د. محمد أبو الفضل بدران مع الأمام الأكبر شيخ الأزهر
د. محمد أبو الفضل بدران مع الأمام الأكبر شيخ الأزهر


بدران بعد حصوله على «التقديرية»: أهدى الجائزة لكل فتاة صعيدية لم تتح لها فرصة التعليم |حوار

الأخبار

الخميس، 09 يونيو 2022 - 07:07 م

عبد الصبور بدر


- د. أحمد الطيب صديقى المقرب.. والإمام من أشد المعجبين بـ «طه حسين»
- أعظم درس حصلت عليه من رجل بسيط اقتحم مكتبى

 

فى آخر ورقة الامتحانات كان د.أبو الفضل بدران يكتب لطلابه بين قوسين «العمل = النجاح».. عبارة تصنع الابتسامة على وجه من ذاكر دروسه، وتقذف الرعب فى قلوب الكسالى، وفى المقابل تكشف عن قاعدة حكمت حياة بدران، ومكنته من تلك القفزات الهائلة التى صنعت منه واحدًا من أهم أساتذة الأدب العربى فى مصر وألمانيا، وأوصلته بسهولة إلى جائزة الدولة التقديرية.

لكن العمل وحده لم يكن السر فى نجاحات بدران العنقودية، بل العمل المرتبط بالحب، حب اللغة الذى بدأ منذ أن كان طفلا يتغنى بقصائد ابن الفارض فى مجالس الذكر، وحب الأماكن التى نشأ وسافر إليها بمكوناتها الطبيعية والحضارية والإنسانية، وحب الأساتذة الذين درس على يديهم، والطلاب الذين تعلموا على يديه، والأصدقاء الذين اختار صحبتهم..

فى هذا الحوار لـ «الأخبار» يحكى د.أبو الفضل عن رحلة بدأت فى الليالى المظلمة التى تنتصر عليها حكايات الأم داخل قرية جنوبية صغيرة، وفى رحاب ساحة صوفية مليئة بالطيبين.. رحلة تبدأ فى كل مرة من مكان وزمن مختلف وتصل به إلى نجاح جديد لتبدأ مرة أخرى.

ماذا تمثل لك جائزة الدولة التقديرية فى هذا التوقيت؟

نقطة ضوء فى تاريخ مسيرتى العلمية والأدبية، الإنسان فى لحظة من اللحظات يحتاج إلى من يربت على كتفه، ويقول له أنت على الطريق الصحيح.

هل أنت رجل محظوظ؟

بالتأكيد هناك توفيق كبير من الله سبحانه وتعالى، ولا أستطيع القول إن ما يحدث لى من تقدير نتيجة لجهدى وعملى فقط، ولكنى دائما كنت أكتب لطلابى فى نهاية ورقة الامتحان «العمل يساوى النجاح».

كيف وضع الصعيد حجر الأساس لشخصيتك الأدبية؟

الصعيد مثل أى بيئة أخرى، ولكنه يتفرد بتقديس الكلمة، وتقديس الشعر، وأتذكر عندما كنت طفلا، تستهوينى أغانى الأفراح، حيث يتحلق النساء، ويرقصن معا، ومسموح لنا كأطفال فقط التواجد بينهن، لنستمع إلى ترديدهن للأغانى، وبمجرد أن يعرفن الوزن والإيقاع، والتفاعيل يؤلفن على نفس القافية والبحر دون دراسة لعلم العروض.

دور الأم

ومن هى الشخصية الجنوبية صاحبة الفضل الأكبر فى دخولك لعوالم الأدب؟

قبل دخول الكهرباء إلى الصعيد، كنا نتجمع حول «كلوب» فى المندرة، ولمبة نمرة 10 فى البيت تعمل بالكيروسين، ضوؤها لا يتجاوز دائرة قطرها عشرة أمتار، فتخيل وأنت نائم فيما يشبه الظلام الذى لا يقطعه إلا صوت الحاكية وهى الأم-أو الجدة-تحكى قصة أبو زيد الهلالى وأبطال السير الشعبية، وتضيف إليه من إبداعها، لأنها لم تكن متمكنة من حفظ النص الأصلى، وإنما توارثته عن أمها وجداتها، كانت هذه الحكايات قبل وصول التلفزيون، هى المحرض الرئيسى للطفل الذى كنته، فكنت أتخيل المعركة وجمال الجازية، خيال لا محدود ويتغير حسب الحكاية، حيث أمى تتحول دون أن تدرى إلى شهرزاد، حتى تهيئنى للنوم.

وماذا عن والدك؟

كنت أمشى معه إلى مجالس الذكر والتى لها الفضل الأكبر فى عشقى للشعر، وكانت عبارة عن صلوات على النبى صلى الله عليه وسلم، ومنظومة أسماء الله الحسنى التى ألفها الإمام الدرديرى «تباركت يا الله»، ثم يبدأ الذكر الذى يستهوينى فيه جوقة المنشدين.

لماذا؟

كنت أسمع منهم أشعار ابن الفارض، والحلاج، وابن عربى، وأسماء كثيرة لم أكن أعرفها، ولم أكن فى تلك الفترة أجيد القراءة والكتابة، ولكنى عشقت هذه الأشعار، وبدون أن أدرى حفظت ديوان ابن الفارض من خلالهم، والعجيب أنهم كانوا يضبطون الحروف وأواخر الكلمات كما كان ينطقها الأصمعى، رغم حصولهم على تعليم محدود، وكان المجلس الصوفى ينتمى للطريقة الخلوتية لشيخها أحمد الطيب الحسانى جد الإمام الأكبر د.أحمد الطيب.

حدثنى عن علاقتك بألمانيا.. متى بدأت.. وكيف مضت؟

كنت أتخيل أن الشعر عربى فقط حتى أتيحت لى فرصة السفر إلى ألمانيا، لأننى كنت الطالب المثالى على مستوى الجامعة، ورئيس اتحاد طلاب كلية الآداب بجامعة أسيوط، وتم اختيارى عن طريق المجلس القومى للشباب عام 1979، ولك أن تتخيل طالب يعيش فى قرية «العويضات» بمدينة قفط، فى محافظة قنا، ويجد نفسه فى برلين، وكانت جولة فى أكثر من مدينة، زرنا هامبورج ، وفرانكفورت وبون وغيرها.

هل كانت صدمة حضارية؟

بل يمكن أن نطلق عليها نقلة حضارية، اتسعت فيها الرؤى، فالأمور هناك أكثر شمولا، وهناك زرت منزل الشاعر الألمانى «جوتة»، ووجدت ديوان «الشرقى الغربى» وعليه خطه باللغة العربية التى كان يجيدها، وداخل المتحف وقفت فى طابور لأحظى بنظرة إلى نفرتيتى، هذه الأيقونة الجميلة التى خرجت من المنيا إلى برلين، وأنا أصيح فى الألمان حولى: هذه جدتى.

وهل كنت تتصور حينها أنك سوف تعود مجددا لتحصل على الدكتوراة من هناك، وتدرس فى جامعات ألمانيا؟

كنت محظوظا بذهابى مرة أخرى إلى جامعة بون، وبون فى تلك الفترة كانت عاصمة ألمانيا قبل أن تنتقل إلى برلين، وهناك قابلت أستاذى البروفيسور اشتيفان فيلد المستشرق الألمانى الكبير، وكانت الدكتوراة عن الخليل بن أحمد، الذى كان يراه أستاذى عبقريا عالميا، لأنه كان من عشاقه، فتتلمذت على يديه، والحظ الأكبر أننى التقيت فى جامعة بون بالمستشرقة «أنمارى شيمل» والتى كتبت عن التصوف أكثر من ثمانين كتابا، فوجدت ضالتى هناك، وهى من عشاق جلال الدين الرومى، وأول من أدخلنى إلى عالمه، وكانت عندما تبدأ فى محاضرة تغمض عينيها، ولا تفتحهما إلا فى نهاية المحاضرة، وكأنها تقرأ من كتاب، وتجيد ما يقرب من 10 لغات.

نوبل أوربا 

ومع ذلك عدت إلى مصر لتدرس الأدب العربى فى جامعة أسيوط؟!

بعد أن انتهيت من الدكتوراة عدت إلى مصر وتلقيت عرضا بالتدريس فى جامعة بون، ولكن رئيس جامعة أسيوط التى كنت على قوتها رفض منحى الإجازة، ولم أرد أن أترك أهلى فى تلك الفترة، ثم حصلت على منحة هيئة الهمبولد الألمانية وهى ما يطلق عليها نوبل أوربا، فذهبت للتدريس فى جامعة بون عدة سنوات وفى جامعة بخوم بكلية العلوم الإنسانية.

ما تفسير كل هذا العشق لألمانيا والذى يظهر دائما فى أحاديثك عنها؟

الأدب الألمانى يهتم بالجانب الروحى، بجانب أن ألمانيا لم تستعمر أى دولة عربية، فكان هناك نوع من التوافق، إضافة إلى أنهم يطلقون على الألمان صعايدة أوروبا.

بصراحة.. ألم تستهوك امرأة ألمانية وتفكر فى الزواج منها والعودة بها إلى مصر؟

عندما كنت فى ألمانيا كتبت قصيدة أقول فى آخرها: «جسدى ينام الآن فى بون وروحى فى قنا والقلب فى أسوان».

هناك ثلاث شخصيات كان لهم تأثير كبير عليك ولا يخلو حديثك من الإشارة إليهم: الأمام الأكبر د. أحمد الطيب، والأديب العالمى جمال الغيطانى، والشاعر عبد الرحمن الأبنودى.. كيف بدأت علاقتك بشيخ الأزهر؟

من خلال أبى الذى كان ملازما لفضيلة الشيخ محمد الطيب الحسانى والد الدكتور أحمد والشيخ محمد، وكنت أذهب دائما إلى الساحة الخلوتية بصحبته، وعندما ينتهى مجلس الصلوات، يبدأ مجلس العلم، وهناك سمعت لأول مرة عن ابن عربى والفتوحات المكية، والدكتور أحمد الطيب هو الصديق المقرب، والصداقة التى جمعتنى به وبأخيه الشيخ محمد محبة متوارثة، وعندما كنت أجلس معه دائما نتحدث عن الأدب والنقد، وبالمناسبة الإمام الأكبر يحفظ العديد من الأشعار، ومعجبا بطه حسين إعجابا كبيرا، وكتب عن ذلك، وكان بالنسبة له يمثل البيان العربى، إضافة إلى أنه قارئ جيد للتراث وفى المقابل لا ينسى المعاصرة، وكما يعلم الجميع هو خريج جامعة السوربون، فجمع بين هذا وذاك.

مع الغيطانى

ومتى بدأت علاقتك بالأديب العالمى جمال الغيطانى؟

قبل أن أذهب إلى ألمانيا تعرفت على الغيطانى من خلال اليوميات التى يكتبها فى «الأخبار»، وفوجئت بأديب مشربه صوفى ويتحدث عن التصوف كما لو كان يعيشه، ووجدت أن كتابته مختلفة، فهى ليست كتابة الأدعياء أو المستصوفين، إنه يكتب عن تجربة، ويمتلك اللغة، ولذلك ربما تتعجب حين أقول لك إن أول لقاء جمع الإمام الطيب والغيطانى جاء عندما دعوت الأستاذ جمال والكاتب مصطفى عبد الله إلى نادى الأدب، فأخبرت الإمام، فأكد علىّ أهمية حضوره إلى الساحة ليسلم عليه، فذهبنا إلى غرب الأقصر بمدينة القرنة، وهناك تناولنا الغداء، وكان حوارا فلسفيا أدبيا نقديا رائعا، وكتب عنه الغيطانى فى يومياته بعنوان « فى ساحة الطيب».

هذا يعنى أنك كنت سببا فى المعرفة بين الإمام الطيب والغيطانى؟

أعتقد أو أظن هذا، لكن كل منهما كان يقرأ الآخر قبل أن يقابله، كما التقيت مرة أخرى بالغيطانى فى جامعة بون بألمانيا، عندما دعاه أستاذى الألمانى اشتفيد فيلد ليلتقى بطلاب الدراسات العربية الألمان، وكانت محاضرة رائعة، ثم تمشينا معا على نهر الرايل وكان من أصدق وأصفى جلسات وحوارات الغيطانى على نهر الراين.

والأبنودى؟!

عندما كنت صغيرا كنت مهووسا بالسيرة الهلالية وأرى أنى واحد من أبطالها، وفق نظرية التلقى التى لم أكن أعرفها فى ذلك الوقت والتى تشير إلى تحويل المتلقى إلى مشارك فى النص، ولذلك استهوانى الأبنودى من خلال تقديمه للسيرة الهلالية فى الإذاعة.

ومتى التقيت به لأول مرة؟

عندما ذهبت إلى القاهرة أول شىء فعلته هو مقابلة عبد الرحمن الأبنودى وأمل دنقل، كل على انفراد، ثم دعوت الأبنودى إلى قنا فى أمسية شعرية، وفى المقابل كان الأبنودى فى قمة سعادته، لأنها كانت أول زيارة له إلى قنا بعد سنوات طويلة.

ثم جاء بعد ذلك ليترأس مهرجان العامية؟

قال لى الأبنودى: «يا عم بدران عايزين نعمل مهرجان لشعر العامية وأنا عارف هسبب لك مشاكل والأكاديميين لا يتعرفون بنا» فوافقت، وقلت له إن الأمور ستسير على خير، وجمع الأبنودى أكثر من 20 اسما من كبار شعراء العامية، ليكتب المهرجان أول اعتراف أكاديمى بشعراء العامية.

