إيهاب الحضرى
إيهاب الحضرى


وجـع قلـب!!

إيهاب الحضري

الخميس، 16 يونيو 2022 - 07:18 م

الأماكن نفسها أصبحتْ متباعدة رغم تطوّر وسائل الانتقال. هل هو زحام الشوارع أم تكدّس العقول والقلوب بمشاغل تسرقنا من أنفسنا؟
جرّاح مُحرّكات

الخميس:

أخيرا تسلّمتُ السيارة. أقودها عبر الطريق الدائرى قاطعا المسافة من الورّاق إلى مصر الجديدة. أمرّ بمناطق مُصنّفة على أنها من الجيران السبْعة «الذين أوصى عليهم النبيّ حسبما يقول تراثنا الشعبي»، لكنى لم أزُر بعضها منذ أعوام طويلة. أصدقاؤنا العرب يعتقدون أننا نطوف المدينة القاهرة ليل نهار، ولا يعلمون أن زياراتنا لأحيائها تعتمد على مبدأ «الضرورات تبيح الزيارات»، حتى إن هناك أصدقاء انقطعت لقاءاتى بهم منذ سنوات، وصارت علاقاتنا مجرّد تعليقات مُتباعدة على «السوشيال ميديا». الأماكن نفسها أصبحتْ متباعدة رغم تطوّر وسائل الانتقال. هل هو زحام الشوارع أم تكدّس العقول والقلوب بمشاغل تسرقنا من أنفسنا؟

أقود بقلق. أجْرت السيارة عدة جراحات فى الفترة الأخيرة، وكل مرة يطمئننى طبيب المُحرّكات «الميكانيكي» بأن العملية نجحت وأن كل شيء على ما يرام. لكن يبدو أن عدوى الأخطاء انتقلت بين المهن والحرف المُختلفة. أقوم بتغيير الجرّاحين فى محاولات لاهثة لإنقاذ الموتور من سكتة تصيبه بالموت، وتهدّد مواردى المالية بالجفاف! بعد فشل عمليات القلب المفتوح، فكّرتُ فى عملية «زرع موتور»، تمنح السيارة فرصة البقاء على قيْد الحياة، غير أن الصديق العزيز السيد شكرى نصحنى بتأجيل تنفيذ الفكرة، واللجوء إلى «استشاري» موثوق به، وأشار إلى أن العلاج الصحيح يُمكن أن يغنينى عن مخاطرة زراعة قلب جديد للسيارة. أكّدتُ له أن أول جرّاح تعامل معها ظل بارعا على مدار السنوات الماضية، لكن السيارة لم تسترد صحتها على يديه، بل زادت آلامها. رجّحتُ أن زيادة الإقبال على الرجل اضطرته للاستعانة بمساعدين أقل خبرة، دون أن يبذل جهدا فى الإشراف عليهم، رغم أن أى خطأ بسيط قد يؤدى إلى كارثة، فالمُحرّك هو قلب السيارة البعيد عن العين، لا نُدرك ما يدور بداخله، ويظل يتداعى إلى أن يصاب بالسكتة فجأة ذات رحلة.

تمضى المركبة بسلاسة تمنحنى بعض التفاؤل، أتمنّى أن يأتى العلاج الأخير بفائدة، القلق يشغلنى عن إذاعة الأغاني، رغم أنها تذيع أغنية مُحبّبة إلى قلبي، تندب فايزة أحمد حظّها، وتُلحّ فى طلب شهادة المحيطين: «خلّيكوا شاهدين على حبايبنا»، أغنية توجع القلب من غدر أحباب يُدمنون صناعة الوجع، بتكرار تصرفات تؤلم شركاءهم فى قصص الغرام، على غير العادة لم أستسلم لتداعى المعاني، فوجع قلب سيارتى أهم من لوعة فؤاد أى عاشق، والمثل يقول: «عُضّ قلبى ولا تعض موتورى»!!

ريا وسكينة

الجمعة:

نُتابع المسرحية على إحدى الفضائيات المُتناثرة. نضحك من القلب وكأننا نشاهدها للمرة الأولى، رغم أننا نحفظ جُملها ونتبارى فى ترديدها قبل المُمثلين. كالعادة تنتابنى حمّى التفكير فتسلبنى متعة المتابعة.

يدور العمل الفنى حول قاتلتين أثارتا الرعب فى الإسكندرية مطلع القرن الماضي. بالتأكيد نالتْ كل منهما لعنات الآلاف وقت الكشف عن جرائمهما، غير أن الفنّ جعلنا نتعاطف معهما، باعتبارهما ضحية ظروف جعلتْ أول عملية قتل اضطرارية، ثم أصبحت الأرواح رخيصة بعدها، مقارنة بحصادهما من المصوغات الذهبية. نُقهقه ونحن نتابع التمهيد لكل عملية قتل جديدة، ونتمايل مع ألحان بليغ حمدى التى تجعلنا نشعر أننا أمام عمل رومانسي! حتى أن كثيرين منا أصبحوا يضيقون بمشاهد الميلودراما، عندما تخرج بالمسرحية- فى مرات نادرة- عن مسارها الكوميدي. 
نحن مغرمون بالضحك ونرفض كل ما يُذكّرنا بأزماتنا.

قديما سيطرتْ مقولة أن المصريين يعيدون تدوير مآسيهم، ويُحوّلونها إلى سخرية لاذعة. شعب يتحايل على الوجع بالنُكتة، ويقهر الألم بالأمل دون ضمانات تدعم ذلك. قبل سنوات كان السؤال الأساسى كل صباح: «سمعت آخر نُكتة؟». لا أذكر تحديدا متى كانت المرة الأخيرة التى استمعتُ فيها لنُكتة! اختفت الدعابة وحلّت مكانها عبارات سمجة، تعتمد على الإفيه المُفتعل، الذى يحاول سرقة ضحكاتنا بالإكراه، رغم أن أهم شروط السخرية هى التلقائية، فإذا غابت تحوّلت الدعابات إلى ابتذال بنكهة التنمّر.

أفيق على مشهد الأكل الذى يجمع سهير البابلى وأحمد بدير. يأكل عبد العال بشراهة تجعل سكينة تخرج عن النص، وتؤكد أنه يخالف تعليمات المُخرج. نضجّ بالضحك كل مرة رغم مرور عشرات السنين على أول خروج صريح عن النص. عندما نجح حاول الكثيرون تقليده، منهم من حالفه التوفيق وغالبيتهم أصيبوا بالفشل. الفارق بين النتيجتين كان بسبب الشعرة الفاصلة بين التلقائية والافتعال. الأمر نفسه ينطبق على كل أمور حياتنا، بتفكير سريع يُمكن أن نرصد تراجع الابتسامة فى حياتنا، الأزمات ليست سببا وحيدا، فنحن شعب عايش الأزمات حتى أدمنها، وكثيرا ما استخرج منها كسرات السعادة!

سجون الأحلام

لماذا نتابع العمل الفنى نفسه مرّات كثيرة..

ولا يمتد ذلك إلى الكتب؟ حتى المغرمون بالقراءة يكتفون عادة بمطالعة الكتاب مرة واحدة، قد يرجعون لبعض فصوله عند الحاجة، لكنى شخصيا لا أذكر أننى قرأت رواية أكثر من مرة مهما جذبتني. حدث ذلك فى أحوال نادرة، وبفارق سنوات طويلة بين القراءتين، ربما لارتباطى بندوة تتطلّب أن أتذكّر مضمون العمل الأدبي، مثلما جرى قبل شهور مع رواية «البوسطجى» للكبير يحيى حقي.

لو لم أكن مشاركا فى ندوة بمعرض الكتاب لظللتُ مكتفيا بالقراءة الأولى، ولما أعدتُ الاطلاع عليها.

وقتها لم أكن سأكتشف تفاصيل كثيرة غابت عنى فى القراءة الأولى، عندما كنتُ أصغر سنّا وأقل خبرة، بخلاف ذلك تظل الكُتب حبيسة على رفّ فى مكتبة، أو أسيرة صندوق نعتبره ملاذا مؤقتا لحين الانتقال لمكان جديد أكثر رحابة، لكن الصندوق يتحوّل مع الوقت إلى سجن دائم لحُلم الانطلاق إلى سكن أفضل!

تشغل المكتبات حيزا فى منازل عشّاق القراءة، بينما يحتل التليفزيون مساحة محدودة، ورغم ذلك نعشق زحام الكتب التى قد نهجرها لسنوات، ونتجاهل نظراتها المليئة بالأسى، وهى تتابع تهافتنا على أجهزة صمّاء حديثة، لا تمتلك حيوية التليفزيون، لكنها تخطفنا من أقرب المحيطين بنا!

طمأنة بهاء الدين

الأربعاء:


يطالعنى منشوره على «فيس بوك». يتحدث الدكتور زياد بهاء الدين عن دعوته لحضور اجتماع رئيس الوزراء، لإطلاق المسودة الرسمية لـ «وثيقة ملكية الدولة». الاجتماع منح السوشيال ميديا مادة ثرية لضخ الكلام. قليل من الحديث الجاد وكثير من الاستنتاجات التى لا تعتمد على أساس.

المخاوف تُسيطر على البعض، يخشون من التخلّى عن أصول ارتبطت بوجدان جيل كامل.

فى المقابل يسخر آخرون من عواطف فقدتْ صلاحيتها فى زمن تحكمه المادة، خاصة أن هناك شركات لم تعُد تستجيب لكل محاولات إنعاشها.

الخسائر من وجهة نظر هؤلاء سلبتْنا رفاهية مشاعر الحنين. التصريحات الرسمية تؤكد أن التخارج لا يعنى بيع الأصول، غير أنّ ممارسات حكومات الماضى جعلت القلق مُزمنا.

فى زمن ما، جرتْ عمليات لاهثة لبيع القطاع العام، ثارت اعتراضات على بيع شركات رابحة أو قادرة على الربح إذا وجدتْ من يُحسن إدارتها، وبالفعل حقق المشترون مليارات الجنيهات من أموال يُفترض أنها كانت حقا أصيلا  للشعب.
لم ينتبه الكثيرون إلى أن الإعلان لا يُشير إلى صدور الوثيقة بشكل نهائي، بل يكشف عن مسوّدة مطروحة للحوار عبر ثلاثة شهور.

نحن إذن لسنا أمام قرار، بل مُقترح مطروح لنقاش بين المؤيدين والمعارضين، وهو أمر مهم يتطلّب جهدا إعلاميا موازيا، باستضافة خبراء اقتصاد من كل الاتجاهات، وعرض مضمون الوثيقة بشكل مُبسّط، يسهل على أمثالى فهمه، وهو ما دعا إليه الدكتور بهاء الدين فى منشوره قائلا: «الموضوع مهم، والوثيقة- حتى لو لم تصدر فى شكل قانون أو قرار تقليدي- ستُمثّل التزاما سياسيا واقتصاديا على الدولة».

لهذا أكد على ضرورة مناقشتها بجدية، وأشار إلى تعليقات بعض المُهتمين ممن اعتبروها مجرد برنامج جديد للخصخصة باسم مختلف. يتفقّ بهاء الدين مع الوثيقة ويراها خطوة على الطريق الصحيح، وأنها: «استجابة لما طالبنا به خلال العامين الماضيين من ضرورة تحديد دور الدولة فى النشاط الاقتصادى لا إلغاؤه أو تقليصه تماما، لأن هذا فرْض غير واقعى وغير مطلوب». 

شخصيا أثق فى زياد بهاء الدين، فهو خبير فى مجاله، كما أنه تشرّب الوطنية عن والده الكاتب الكبير أحمد بهاء الدين، وأعترف أن كلماته قضتْ على بعض قلقي، ويبقى الدور على الحوار البنّاء فى إزالة ما تبقى من مخاوف، وهى بالمناسبة مخاوف مشروعة لا ينبغى أن يُواجه أصحابها بالهجمات المُضادة، بل بالمنطق الذى يبث الطمأنينة فى القلوب، ويقطع الطريق على تأويلات بصبغة الشائعات الموجّهة، وفى الوقت نفسه يواجه هواة الرقص على إيقاعات التطبيل!

جُرعة تفاهة

أقلّب القنوات بحثا عن فيلم «أكشن» أجنبى يشغلنى عن دوامات الحياة. فى أوقات محددة أهرب من الفن الجاد إلى الأعمال الهزلية. العقل يحتاج أحيانا إلى بعض السطحية كى يتخلص من الضغوط. تقفز فايزة أحمد من الشاشة، وكأنها تثأر لكرامتها الفنية التى أسأت إليها بتجاهلى قبل أسبوع، لانشغالى بآلام سيارتي. أتمدد على السرير وأسمعها تشدو: «خليكوا شاهدين على حبايبنا.. بيدوّروا عاللى يتعبنا خليكوا شاهدين.. وبقالنا سنين فى الهوى تايهين ما احناش عارفين نرتاح مع مين».

إذا كان كل العُشاق يصرخون بالشكوى فلمن كُتبت السعادة على سطح الكوكب؟ أتمرّد على الأسئلة الوجودية، أستأذن المطربة المبدعة وأقلب القناة، وأستعين على قضاء ما تبقى من ليلتى بالبحث عن جُرعة تفاهة!

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة