لكني اكتشفت فيه أمراً آخر. ذكَّرني بمقولة نجيب محفوظ الذي سمعتها منه عندما كان يقول أن البشر إما نوع درس الفلسفة. أو نوع لم يدرسها

ما إن قلت أن الكنيسة الإنجيلية تمثل يسار المسيحية حتي انقسم الحاضرون حول ما قلته. من خلال تعبيرات الوجوه والدهشة التي أصابت البعض والفرحة التي عبَّر عنها البعض. أعترف أن من سعدوا بكلامي قلة. ومن رفضوه يشكلون العدد الأكبر. أما المثقف المستنير الدكتور أندريا زكي، لم يعلق علي ما قلته عندما كان يصافحني مودعاً.
وأصل الحكاية أن الهيئة الإنجيلية دعتني لحضور ندوة حول المواطن ودوره في مواجهة تحديات مصر وأخطرها تحدي البقاء. ولا بد من تحية الهيئة علي القيام بنشاط ثقافي. وإجراء حوارات. بل ربما كانت الهيئة الدينية الوحيدة علي مستوي هيئات الإخوة المسيحيين وهيئات الإسلاميين - مع استبعاد كل من يستخدم الإسلام عنفاً وإرهاباً- أقول لا توجد هيئة تعتبر الثقافة جزءاً من عملها. باستثناء الهيئة الإنجيلية التي تعتبر الثقافة ركناً من عملها.
قلت أنني حزين لتأخري في اكتشاف ما تقوم به الهيئة الإنجيلية. ولولا أن الكنيسة الإنجيلية بمدينة نصر تقع بشارع أبو داوود الظاهري بالقرب من بيتي. ودعتني لحفل إفطار في رمضان قبل الماضي مع صديقي الدكتور صابر عرب الذي يسكن في نفس الشارع. ما اكتشفت سماحتهم ولا تقدمهم ولا رؤيتهم التي تسبق غيرهم في فهم الدين باعتباره علاوة علي أنه علاقة بين الإنسان وربه. فهو تنظيم لأمور الحياة. ولا أقول لأمور الحكم. فالحكم مسألة مدنية بحتة يدخل فيها الدين كلما لامست الحياة الشريعة.
الندوة أو اللقاء أداره صديقي ورفيق دربي عبد القادر شهيب. وشارك بالحديث فيه الدكتور أنور مغيث المثقف والمترجم قبل أن يكون مدير المركز القومي للترجمة. ومحمد أبو حامد الذي فاز الانتخابات الأخيرة بعضوية مجلس الشعب عن دائرة الظاهر وباب الشعرية.
وعلي طريقة عبد القادر شهيب في التفكير المنطقي المنظم قال أننا الآن نبني دولتنا الجديدة. ولا بد أن نبحث مسئولية المواطن في البناء. وأن الدولة أرض وشعب وسلطة. وأن دولة بلا شعب لا تسمي دولة. ولا بد من تنظيم العلاقة بين الأطراف الثلاثة: الأرض والشعب والسلطة.
الدكتور أندريا زكي، رئيس الطائفة الذي يرتدي ملابس مثلنا. بدلة وقميص وربطة عنق. بل ويحرص علي أناقته الشخصية ولا يلجأ للزي الديني الذي نجده عند رؤساء الطوائف. بل ربما كان الوحيد الذي كان يسمي رئيس طائفة. الآخرون يقولون عنهم القس فلان. لم يجلس الدكتور أندريا زكي علي المنصة، لكنه وقف من الصالة ليقول أن الندوة تحتفي باستكمال مؤسساتنا في مصر. وأنها تحتفل بأن النظام الجديد اكتملت ملامحه بانتخاب البرلمان الجديد.
قال أندريا زكي أن اكتمال مؤسسات الدولة يرتبط بمسئولية المواطن. وأن الجميع لديهم مسئوليات. الإعلام لديه مسئولية. رجل الدين لديه مسئولية. المجتمع المدني عنده مسئولية. وأن الهيئة الإنجيلية تقوم بمسئوليتها الوطنية عندما تخصص هذه الندوة لمناقشة المطلوب من المواطن المصري إزاء المرحلة الجديدة التي نتوقف أمامها.
كنت أتصور أنني أعرف أنور مغيث. فهو شاب تستريح لملامحه ما إن تراه. وترغب في الحديث معه. علاوة علي حرصه علي أناقته الشخصية. ما من مرة رأيته فيها إلا كان يرتدي الملابس الكاملة، حتي لو كنا في عز الصيف. وربطة عنقه تميز ملابسه التي لم أره بدونها. علاوة علي أنه الشقيق الأصغر لصديقنا كمال مغيث.
لكني اكتشفت فيه أمراً آخر. ذكَّرني بمقولة نجيب محفوظ الذي سمعتها منه عندما كان يقول أن البشر إما نوع درس الفلسفة. أو نوع لم يدرسها، ونجيب محفوظ من الذين درسوا الفلسفة. كان يقول لي إن دراسة الفلسفة تهب دارسها قدرة علي التفكير المنطقي وربط المسببات بالنتائج والخروج برؤي نهائية من أي قضية عابرة تمر بنا. أي أن دارس الفلسفة قادر علي الوصول إلي العمق ولا يبقي علي السطح.
ورغم أن أنور مغيث جاء لأن صديقنا وزميلنا وزير الثقافة حلمي النمنم لم يتمكن من الحضور بسبب ارتباط طارئ. إلا أنه لم يحمل رأياً مكتوباً من قبل وزارة الثقافة. بل تحدث عن موضوع الندوة حديث رجل يقف علي أرض الفلسفة لينظر إلي الواقع.
قال أنور مغيث أن اسئلة الفلسفة ثابتة. ولكن الإجابات متغيرة من عصر لعصر. وسؤال الليلة طُرح منذ سنوات. لكن الإجابة عليه تتغير من زمن لآخر. وقدَّم مفهوماً للمواطن وللمسئولية ولطبيعة التحديات وطريقة التعامل معها. واستحضر خلال كلامه آراء تبدأ من أرسطو وأفلاطون. وتصل إلي أحمد لطفي السيد، الذي أوافقه في أن الرجل سبق زمانه وعصره ونحن نظلمه كثيراً عندما ننظر إليه كسياسي أو كصاحب جريدة.
ما كتبته انطباعاتي عن الندوة فقط