المثل الأعلى

كان الطلاب يتعاملون مع د.أبو الفضل فى الجامعة على أنه مثلهم الأعلى.. والبنات يتعاملن معه على أنه فارس الأحلام والجميع يتحلق حوله فى نهاية كل محاضرة وكل منهم يقدم «أوتوجرافا» ليوقعه وكأنه نجم سينمائى أو لاعب مشهور.. ما سر تلك الجاذبية. سألت بدران؟!

أجاب وهو يبتسم: لدى معادلة تقول إذا أحببت الناس عشقوك، وهناك مثل ألمانى يقول «الكوب يكتسب لون المشروب»، وعقلية الطالب مثل الكوب الفارغ كلما ملأته بالعلم والانتماء والخير والمحبة سوف تجنى العلم والخير والمحبة، أتذكر عندما كنت عميدا لكلية الآداب حضر أحد الآباء وكان رجلا بسيطا وأميا، وقال أريد أن أقابل الناظر..

فقالوا له هذه كلية وليست مدرسة اسمه عميد، ودخل على مكتبى ليعطينى درسا ورسالة إلى جميع المثقفين، وهو يخبرنى أن ابنه فى الإعدادية والثانوية كان مطيعا له ويقبل يده ويد أمه، ولكنه عندما ذهب إلى الجامعة رجع إلينا وهو متشدد ويحرم علينا حياتنا، وقال: «أنا مديكم الواد كويس.. انتم اللى بوظتوه..

ومقومتوش بالدور اللى عليكم»..

وأعتقد أن جملته الأخيرة رسالة عظيمة، لأن الرجل الصعيدى لا يأتمن ابنته إذا تأخرت عشر دقائق عن البيت ولا يقبل أن يجلس ابنه على مقهى إلى منتصف الليل، لكنه يأتمن عليهما الجامعة وهما يقيمان لشهور طويلة فى المدينة الجامعية، لأنه يعلم أنهما بين أيدٍ أمينة، وهذا دور التنوير، والتنوير لا يحتاج إلى تعريفات صعبة، إنه ببساطة إعمال العقل من غير توجيه من الغير، ولو عقول شبابنا تعمل وهى قادرة بدون توجيه من هؤلاء الذين يحرضونهم على القتل والتفجير وكراهية المستقبل، فسوف يتحصنون ضد من يوجهون عقولهم إلى عدم تقبل الآخر، وهو ما نطلق عليه التسامح، فهذا هو دور المثقف الحقيقى، ليس بالمحاضرة، ولكن المحاورة.

القاهرة

واجهت حربا شرسة حين توليت منصب الأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة من جانب البعض.. كيف واجهت هؤلاء الذين تعمدوا التشكيك فى قدراتك؟

رد عليهم الأصدقاء والزملاء، وكان أبلغ رد من الأستاذ جمال الغيطانى فى مقاله «عبور» عندما كتب «عنصرية قاهرية»، فضلا عن عبد الرحمن الأبنودى ود.عمار على حسن، وغيرهما الكثير ، ومن العجب أنهم عادوا إلى الحق وكتبوا معتذرين، لأننى دخلت فى معركة لا علاقة لى بها، وأنا أفتح يدى للجميع، فإذا كنت دائما أنادى بتقبل الرأى الآخر فأحرى بى أن أتقبل الآراء التى ضدى، ولكن لا بد أن يكون الرأى قائما على أساس علمى وليس على أهواء أو منافع.
لمن يهدى د. بدران جائزة الدولة التقديرية؟

إلى هؤلاء الذين لم تتح فرصة لهم التعليم لقلة ذات اليد وخاصة فتيات الصعيد، لقد تخرج فى جامعة جنوب الوادى ما يقرب من نصف مليون طالبة، فكم طالبة من هؤلاء كانت سوف تذهب إلى القاهرة فى حال عدم تواجد الجامعة فى نطاق المحافظة ربما أقل من العشر، يجب أن يتكفل رجال الأعمال بتعليم الطالبات الفقيرات، لأنه واجب قومى ودينى، وهذه دعوتى إليهم.

أشكر جامعة الأقصر على ترشيحها لى الأستاذ الدكتور محمد محجوب عزوز وعمداء الكليات وأعضاء المجلس والجامعات التى رشحتنى فى العام الماضى سوهاج أسيوط طنطا وأنا مدين لها بالشكر والاحترام.

اقرأ أيضاً| جامعة جنوب الوادي تشارك في الملتقى الطلابي الإبداعي بالإمارات

 

 

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة