محمد السيد عيد
محمد السيد عيد


يونيو.. ذكريات شاهد عيان

محمد السيد عيد

الثلاثاء، 21 يونيو 2022 - 06:28 م

لكن الحقائق سرعان ما ظهرت، وخرج علينا عبد الناصر فى 9 يونيو ليعلن أننا أصبنا بنكسة، وأنه مسئول عما حدث، ويتنحى عن حكم البلاد

 فى السادس من يونيو 67 كنت طالباً فى السنة الثانية بكلية الآداب جامعة الإسكندرية. صباح هذا اليوم كنت أسير فى محطة مصر، وجدت فى الشارع جواً غير عادى. أحد أصحاب الدكاكين أخرج الراديو إلى الشارع، وتجمع الناس حول الراديو بصورة غير مألوفة. بين حين وآخر يصيحون بصوت مزلزل: الله أكبر.
إقتربت منهم. سألت أحدهم: فيه إيه؟
قال: الحرب قامت ووقعنا خمسين طيارة، والدعك شغال.
كانت الأيام السابقة تحمل نذر الحرب بيننا وبين إسرائيل، وهاهى الحرب تشتعل. والمهم أن ثقتنا فى جيشنا كانت بلا حدود. تعودنا أن نرى الاستعراضات العسكرية فى يوليو من كل عام ونمتلئ فخراً. وكنا نسمع عن الصاروخ القاهر والصاروخ الظافر وعن قدرتهما الفتاكة، وقام أحد الشعراء بكتابة أغنية عنهما، جاء فيها: الصاروخ فات ع القمر، قال له انتظر... إلخ . أين ستذهب إسرائيل مع القوة المصرية الجبارة؟ بعض الناس أخذهم الحماس فكتبوا على الحوائط: رحلة إلى تل أبيب يقوم بها جيشنا المصرى. بعضهم كتب: نزهة إلى تل أبيب. كانت النفوس كلها أمل واستبشار.

لم تكن هذه هى المرة الأولى التى أحضر فيها حرباً. حين كنت فى المرحلة الابتدائية حضرت حرب 56، ولازلت أذكر الطلقات الكاشفة التى كانت تضيء السماء، ومناداة المتطوعين: طفوا النور. وها هى الحرب الثانية ليس بينها وبين الحرب السابقة غير أحد عشر عاماً.
بدأت أتابع الأخبار. لم يكن التليفزيون قد دخل البيوت بكثرة. كان أصحاب التليفزيونات يفتحون بيوتهم فى أوقات النشرات الإخبارية للجيران ليتابعوا ما يحدث.

بعد أيام سمعنا خبراً يقول إننا تراجعنا لخط الدفاع الثاني. لم نتخيل أننا هزمنا. قلنا: لابد أنها مسألة تكتيكية، فالحرب خدعة. لكن الحقائق سرعان ما ظهرت، وخرج علينا عبد الناصر فى 9 يونيو ليعلن أننا أصبنا بنكسة، وأنه مسئول عما حدث، ويتنحى عن حكم البلاد. بعد لحظات، لا أقول دقائق، خرجت الجماهير فى حينا الشعبى هادرة إلى الشوارع تهتف باسم ناصر، وتطلب منه ألا يتنحي. ولم يكن خروجها فى حينا وحده، بل فى مصر كلها. وفى رأيى أن سلوكهم كان مبرراً، فقد اعتمدنا على عبد الناصر طيلة السنوات الماضية، صار هو الأب وولى الأمر الذى نرجع إليه فى كل شيء ونثق أنه سيخلصنا منه.

السكك الحديدية أعلنت أن القطارات مجانية إلى القاهرة فاندفع الناس بأعداد خيالية إلى القاهرة ليطالبوا عبد الناصر بالبقاء. كان منظر القطارات مذهلاً. الناس تملأ العربات، تتعلق فى أبوابها، تقف فوق أسطحها. الكل يريد أن يصل صوته لعبد الناصر كى يتراجع عن التنحي. إعتدى بعضهم على منزل زكريا محيى الدين الذى أوكل إليه عبد الناصر مهمة الحكم فى الفترة الانتقالية، ورجع عبد الناصر للحكم باستفتاء شعبى تلقائى لم يحدث مثله فى التاريخ لقائد مهزوم.

أغنيتان

حين كان الشعب يتجرع مرارة الهزيمة، ويكتشف كل يوم المزيد من الحقائق عنها، كتب الشاعر صالح جودت قصيدة عصماء فى عبد الناصر، لحنها رياض السنباطي، وغنتها أم كلثوم، يقول فيها:
«قم واسمعها من أعماقي
فأنا الشعب
إبقَ فأنت السد الواقي
لمنى الشعب
إبق فأنت الأمل الباقي
لغد الشعب
أنت الخير وأنت النور
أنت الصبر على المقدور
أنت الناصر والمنصور
إبق فأنت حبيب الشعب»
نعم قال له: أنت الناصر والمنصور فى عز الهزيمة، ولأنه لم يكن صادقاً فى قوله فقد لعن كل مافعله عبد الناصر بمجرد وفاته. سامح الله صالح جودت.
الأغنية الثانية التى كانت تذاع بشكل دائم هى أغنية صورة للفنان عبد الحليم حافظ، ومن كلماتها:
«صوره صوره صورة
كلنا كده عايزين صوره
صوره صوره صوره
تحت الرايه المنصوره
صوره للشعب الفرحان
تحت الرايه المنصوره»
ولا أدرى أى راية منصورة كانوا يتحدثون عنها. لكن هذا ما كان.

شاعر النبوءة
على العكس من هؤلاء الذين تغنوا بالمنصور والراية المنصورة، كان هناك شاعر شاب أبعد نظراً، هو الشاعر أمل دنقل، كتب قصيدة سماها «البكاء بين يدى زرقاء اليمامة» وجعلها عنواناً لديوانه، وتنبأ فيها بما هو قادم، دون أن يلتفت إليه أحد.
زرقاء اليمامة فتاة يمنية تروى الحكايات عنها أنها كانت حادة البصر، ترى الأشياء البعيدة التى لا يستطيع الآخرون رؤيتها، وذات يوم أخبرت قومها أنها ترى من بعيد أشجاراً تسير، فسخر منها القوم، ولم يصدقوها، لكنهم بعد أيام تبينوا أن هذه الأشجار كانت حيلة من الغزاة الذين جاءوا لغزوهم متخفين خلف الأشجار. حينئذ شعروا بالندم لأنهم لم يصدقوا زرقاء اليمامة، لكن حيث لا ينفع الندم.
أخذ أمل دنقل قناع زرقاء اليمامة ليقول لقومه إن فى الأفق هزيمة قاسية قادمة، ويتحسر لأن قومه لا يصدقونه. ويخاطبها قائلاً:
«أيتها العرافة المقدسة
ماذا تفيد الكلمات البائسة؟
قلتِ لهم ما قلتِ عن قوافل الغبار
فاتهموا عينيك يا زرقاء بالبوار
قلت لهم ما قلت عن مسيرة الأشجار
فاستضحكوا من وهمك الثرثار
وحين فوجئوا بحد السيف: قايضوا بنا
والتمسوا النجاة والفرار»
هكذا قال أمل دنقل، لكن بكل أسف، لم يسمعه أحد.

