محمد العزبي
محمد العزبي


يوميات الأخبار

قبل النكسة بيوم

الأخبار

الأربعاء، 08 يونيو 2022 - 07:17 م

كتب: محمد العزبي

«غالى شكرى» كانت تنتابه هلاوس ليلية. وهو فى أيامه الأخيرة على سريره بالمستشفى الأمريكى فى العاصمة الفرنسية. متخيلاً أنه فى المعتقل

أيام وسنين الله لا يعيدها.. كان
الضحايا يهتفون بحياة جلاديهم..
صفحات منها أصبحت رواية؛ لن ألخصها لكم أترككم لقراءتها لعلكم تتخيلون الأيام التى عشناها قبل خمس وستين سنة.

لم تكن نكسة ولا وكسة بل عار هزيمة مهينة فى ساعات قليلة على أناشيد النصر المزيفة وأرقام كاذبة عن تهاوى طائرات عدو الأمس واليوم وغدا.
كتبها الأديب الطبيب «إيمان يحيى» بعد روايته «الزوجة اكسيكية» عن عصر يوسف إدريس ونحن معه بعد أن كاد تاريخنا المعاصر أن يندثر.
لن ألخص لكم روايته الجديدة، « قبل النكسة بيوم» ولكننى سأكتب بعض ما عشته وما عانيته إذ تصادف أننى كنت واحدا منهم فى معتقل مزرعة طرة وزنازين القلعة أردد قول الحاكم «لا حرية لأعداء الشعب» أصفق وأصدق حتى اكتشفت أنه لا حرية للشعب:
عنابر المعتقل واحد للوفديين الذين ارتكبوا جريمة السير فى جنازة زعيمهم «مصطفى النحاس باشا».
وعنابر لجماعة الإخوان.. وحجرة لمحامين معروفين تهمتهم الثرثرة.
. واثنتان لعملاء أمريكا..
ووصلت التسميات إلى النشاط المعادى دون تصنيف..
أما قيادات منظمة الشباب التى صنعها النظام فمكانهم القلعة للتأديب والتهذيب والإصلاح بعد أن طالت ألسنتهم بأسئلة صديقة!
وعرفت أيضا أهمية أن يستخدم مفتاح الباب من الداخل أيضا وليس فقط فى جيب الشاويش أينما ذهب!
وعرفت أن الحذاء يصلح مخدة للنوم.. وشاى الصباح يأتى فى جردل مسيح يتصاعد منه بخار يفتح النفس!!

**من مزرعة طُرة.. إلى «تعذيب» القلعة
كانوا كوكبة من الشباب الواعدين الصاعدين. أسمع عن ضجيجهم فى قهاوى وسط البلد. وأقرأ ما يقدمونه هنا وهناك من أشعار وقصص ودراسات. اجتمعوا كلهم فى عنبر واحد. وفى ظروف قاسية لا يخفف منها سوى ضحكاتهم.
لست أدرى لماذا لم يكتبوا عن تلك الفترة وراء الأسوار. حتى «صلاح عيسى» الذى يحقق التاريخ على هواه. وهوانا. وهوى الوطن. وصولاً إلى «ريا وسكينة» لم يقترب من سنوات سجنه والرفاق.

و»جمال الغيطانى» الفتى الخجول الطموح. ومعاناته حبيساً وهو يحلم بدخول عالم الرواية من بابها الواسع. وصولاً إلى العالمية. نسى شهور اعتقاله.. وربما اكتفى بأدبه ورواياته «أوراق شاب عاش من ألف عام» و«الزينى بركات» وفيها «زكريا» كبير البصاصين. يتجسس على مصر كلها. وفيها التعذيب المبتكر فى القلعة «أمس واليوم وغداً».

و«عبد الرحمن الأبنودى» ينشدنا أشعاره رايح جاى فى العنبر الكئيب. ومازال يغرد للجماهير. أحسب أنه لم ينس. ولكنه لم يكتب ما يكفى عن «مزرعة طرة».. مشغول وينشد: شد الحزام على العضام... وقال: «مدد.. يكفينا شر اللى فسد. واللى اتفسد».
و«سيد حجاب» تبلورت ثورته هناك. ولم تعد أشعاره «ياما زقزق القمرى» كانت إدارة السجن تذيعها تقريباً كل صباح من راديو القاهرة، أما نشيد ثورة يناير. أحب أن أسمع منه: «يا مصرى ليه دنياك لخابيط.. ومهولاتى تحب تزيط. ساعة الفرح زغاريد تنطيط. وفى المياتم هات يا صويت. وفى المظاهرات سخن نشيط. وفى الانتخابات تنسى التصويت».

وقصص «يحيى الطاهر عبد الله» أصغر المعتقلين. وأصغر مَن مات منهم فى حادث سيارة سخيف على طريق الواحات ليدفن فى قرية «الكرنك» وكان يحفظ قصصه القصيرة ويقرأها للمستمعين قبل التفكير فى النشر.
ومات «سيد خميس» الذى كان واسطة العقد لأصدقائه الفنانين المشردين.

ومات الناقد الكبير «غالى شكرى» فى باريس بعد سنوات من الاغتراب. كانت تنتابه هلاوس ليلية. وهو فى أيامه الأخيرة على سريره بالمستشفى الأمريكى فى العاصمة الفرنسية. متخيلاً أنه فى المعتقل.

جاء رجل متواضع الهيئة. ربما كانت له صلة وظيفية بالكنيسة الأرثوذكسية. إلى مكتب «غالى شكرى» فى «الأهرام» وقال له: الجماعة يرون أن الله عوضنا بك عن الدكتور «لويس عوض» .. رد غالى: يشرفنى أن أكون «لويس عوض». ولكننى أتمنى أكثر أن أكون «مصطفى النحاس».. شهد اللقاء زميلنا «أسامة الغزولى».

واغترب «صبرى حافظ» أستاذاً بجامعات «خارج مصر».. ثم سافر إلى «سرنديب» باحثاً عن آثار الزعيم «أحمد عرابى» ورفاقه المنفيين فى جزيرة سيلان. واسمها الأخير «سريلانكا».. ولم يذكر مزرعة طرة. ولا حتى دور الفيلسوف الفرنسى «جان بول سارتر» فى الإفراج عن المعتقلين.
.. كانت «حبسة» ممتعة.. بصرف النظر!!

*«قبل النكسة بيوم» الفترة التى اختارها الأديب الطبيب إيمان يحيى موضوع روايته الجديدة من واقعنا السياسى الذى عاشه وشارك فيه وبين النسج الدرامى المتفرد فكانت روايته الأولى «الزوجة المكسيكية» بطلها «يوسف اذريس» والأجواء السياسية مع قيام ثورة يوليو.. أما روايته الجديدة فعن حبسة ما قبل هزيمة يونيو التى «دلعوها» وسموها نكسة!

أحسب أن الدكتور «إيمان يحيى» يواصل الكتابة على طريقته.. ويفوز بجائزة قرائه.. مادام يحكى عن زمن أحلام هائمة ثلاث * وسنوات سبقت هزيمة ٦٧ مليئة بالأحداث وحبلى بالمقاومة. وحكاية كريمة وحمزة وعبد المعطى؛ هى قصة مصر كلها!

حتى لا يربطونك برجل حمارك!!

- سألت يوما «صفية مصطفى أمين: فاكرة فرح بابا؟.. سكتت لحظة قبل أن ترد بصدق ودهشة «إزاى يعنى!»
كنت يومها أقرأ للمرة الثالثة كتاب (التاريخ «أقل» قبحاً)-أسميه «أكثر» -

الكتاب الوحيد الفريد البديع للمهندس «شريف عفت» لم ولن يكتب غيره كما أن ناشره الفنان «محمد بغدادى» لم يُعِد طبعه.. موضوعه حريق القاهرة عام ٥٢ قبيل قيام ثورة يوليو وكان أشهر ضحاياه «فندق شبرد»..

تزوج فيه «مصطفى أمين» من ابنة النائب العالم لبيب باشا عطية وأحيا السهرة فريد الأطرش ومحمد عبد المطلب ورقصت سامية جمال وهدى شمس الدين وتولى عقد القران فضيلة الشيخ حسنين مخلوف مفتى الديار وحضره كثير من الباشوات والوزراء.

كثيرون ترددوا على «شبرد» ملوك وجنرالات.. سياسيون وفنانون.. أطباء وأعيان.. وأدباء لم يتمكنوا من مقابلة جورج برناردشو عندما أقام فيه.. وشارلى شابلن له صورة لابسا «طربوش» على سلم الفندق والمخرج العالمى «سيسيل دى ميل» والنجمة السمراء جوزفين بيكر تختال فى ردهة وحديقة شبرد.
.. ومن السياسيين محمد مصدق رئيس وزراء إيران الذى أسقط شاه إيران لبعض الوقت والجنرال ديجول والمارشال مونتجمرى بطل معركة العلمين.. والملك فاروق.

***

يأتى اليوم المفكر المهندس شريف عفت ليقرأ علينا التاريخ بأسلوب يختلف فالمؤرخ الذى يكتب عن التاريخ الذى يعاصره يخاطر مخاطرة كبيرة لو أنه فى مجتمع لا يؤمن بحرية الرأى والفكر.

يروى قصة المؤرخ الشهير عبد الرحمن الجبرتى الذى التزم الحيدة والموضوعية وكان يعيش فى عصر محمد على الذى كتب عنه «من طبعه الحسد والشر والطمع. لا يصطفى ولا يحب إلا من لا يعارضه».

ماذا فعل به الوالى محمد على؟ أرسل جنوده ليقتلوا ابنه «خليل» وهو خارج من صلاة الفجر فى مسجد شبرا ثم ربطوه برجل حماره ليكون آية للناس ولمن تسوّل له نفسه أن تقول كلمة حق فى حاكم معاصر.
فقد «الجبرتي» بصره حزناً على ابنه ولزم داره حتى مات.

هكذا يتوقف كتاب «تاريخ أقل قبحاً» عند حريق القاهرة فى يوم السبت الأسود عام ١٩٥٢ فمنذ ذلك اليوم بدأ فى مصر عصر جديد لم يشأ أن يخوض فيه مع أنها سنوات طويلة من الهزيمة والنصر والقهر وألغاز مازالت على غموضها بل إن التاريخ لم يكتب رغم اللجان الرسمية التى اجتمعت وانفضت فمن يجرؤ على كتابة تاريخنا دون أن يربط هو نفسه برجل حمار؟!
.. رصد شريف عفت مفارقات تاريخية أقل قبحا وأكثر صدقا مع مجموعة من الصور والرسوم النادرة وطوابع البريد والعملات الورقية حتى إعلانات ذلك الزمان لم يغفلها.

يحظى فندق «شبرد» القديم فى وسط المدينة باهتمام المؤلف رمزا للعمارة والسياحة وملتقى الأحداث بما يسميه «قراءة فى كف فندق» لينتقل إلى القاهرة وكثير من الأبهة مع مهرجان افتتاح قناة السويس وأفراح الأنجال «أبناء الخديو إسماعيل»، ولائم ممتدة وعطايا وهدايا ومشاركة من أبناء البلد الذين أقاموا أفراحهم فى نفس التوقيت.. امتدت الأفراح أربعين ليلة.
.. كل الناس «كانت» تذهب إلى أجمل وأشهر فندق فى العالم.

***

- سعيت إلى المؤلف وذهبت إلى بيته دون سابق معرفة معجبا بكتابه الأول «التاريخ أقل قبحاً» وداعيا أن يبشرنا بكتابه القادم بل كتبه فأصر المهندس شريف عفت على أن كتابه الأول هو الأخير!.. وأصبحنا أصدقاء

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة