مستوى واسع، ولم تأخذ روايته أى نوع من الدعاية، فهو كاتب وأديب لم يكن منخرطا فى الحياة الثقافية، وهو «حسين كامل المحامى»، ومن واقع اسمه، فهو مشغول بالمحاماة، ولكنه سجل روايته هذه، وتقريبا صمت بعد ذلك، والرواية نشرت فى يوليو 1968، أى بعد الهزيمة بعام واحد، يكتب حسين كامل فى مستهل روايته: «لا شك أن هناك نقصا كبيرا فى بلادنا فى أدب الحرب، وإذا كان هناك اقتصاد حرب تفرضه الظروف، فيجب أن يكون ثمة أدب حرب يعاون فى إظهار بعض الحقائق فى أسلوب يقبله الكافة، وإذا كانت نكسة يونيو فى حربنا مع إسرائيل قد لاقت بحرا زاخرا من النقد، فمن الإنصاف أيضا أن يعرف الناس بعض ما لاقى جنودنا فى الميدان، وبعض ما أبدى هؤلاء الجنود من مظاهر الشجاعة المنقطعة النظير، فالهزيمة قد تلحق بالجيش المنتصر بعد انتصاره، وقد ينال الجيش المنهزم انتصارا بعد الهزيمة، ولكن الشجاعة باقية لا تتغير بتغير الظروف...».

هذا الحديث الحميم الذى بدأ به الكاتب مقدمته، يرد على كافة الكتابات والتششنيعات التى قالت بأن المقاتل المصرى استسلم من أول طلقة، وألقى بنفسه فى التهلكة، والرواية تقدم تجربة مهمة حول ماذا فعل المقاتلون الأسرى فى مواجهة معتقلات اسرائيل، وهذا أيضا ما جاء فى روايتى «الأسرى يقيمون المتاريس» للمقاتل فؤاد حجازى، ورواية «خطوات على الأرض المحبوسة» للمقاتل محمد حسين يونس، والروايتان تسردان وتحكيان وقائع لم تتناولها الرواية الشائعة والتى سادت عن هزيمة 1967، من حيث المواجهة الشرسة التى قام بها المقاتلون المصريون فى معتقل «عتليت» الاسرائيلى.


وإذا كانت هناك كتابات ولدت تحت هدير المدافع، أو تحت قبضة العدو، ننتقل إلى تجربة عربية أخرى، عندما اجتاح الاسرائيليون جنوب لبنان فى أغسطس عام 1982، وعبروا بحر الليطانى لتصفية المقاومة الفلسطينية واللبنانية، وجد المبدعون أنفسهم أمام عد مباشر، لا يهدد وجودهم الهوياتى فقط، بل يهدد وجودهم الجسدى كذلك، كتب حسين مروة قائلا: «.. سيولد الشاعر المقاتل الجديد المنتظرسيولد اليوم، سيولد هذه اللحظة، فى هذه اللحظة يتحرك، ينتفض، يشق جدار الرحم العظيم».


وكتب سعدى يوسف: «منذ الساعة الثالثة فجرا، وهذا الطيران اللعين يحوم على العينين والأذنين، يحوم على الرأس المرهق، وحين يأتى الانفجار الذى نتصوره بعيدا، دائما.. يشعر المرء كما لو أن بضعة من جسده تحترق الآن، كم هى متعبة هذه القدرة على التصور!


وكتب كثيرون مثل محمد دكروب وسعد الله مزرعانى ومحمود درويش ومعين بسيسو، ومعظم هؤلاء كتبوا نصوصهم نحت أزيز الطائرات الاسرائيلية، وتحت وطأة المخابئ التى كانت تسترهم وقت القصف الجوى والأرضى، وأعتقد أن كافة النصوص النثرية التى كتبها سعدى يوسف وحسين مروة لم تجد طريقها إلى نشر مستقل، إنها نصوص نادرة، وبديعة، وفى غاية الأهمية، لا تسجل فحسب، ولا تخبرنا فحسب، بل إنها تنقل وجيب القلوب المحبة والعاشقة للحياة، فى لحظات تسعى لقتل كل مظاهر الحياة.


اقرأ ايضا | كيف يُنازل أدب الحرب عوالم الحقيقة والخيال؟

الكلمات الدالة

مشاركه الخبر :

 
 
 
 
 
 
 
 
 

 
 
 

 
 
 

مشاركة