عودة للذكريات
بعد انتهاء الأكاذيب الإعلامية تبيننا أن المطارات المصرية تم ضربها وإفساد ممرات الهبوط والصعود بها، كما ضربت الطائرات على الأرض، وتم التحقيق مع قادة الطيران، وصدر الحكم على قادة الطيران، لكننا-كطلاب فى مرحلة الشباب-رأينا أن الأحكام لا تناسب حجم الكارثة، لذلك قمنا بمظاهرات فوق أى تخيل. جاء المسئولون للحوار مع الطلاب، فقام الطلاب باحتجازهم فى غرفة الحرس بكلية الهندسة، وواصلوا الاعتصام. وأخيراً أرسل عبد الناصر القوات الخاصة إلى قاعة العزاء المواجهة لكلية الهندسة، وأمهل الطلبة حتى الساعة السادسة مساءً، ومن يبقى بعد هذا الموعد فسوف تتعامل معه قوات الأمن، وخرج الطلاب آمنين. بعدها عقد عبد الناصر لقاءً مع الطلاب فى القاعة الكبرى بجامعة القاهرة، وحضرت اللقاء باعتبارى عضو اتحاد الطلاب، وخرجنا من اللقاء وقد ارتاحت نفوسنا، كأن شيئاً لم يكن.

الزينى بركات
اهتم الكتاب فى هذه الفترة بتشخيص ما حدث، وكتبوا أعمالاً فنية ذات قيمة، تستحق الوقوف عند بعضها. وأول عمل يستحق أن نقف عنده هو رواية الزينى بركات لجمال الغيطاني. كتب الغيطانى هذه الرواية وسط الأحداث الساخنة. ويرى أن سبب هذه الهزيمة هو تخلى أجهزة الأمن عن متابعة التهديدات التى تحيق بالدولة من أعدائها الخارجيين، وتسابقها فى التسلط على الشعب لحد معرفة العلاقات الحميمة بين الرجل وزوجته. وقد حولتُ هذه الرواية لمسلسل تليفزيونى ليتذكر الناس فى كل زمان خطورة تسلط أجهزة الأمن على المواطنين.

الإعلام
دخل الإعلام فى هذه الفترة فى اختبار صعب، فهو لا يستطيع شحن الناس، لأن البلد تحتاج لسنوات لإعادة بناء القوات المسلحة، وكان البديل هو التسلية، وإضحاك الناس بقدر الإمكان. أذكر أن الإذاعة قدمت فى هذه الفترة مجموعة من مسلسلات فؤاد المهندس التى تلهى الناس ولا تقول شيئاً، مثل شنبو فى المصيدة، والعتبة جزاز وغيرها، ولم تلبث هذه المسلسلات الإذاعية أن تحولت إلى أفلام حققت إقبالاً كبيراً. وقد سألت الإعلامى الكبير على عيسى بعد ذلك عن السر فى هذا الهزل الذى كان يقدمه الإعلام فقال لي: الناس كانت لا تريد أن تسمع شيئاً جاداً لأن لديها ما يكفيها من الهموم، لذلك قدمنا لها مسلسلات لا تقول شيئاً..  وكانت فى أوروبا فى هذه الفترة موضة الخنافس، وهى موضة أثرت فى ملابسهم وحلاقة شعورهم، وتصرفاتهم، فالتقطتها وسائل الإعلام وروجت لها، وصار الخنافس هم النموذج الذى يقلده الشباب فى مصر. وأذكر أنى كنت أحضر فرقة تدريبية أثناء تجنيدى، قبل مايو 71، وأن الفريق فوزى أحضر لنا بعض الوزراء ليحاضرونا، وكان منهم وزير الداخلية، ودار حوار معه عن الإعلام، وما يقدمه من أعمال الغيبوبة والخدر (هذا هو التعبير الذى قيل وقتئذ)، فكان الرد أن الشحن الزائد غير مطلوب الآن.

التجنيد
كانت الدراسة فى الجامعة مضطربة تماماً فى هذه الفترة، وتوقفت خلال السنتين اللتين قضيتهما فى الجامعة بعد النكسة أكثر من مرة، مرة منها وصلت قرابة شهرين. المهم أنى تخرجت عام 1969، وبعد تخرجى بشهر تم تجنيدى، وكان أول ما شهدته بعد التجنيد هو حرب الاستنزاف، وبقيت فى التجنيد خمسة أعوام، ضمن مليون شاب كانوا فى الجيش آنذاك، حتى تمت حرب التحرير فى أكتوبر 73.

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة