إيهاب الحضرى
إيهاب الحضرى


يوميات الأخبار

كل الطُرق تؤدى إلى الحُزن!

إيهاب الحضري

الخميس، 14 يوليه 2022 - 08:16 م

 

أقول لزوجتى إننى مشتاق للإسكندرية. ترد مبتسمة: «مع نفسك». أؤكد بإصرار أننى سأقضى بها يومين أو ثلاثة، تُرحب بخُبث حميد، لأنها تعرف أننى رجل أقوال لا أفعال!
 

شُرفة لا ترى البحر

الجمعة:

أجلس بشُرفة الشاليه المُطلة على حمام السباحة، فى منتجع ذى اسم برّاق. رغم أنه مصيف إلا أنه مُقام فى بقعة صحراوية لا تتمتع بعلاقة جيرة مباشرة مع البحر المتوسط.

قام مؤسسه بتحويل مئات الأفدنة من الرمال إلى عمارات جذابة، غيّرت مفهوم المصايف فى السنوات الأخيرة.

أعترف أننى أشعر براحة نفسية فى هذا المنتجع منذ زرته أول مرة قبل أعوام، غير أنها راحة لا تصل بى لحد المُتعة الكاملة.

أشتاق دائما للإسكندرية التى تضيق بصخب زوّار الصيف، ويُصيبنى زحامها بالعصبية، لكن من يعشق يتقبّل محبوبته بعيوبها، خاصة إذا لم تكُن مسئولة عن هذه العيوب. 

تنطلق عبارة «لبّيك اللهم لبّيك» من التليفزيون.

تخترق عيناى الباب الزجاجى الذى يفصلنى عن الصالة الداخلية، وتستقران على الشاشة متأملتين وقوف الحجاج على عرفة. تطير أفكارى على الفور إلى مكان آخر من العالم، يبعد آلاف الكيلومترات عن الساحل الشمالي. قبل أربع سنوات فوجئت بنفسى ضمن جموع حجاج بيت الله الحرام.

فوجئت؟! نعم.

والتعبير واقعى تماما ولا يحمل أى معنى مجازي.

الحج.. فجأة!

يوم ينتمى لصيف 2018، غالبا كان الخميس. أركب سيارتى متجها إلى الجريدة. بالى مشغول بكيفية ضبط جدول إجازات عيد الأضحى والمصايف للقسم الذى كنتُ أشرف عليه وقتها، كى لا يختل إيقاع العمل. انبعث صوت فريد «يا حبيبي.. عايز أغنى للعيون السود وخايف.. يزعلوا منى الخدود واللا الشفايف».

لم يكن مذياع السيارة، بل النغمة التى اخترتُها للهاتف. من الجانب الآخر جاءنى صوت الصديق محمد سعد، أخبرنى أنه يخطط لرحلة الحج مع عدد من الزملاء، وأخذ يشجعنى على مشاركتهم. أكد أن تكلفة الرحلة لن تتجاوز 35 ألف جنيه، بصراحة لم أُبد حماسا، فالمبلغ غير متوافر، كما أن تأشيرات «المجاملة» ذهبت إلى مستحقيها بالفعل.

على مدار ساعات تالية واصل الصحفى الشاب مساعيه الحميدة معي، وفوجئتُ بأن الأمور تمضى بسلاسة غير عادية. ظهرتْ تأشيرة من حيث لا أدري، وبدأ الصديقان سعد ومصطفى على إنهاء إجراءات عديدة، وتمكنتُ من تدبير أموال لا زلتُ أسددها حتى الآن. المهم أننا بعد أيام كنا فى مطار المدينة المنوّرة بصحبة صديقنا ورفيقنا الرابع خالد النجار. فى المدينة التقينا الأخ الأكبر وليد عبد العزيز الذى لعب دورا مهما فى تذليل عقبة إقامتنا، واستكمل النجار المسيرة بعدها بأيام فى مكة.

نحن الأربعة خُضنا تجربة «حج الفرادى»، التى تعتمد بالأساس على «تساهيل ربنا».

هذا النوع من الحج فى طريقه للانقراض، بعد أن تراجعت أعداد تأشيرات المجاملة بشكل كبير، وحتى ما تبقى منها أصبح مشروطا أن يرتبط بشركة سياحة، ليصير الحد الأدنى للتكلفة 60 ألف جنيه، بخلاف سعر تذكرة الطائرة. التفاصيل كثيرة، تحتاج إلى كتاب لرصدها، لكن المهم أننى أديتُ فريضة الحج فى زمن «الرُخص» دون تخطيط، ومنحت الصحبة الفريدة للرحلة مذاقا استثنائيا، يمزج الأحاسيس الروحانية بذكريات تبعث على البهجة كلما استحضرتْها الذاكرة، من بينها طرفة الرجل الآسيوى الذى كان يسأل فى محيط الحرم المكى عن منزل أبى جهل!

ملاذات الروح

حمام السباحة المواجه للشاليه يشعر بالوحدة.

أطفال قليلون جدا يلهون بداخله، فالغالبية صائمون فى يوم عرفة. أتطلع للعمارات المحيطة.

كل منها مكونة من تسعة طوابق، فى كل طابق عدد هائل من الوحدات.

تسببتْ هذه البنايات فى تغيير الصورة الذهنية التقليدية عن «الشاليه».

قديما كانت الكلمة تُشير إلى مبنى من طابق واحد وبمواصفات خاصة، يرتبط أساسا بتواجده على شاطئ البحر أو بالقرب منه، لكنه الآن أصبح مجرد «عُلبة كبريت» فى بناية ضخمة.

إنها ثقافة تتغيّر وتتبدّل معها الأمزجة.

لا مانع عندى من قضاء بعض الوقت فى هذه الكيانات الجديدة، بشرط أن يتم استكمال المتعة فى مصيف تقليدى يربط الحاضر بالماضي، ويمنحنى فرصة استرجاع ذكريات قديمة فى مدن لن تفقد مكانتها كملاذات للروح.

غير أن أسرتى الصغيرة مُتشبّعة بروح عصرية سائدة، ترفض الإسكندرية مثلا إلا إذا ارتبطت زيارتها بظرف اضطراري.

بمجرد دخولها الشرفة، أقول لزوجتى إننى مشتاق للإسكندرية. ترد مبتسمة: «مع نفسك».

اؤكد بإصرار أننى سأقضى بها يومين أو ثلاثة، تُرحب بخُبث حميد، لأنها تعرف أننى رجل أقوال لا أفعال!

استعادة الشغف

الاثنين:

ألقتْ وكالة «ناسا» حجرا فى بحر الكون وحرّكت العالم.

تبدو الصورة تقليدية لأمثالى من المُهتمين بالفلك. ظلام هائل تتخلّله نقاط كثيفة من الضوء، توقظ خيال الكثيرين من نوم عميق طال كثيرا.

الجديد هذه المرة هو المعلومات المُصاحبة للصور، فقد نجحتْ فى جذب انتباه مليارات البشر، حتى أولئك الذين لم يعرفوا عن الفلك سوى أبواب الحظ بالصحف!

تفاعل كل منهم وفْق مرجعيته واهتماماته، المتديّنون ربطوا الكشف المُذهل بالكتب المُقدسة، والملحدون رأوا أنه يُثبت صحة مزاعمهم.

وجدها البعض فرصة للحديث عن تخلّفنا وانشغالنا بقضايا من الماضى بينما العالم الأول يخترق المُستقبل، وآخرون استحضروا أفكارا قديمة عن احتمالات وجود كائنات حية بالكون.

قليلون فقط ركزوا على تفاصيل الاكتشاف. 

منذ اختراع التصوير أدرك البشر أن اللقطة ابنة لحظتها، تُسجّل فقط ما يجرى أمامها لفترة لا تتجاوز ثوانى معدودات، ولا يُمكن بأى حال أن ألتقط بكاميرا هاتفى موقفا وقع قبل سنين أو حتى منذ لحظات، لكن الغريب أن التليسكوب جيمس ويب فعلها، والتقط حدثا عظيما وقع قبل 13 مليار عام!

إنه تداخل عجيب بين الزمان والمكان، وهو ما يطلق عليه علماء الفيزياء مصطلح «الزمكان».

تبدو اللقطات أشبه ببوابات زمنية نرى الماضى من خلالها، بعد أن كنا نجتره كذكريات وحواديت. من رأى ليس كمن سمع، لهذا هيأنا أنفسنا لصور مستقبلية أخرى، تعود إلى الوراء لبضعة ملايين أخرى من السنين، ترصد حدثا أعظم يسميه علماء الفلك «الانفجار العظيم»، الذى أدى لنشأة الكون.

الأمر المهم من وجهة نظرى أن الاكتشاف أعاد الشغف للبشر على نطاقات واسعة، بعد سنوات طويلة فقدوا فيها القدرة على الدهشة.

طعم الغياب

الثلاثاء:

بين اليقظة والمنام ألقى نظرة على «فيس بوك».

ذلك العالم الذى فقد بريقه، وأصبح من وجهة نظرى مجرد صورة عصرية لمجلة حائط ركيكة، لكنها كافية لاحتضان مشاعرنا فى عالم مصاب بالجفاف.

هاهى صدمة جديدة تزيد رصيد الفقْد: مات حافظ هريدي، الصحفى ومعد البرامج المتميز، والإنسان ذو الطبيعة الملائكية.

الصفة الأخيرة واقعية جدا، وليست من تلك العبارات التى يجعلنا الحزن نُطلقها على أى راحل دون تمييز.

عرفتُه منذ ربع قرن، ولم أقابله على مدار سنوات مضتْ، كغيره من أعزاء نُفاجأ بحضورهم وقت الغياب. غير أننى ظللتُ أتابع منشوراته دون تعليق غالبا. مُميّزة مثله، ببهجة عارمة يبثها، ومشاغبات تشتبك مع كل القضايا من زوايا غير مألوفة، وحديث مُتقطع- لكنه مستمر- عن موت يقترب!

هو إنسان مثلنا وبالتالى يُصبح مصيره معروفا: رحيل يمنحه الراحة ويكوينا بنار الفقْد.

إحساس يستمر لفترة تطول أو تقصر حسب قدرة كل منا على تعاطى النسيان، حتى أصحاب الذاكرة المُمتدة ستلهيهم دوامات الحياة التى تشعر بالنشوة وهى تسلب أعمارنا، وتُصبح ذكراه مع الوقت ضيفا مؤقتا يروح ويجيء حسب حالاتنا المزاجية.

إنها طبيعة الحياة. طبيعة الحياة؟

يا له من مصطلح مراوغ.

شماعة نُعلّق عليها إنسانيتنا الشرسة، التى تفرض علينا أن نذكر محاسن موتانا لبعض الوقت ثم نغيب عنهم.

ذاكراتنا ممتلئة لحد الاختناق، تلفظ الكثير من الحاضرين حولنا، ومن الطبيعى أن تنوء بأحمال الراحلين.

هو إنسان مثلنا، معروف فى دوائر المثقفين والإعلاميين المحيطين به، لكنه يظل حالة إنسانية تُعبر عن إحباطات الملايين ممن لا يعرفونه، استعان على هزيمة أوجاعه بالسخرية حتى من نفسه. حالته ليست فريدة، فقد أدمن الحُلم مثلنا، وفى كل مرة يستعذب الشعور بالفرح عندما يتحقق له بعض ما أراد. ما لا يُدرك كلّه لا يُترك كله..

عرف جيلنا ذلك فصار يكتفى بكسرة نجاح، لكن حتى هذه الكسرة تنكسر على صخرة الزمن الصعب. 

أرض الأحلام

الأربعاء:

تلقيتُ رسالة على واتس آب، تطلب أن أختار زجاجة واحدة من بين سبع زجاجات، تضم الصحة والحب والأمل والأحلام والصداقة والسعادة والوقت.

رغم أن المرسلة أكدتْ أن الأمر على سبيل التسلية فقط، إلا أننى أتعامل عادة مع هذه الاختيارات بجدية، تنتقل بى إلى حافة الفلسفة.

الطمع البشرى يجعلنا نتمنى الاستحواذ على مُحتوى الزجاجات كلها، لكن القدر لا يمنحنا كل شيء.

اخترتُ زجاجة الأحلام بينما اختارت مُحدثّتى الصحة، وبررتْ ذلك بأنها أكثر واقعية، تعرف قيمة الصحة بعد وعكة شديدة مرتْ بها.

اختيار الأحلام قد يوحى بأننى شديد الرومانسية، وهو شرف لا أدّعيه وتُهمة لا أنكرها، فكلنا رومانسيون حتى تصدمنا قسوة الواقع، وتتراجع المشاعر إذا انهارت الصحة، أو زادت جُرعة المشكلات لتقتلع مُقومات السعادة.

أعترف أننى اخترتُ الأحلام لأننى طمّاع، أطمح فى الاستئثار بالزجاجات كلها، وهو أمر لم يتحقق لأى إنسان عبر التاريخ، دائما هناك أشياء مفقودة بعد أن تسبّبت أفعالنا ذات يوم فى طردنا من الجنة. واقعيتى المُفرطة جعلتْنى أختار الحلم، لأنه الوحيد الذى يمنحنى فرصة تعدد الزجاجات، حتى زجاجة الصحة التى أصبحت شبه فارغة بفعل التقدم فى العمر، وباقة أمراض تؤكد أن رصيدى أوشك على النفاد. يا الله..

كل الطرق تؤدى إلى الحزن!
 

الكلمات الدالة

مشاركه الخبر :

 
 
 
 
 
 
 
 
 

 
 
 

 
 
 

مشاركة