توماس جورجيسيان
توماس جورجيسيان


فى حضرة النجيب محفوظ

الأخبار

السبت، 16 يوليه 2022 - 08:35 م

أعترف بأن الخبز (العيش) يجذبنى ويسحرنى ويبهرنى ويحيرنى ويريحنى منذ أن تعرفت على أول لقمة عيش فى حياتى

أن نعيد قراءة نجيب محفوظ متعة لا مثيل لها. ففى كل مرة تعيد قراءته سوف تكتشف مكامن جمال كانت خافية عنك فى المرة أو المرات السابقة .. خاصة أن القارئ المتذوق يعرف جيدا أن ما يقف أمامه ويتأمله ليس فقط حكاية يستمتع بها ..

بل شخصيات حية يتعرف عليها وأيضا سردية مبدع وحكيم ينسج بكلماته وأسلوب صياغته عالما ساحرا مدهشا يحتضنك وسط خضم الأحداث اليومية اللاهثة..

وما أكثرها هذه الأيام!

محفوظ الذى نبهنا «إننا نموت لأننا نفقد حياتنا فى الاهتمامات السخيفة» كتب «لن تتاح لكم الحياة ما دمتم تخافون الموت». وقال لنا أيضا «الخوف لا يمنع من الموت ولكنه يمنع من الحياة».. وبما أننا نشعر أحيانا أن الحزن يحيط بنا من كل جانب ويسيطر علينا و»يشل حركتنا» يذكرنا محفوظ «ان أحزان الدنيا توجد، لا لتثبت الهمة ولكن لتشحذها»

وبما أن هذه السطور تأتى فى الصيف فلابد أن أتذكر ما كان يعنيه هذا الفصل بالنسبة لمحفوظ . اذ قال فى حوار مع مجلة «باريس ريفيو» الأدبية الشهيرة عام ١٩٩٢ : .. منذ عام ١٩٣٥ لدى نوع من الحساسية فى عينى تمنعنى من القراءة والكتابة خلال الصيف. فبالتالى هذا الوضع فرض نوعا من التوازن على حياتى .. توازن بعث به الله من السماء. كل عام يجب أن أعيش لمدة ثلاثة أشهر كإنسان ليس ككاتب. فى تلك الأشهر الثلاثة ألتقى بأصدقائى وأسهر معهم خارج البيت حتى الصباح. وكل هذا حدث ويقال أنى لم أعش حياتي!؟..»

الحائز على جائزة نوبل للآداب لعام ١٩٨٨ وهو فى الـ٧٧ من عمره ـ توقف عن إمساك القلم وهو فى الـ ٨٣ ـ بعد محاولة اغتيال تعرض لها فى أكثوبر ١٩٩٤. وتوفى وهو الـ ٩٤ من عمره. رحلة عمر نتأملها ونتعلم منها من خلال كتاباته بالطبع وأيضا من خلال ما كتب عنه. فلا يجب ان يفوتنا ما كتبه جمال الغيطانى ( «نجيب محفوظ يتذكر» و»المجالس المحفوظية») ورجاء النقاش («فى حب نجيب محفوظ»). وعلينا أن نلجأ لكتاب «المحطة الأخيرة» لمحمد سلماوى لنتعرف عن كثب تجربة الـ ٤٥ يوما الأخيرة فى حياة أديبنا نجيب محفوظ، (نزيل غرفة ٦١٢) من لحظة دخوله المستشفى يوم الأحد ١٦ يوليو ٢٠٠٦ الى يوم وفاته .. يوم خروجه الى النهار .. ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦.

نجيب محفوظ من خلال حوارات أبطال روايته «الحرافيش» يقول لنا : «من يحمل الماضى تتعثر خطاه»، «النجاح لا يوفر دائما السعادة»، «الحزن كالوباء يوجب العزلة»، و«لا قيمة لبريق فى هذه الحياة بالقياس الى طهارة النفس وحب الناس وسماع الأناشيد». ولن أنسى أبدا ما كتبه كاتبنا الكبير فى نهاية رائعته هذه :«قال له قلبه لا تجزع فقد يفتح الباب ذات يوم تحية لمن يخوضون الحياة ببراءة الأطفال وطموح الملائكة»

وهنا أتساءل من جديد عن حضور(أقصد غياب) محفوظ من فصول الدرس وكتب الدراسة . وهل سنسعد يوما ما بأن نرى أن التعليم ـ بكافة مراحله ـ بمقرراته الدراسية أو مكتباته (ان وجدت) يتعامل مع محفوظ فى مصر مثلما هو الأمر مع شكسبير العظيم وكبار الكتاب فى مدارس الدول الغربية؟! وعلينا أن نتساءل ونسأل أيضا فى هذا الصدد هل يمكن من خلال وزارة الثقافة وتعاونها مع وزارة التعليم أن يتم تجاوز هذا الوضع المؤسف الذى نعيشه وأحيانا (مع الأسف) نبرره أيضا بتكرار القول .. وقد سمعته يتردد على مسامعى بأن ما كتبه نجيب محفوظ أحيانا لا يتناسب مع «تربية الأجيال الجديدة» و»يخدش الحياء» (حسب ادعائهم)

العيش وخبازه ..

حواديتى مع العيش (الخبز) كثيرة .. ولا أمل أبدا من حكيها. صفحات كثيرة كتبتها عبر سنوات عمرى أرجع إليها من حين لحين لأضيف لقمة.. أو آكل منها لقمة أو لقمتين. وفى كل الأحوال حضور الخبز فى حياتى نعمة والحمد لله .. أينما ذهبت وأينما جعت..

الخبز أو العيش ـ كما اعتدنا على تسميته ـ هو رمز وتجسيد للحياة والنعمة والعمل (أكل عيش) والقوت والرزق والمشاركة والمشاطرة الإنسانية (بيننا عيش وملح) وعطاء الأم وتفانى الوالد وأيضا للبساطة والود والحلفان (وحياة النعمة دي). وحياتنا فى كلمتين .. هى العيش و«العيشة اللى احنا عايشينها».

وقد تردد على مسامعنا كثيرا «عض قلبى ولا تعض رغيفي». وبالطبع تعددت التفسيرات وتنوعت التعليقات فى شرح ظروف وملابسات «عض قلبي». ونعم، الجوع كافر وثائر وفائر ومعه «مش بس العصافير بتصوصو فى بطنك ده كل البنى آدمين يمكن أن يصرخوا ويشتكوا» وهذه هى طبيعة البشر على مر العصور. ولا يتردد المهمومون بأزمات البشر وهم يرون أزمة القمح العالمية والمجاعات المرتقبة وكوارث التهجير ومآسى الإيواء فى العالم ( وما أكثرها ونحن فى عام ٢٠٢٢) فى أن يتساءلوا أين الخبز للجوعى؟ والمشكلة أنه غالبا يتم التعامل معهم بمنطق «ودن من طين ودن من عجين»!! أو فى أحسن الأحوال بالتبرير المعتاد «العين بصيرة والايد قصيرة»

أبجدية الخبز أو العيش فى حياتنا بالتأكيد حدوتة ومعها حواديت عديدة .. فالكل «بيجرى ورا عيشه» و»أكل العيش بيحب الخفية» وطبعا فيه ناس يتم وصفهم بأنهم «خميرة الحياة» وفيه ناس «بتقطع الخميرة من البيت». والنصيحة المتكررة تقول :»اعط العيش لخبازه ولو أكل نصه». واذا كان الأمر المطلوب منى ومنك أحيانا هو «امش على العجين ما تلخبطوش» فإن المصيبة هى ان الواحد منا أحيانا «مش بس بيمشى على العجين ما بيلخبطوش» كما ينبه صديق حكيم : «ده أحيانا بيدخل بارادته ـ مع الأسف ـ فى دوامة الانصياع والخنوع .. والقيام بعجين الفلاحة كمان «بلغة القرداتية»!

وبحكم العشرة و»العيش والملح اللى بينا» يجب أن أعترف بأن الخبز (العيش) يجذبنى ويسحرنى ويبهرنى ويحيرنى ويريحنى منذ أن تعرفت على أول لقمة عيش فى حياتي. يسحرنى ببساطته وتعقيده ويبهرنى بطزاجته وطعامته وطعمه ويحيرنى بعجينته وريحته وملمسه. وأعترف أيضا بأن لدى حكايات يا ما مع العيش. فما من مدينة أو قرية فى أى بقعة فى العالم أزورها أو أمر بها إلا وأبحث عن عيشها. ويجب أن أتذوقه وأتأمله وآكله وأتلذذ به (حاف كده بدون أى شىء يغير طعمه). والحمد لله تكون لدى عبر السنين مخزون استراتيجى ضخم من ذكريات و»ذاكرة الخبز» أتردد عليها كثيرا وأستطعمها دائما و»أفتكر وأستعيد معها لحظة لقمة استمتعت بها – وكانت مع من؟ وأين؟ ومتي؟» وما أحلاها من لقمة تشبعنى وتملأ حياتى (مش معدتى وبس). وبصراحة ـ قل لى ما هى علاقتك وحكايتك مع الخبز ولقمة العيش وأنا أقول لك من أنت؟

اسمها .. جاكلين كيندى

ما من احتفاء بتوت عنخ آمون الملك المصرى الشهير فى أمريكا إلا وتأتى سيرتها وصورها وهى تفتتح عرضا خاصا لكنوز الملك توت فى واشنطن عام ١٩٦١ بحضور د ثروت عكاشة وزير الثقافة المصرى وسفير مصر لدى أمريكا آنذاك د مصطفى كامل. العرض تضمن ٣٤ قطعة أثرية صغيرة من محتويات مقبرة توت عنخ آمون التى تم اكتشافها منذ مائة عام ١٩٢٢

ولجاكلين كنيدى  زوجة الرئيس الأمريكى السابق جون كيندى أكثر من حكاية مع مصر. أكثرها شهرة أنها كانت وراء اختيار معبد دندور كهدية من مصر فى عام ١٩٦٥ لأمريكا وذلك لمساهمتها فى إنقاذ معبد أبو سمبل. ومعبد «دندور» يتواجد فى متحف المتروبوليتان الشهير بنيويورك منذ ١٩٧٨.

كما أن «جاكي» كمستشارة لدار نشر «دبلداي» الأمريكية قرأت وأعجبت بثلاثية نجيب محفوظ. وقد ذكر أنها قرأتها بالفرنسية وأن المفكر الفلسطينى الأمريكى ادوارد سعيد قد أوصاها بقراءة محفوظ وذلك قبل فوزه بجائزة نوبل بسنوات. ومن ثم نشأت نصيحة جاكى لدار النشر بترجمة ونشر روايات محفوظ بالانجليزية.

لجاكى حكاية أيضا مع الشاعر الاسكندرانى اليونانى قسطنطين كفافيس. اذ كانت من عشاق شعره ولهذا طلبت من صديقها فى السنوات الأخيرة من حياتها الملياردير موريس تامبلتون أن يقرأ فى جنازتها قصيدة «ايثاكا» لكفافيس. وقد تحققت أمنيتها يوم ٢٣ مايو ١٩٩٤ بعد أربعة أيام من موتها وهى فى ال ٦٤ من عمرها

وقصيدة كفافيس مستوحاة من ملحمة الأوديسا للشاعر اليونانى هومر. وتقول القصيدة أن الاستمتاع برحلة الحياة ونضوج النفس البشرية مع استمرار الرحلة هو كل ما يسأل عنه .. أو ما يجب أن يسأله المسافر.هكذا تقول كلمات كفافيس « وأنت قد اكتسبت الحكمة وتشربت المعرفة وتملكت التجربة».

شاعرنا الاسكندرانى اليونانى كفافيس ولد فى الإسكندرية عام ١٨٦٣. وتوفى بها عام ١٩٣٣ فى السبعين من عمره. والإسكندرية شهدت حياة كفافيس وكانت شاهدة على شاعريته وإبداعه المتميز. وقد اهتم بكفافيس وأعماله وتقديمه بالعربية مجدى وهبة ونعيم عطية وأحمد عثمان.

ان جاكى وغيرها ممن وقعوا فى عشق مصر أو الوله بها أو الولع ب»أم الدنيا» علينا أن نتذكرهم ونتذكر حواديتهم مع مصر وأهلها.

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة