علاء عبد الوهاب
علاء عبد الوهاب


يوميات الأخبار

٧ مشاهد شواهد.. فى سبعينية ٢٣ يوليو

علاء عبدالوهاب

الثلاثاء، 19 يوليه 2022 - 06:38 م

ثم كان المشهد الأكثر غرائبية، تنازع الكثيرين على ما أسماه السادات «قميص عبد الناصر» حتى من التحقوا بحزب السلطة، ولا بأس من أن يتبادل الجميع الإتهام بـ «بيع القضية»!

حين شرعت فى تحرير كتاب «عبد الناصر.. سيرة بالصور»، سنحت لى فرصة مطالعة آلاف من الصور يصعب حصرها بدقة، احتضنتها عشرات الملفات المتخمة، التى تُثمن ثروة هائلة يحظى بها قسما التصوير الصحفى والمعلومات المصورة بـ «أخبار اليوم».

كانت مهمة شاقة أن يستقر اختيارى على بضع مئات فقط من هذا الكم الضخم، بعد عمليات «فلترة» تكررت كثيراً، قبل تصنيفها فى ثمانية أبواب، تضمها دفتا كتاب لا يتجاوز المائة والستين صفحة.

عبر هذه الرحلة ـ التى استغرقت شهوراً بدأت أثناء تولى رئاسة تحرير كتاب اليوم ، واستمرت بعد إسناد إدارة قطاع الثقافة لى ـ لم يكن من الصعب خلال رحلتى بين ملفات صور عبد الناصر الربط بين ثورة يوليو وقائدها، صعوداً وهبوطاً، إيجاباً وسلباً، ثم على كافة الأصعدة الوطنية والقومية والإقليمية والدولية، دون أدنى مبالغة.

كان ذلك قبل نحو خمسة أعوام، فى إطار الإعداد لمئوية عبد الناصر، والآن وبعد أيام ثلاثة على نشر هذه السطور يبلغ عمر ثورة يوليو سبعين عاماً، ومازالت تجلياتها ضافية على المشهد المصرى، كتجربة وطنية فريدة بكل ما لها وما عليها، اتفاقاً بالمدح، واختلافاً بالذم، وكأنها وقعت قبل سبعة أعوام فقط! ثم إنها لم تحظ ـ للأسف ـ حتى اليوم بتقييم منهجى بالمعنى العلمى للكلمة، بل ولم يُكشف عن كل وثائقها، ومن ثم أسرارها إلى هذه اللحظة!

وعلى مدى عمرى الواعى، كانت ثمة مشاهد شواهد، وجدتنى استرجعها، تجمع كادراتها بين الثورة وقائدها، والشعب الذى اقتسم معها ومعه أهدافاً نبيلة، مازالت تمثل غايات سامية باعتبارها طموحات إنسانية كبرى عابرة للأزمان.

تلك الكادرات التى حفظتها ذاكرتى لا تحتوى على لقطة واحدة، وإنما تتضمن أكثر من لقطة يجمعها إما مناخ نفسى واحد، أو رابطة موضوعية، أو الاثنان معاً، وفى المحصلة الأخيرة فإنها جزء أو فصل من قصة الثورة فى حياة عبد الناصر، أو بعد رحيله.

(١) الطوفان

الطوفان لغة هو الفيضان العظيم، ومن كل شيء ما كان كثيراً أو عظيماً من الأشياء والحوادث، أحسبه مشهداً واحداً على تعدد لقطاته، أحسبه ـ أيضا ـ استفتاء على الثورة، بأكثر من كونه التفافاً أو تأييداً أو وداعاً لعبد الناصر.

الملايين التى اندفعت فى ٩ و١٠ يونيو ١٩٦٧، لا فى شوارع مصر وحدها، وإنما من المحيط إلى الخليج، لم تكن رافضة للهزيمة، أو متمسكة بقيادة عبد الناصر، فحسب، لكنها كانت مُصرة على ألا تنكسر الثورة، وليبدأ القائد فى كتابة صفحة جديدة، لتصحيح الأخطاء، وإعادة بناء الجيش والدولة استعداداً لمعركة الكرامة.

تكرر الطوفان، ولكن هذه المرة فى الخرطوم، واستطاع ملايين السودانيين أن يمسحوا بصمات الحزن من فوق قسمات عبد الناصر، عندما احتضنت الخرطوم قمة اللاءات الثلاثة، والتفت القيادات العربية فى القمة حول قيادة الرجل، وتجاوز الجميع خلافات تاريخية طويلة، تأكيداً للبعد العربى لثورة يوليو، وبعدها أطالع صورة زنكوغرافية لغلاف «النيوزويك» الأمريكية وبعنوان عريض: «الخرطوم تهتف للقائد المهزوم»!

ثم كان الطوفان الأخير فى وداع أسطورى للرجل الرمز فى جنازته، التى ثمنها العالم الأكبر والأضخم فى التاريخ، فهل كانت الملايين فى مصر والعواصم العربية، والعديد من مدن العالم الثالث يودعون مع عبد الناصر ثورته؟!

(٢) «الأستيكة»..!

بعقل بارد، وبعيداً عن العواطف التى حكمت رؤية صبى السبعينيات، ثم وهو يجتاز عتبة الشباب المتحمس، اسلم بحق أى سياسى فى بناء شرعيته على الأسس التى يراها تناسب نظامه.

لكن المشهد بعيون جيلى آنذاك، أن خليفة عبد الناصر إنما يسير على خطه بـ «أستيكة» وأن النظام الجديد، لاسيما بعد نصر أكتوبر يرى أن ثورة يوليو آن طى إعلامها، رغم أن الخطاب الرسمى يؤكد دائماً استمرارية يوليو بمنهجها ومبادئها، بينما الواقع على الأرض يؤكد العكس، وهنا تبدت أحد أخطاء الثورة التى اعتبرت قائدها معبراً عن آمال وطموحات الجماهير، وهذا يكفى، وعندما اختلفت توجهات من خلف الزعيم، وبدأت مكتسبات الثورة فى الأفول، لم تكن هناك مقاومة مجتمعية سلمية، دفاعاً عما يسحب من تحت أقدام من استفادوا من التحولات الاجتماعية التى انحازت لـ «الغلابة»!

وربما كان انفتاح «السداح مداح» أكثر الضربات أثراً، خصماً من رصيد الملايين لصالح حفنة ينتمى معظمها للرأسمالية الطفيلية.. ثم اتسعت الزاوية لتصبح منفرجة، ثم مستقيمة بالنيل من ذمة عبد الناصر، فهدم الرمز، يهدم ما أنتجه، ولا يعد أمام من آمنوا بالثورة إلا التسليم بدخولها متحف النسيان، أو بالكاد «تحنيط» ما بنته!

(٣) التشرذم!

فى ثمانينيات القرن الماضى، ومع ميلاد تجربة حزبية ديكورية، كان المشهد غريباً بالنسبة لمن زعم أغلبهم، أن من واجبه أن يحمى القليل الذى تبقى من مكتسبات ثورة يوليو.

ڤيروس التشرذم تعمق وتعملق وساد صفوف معظم من رفعوا رايات الثورة، وما لبث فريق منهم أن وقع فى شرك «تصنيم عبد الناصر» أو «توثين الثورة»!

المرض الذى عانى منه اليسار تاريخياً تمكن من مفاصل الحركة الناصرية.

ثم كان المشهد الأكثر غرائبية؛ تنازع الكثيرين على ما أسماه السادات «قميص عبد الناصر»، حتى من التحقوا بحزب السلطة! ولا بأس من أن يتبادل الجميع «الاتهام» بـ «بيع القضية»، والتنازل عن مبادئ الثورة، والتحالف مع أعدائها.

مشهد هزلى بامتياز، ساهم كل من شارك فى صنعه فى القضاء على أى إمكانية لاستعادة ما يمكن استعادته من مبادئ ثورة يوليو، التى يدعى معظم اللاعبين على الساحة السياسية أن لهم نصيباً فى تمثيلها، يبدو بالفعل أنهم حقاً «ممثلون» يجيدون الهزل على المسرح السياسى!

(٤) اللجنة

فى منتصف سبعينيات القرن الماضى قرأت خبراً يشير إلى قرار رئيس الجمهورية بتشكيل لجنة لإعادة كتابة تاريخ ثورة يوليو.

الرئيس السادات أمر بأن يكون على رأس هذه اللجنة نائبه ـ وقتذاك ـ حسنى مبارك، وبين الحين والآخر تظهر على استحياء أخبار مقتضبة عن نشاط اللجنة وأعمالها.

ورويداً رويداً اختفت الأنباء التى تتابع، ما يفترض أن تنجزه لجنة بهذا القدر من الأهمية، فقرار تشكيلها صادر من رئيس الجمهورية، أحد أبرز الضباط الأحرار، وعضو مجلس قيادة الثورة، ونائب عبد الناصر الذى خلفه.

ثم أن رئيسها هو نائب رئيس الجمهورية، لكن ماذا فعل النائب حين وصل إلى سدة الرئاسة؟ ارتفعت بعض الأصوات على استحياء لمطالبته بإحياء أعمال هذه اللجنة، ليس حنيناً لتجربة، أو تقديراً لزعيم، وإنما من منظور أن يوليو تبقى فصلاً رئيسياً فى مسار التاريخ المصرى، وأن دروس التاريخ وعبره تفيد فى بناء الحاضر واستشراف المستقبل، وفى كل الأحوال فإن استكمال مهمة اللجنة يحفظ جزءاً عزيزاً من الذاكرة القومية.

لكن هذه الأصوات ذهبت أدراج الرياح!

(٥) الموءودة

نتفق أو نختلف مع السادات، لكن لا نستطيع أن ننكر عليه تاريخه السياسى العريض، ثم قيادته لحرب أكتوبر التى عمد إلى بناء شرعية نظامه استناداً عليها.
الرئيس مبارك أيضاً لا أحد ينكر عليه كونه أحد قادة حرب أكتوبر البارزين، إلا أن ذلك لا يمنحه أى تفويض على بياض ليقوم بعملية «وأد» تامة للبقية الباقية من منجزات يوليو ومكتسباتها.

كنت لا أملك سوى ضحكة مريرة عندما ينتدب مبارك من يضع باسمه إكليلاً من الزهور، ثم يقرأ الفاتحة على ضريح عبد الناصر فى ذكرى الثورة، وكأنه طقس تأبين أقرب إلى «الوأد» المستمر ليوليو وما تعنيه! كان المشهد لنحو ثلاثة عقود تراچيديا بامتياز؛ إطلاق العنان للخصخصة إلى حد التفريط، وربما التخريب، الانسحاب من كل المواقع التى بنتها ثورة يوليو بتضحيات هائلة عربياً وإفريقياً و..و.. والأخطر من كل الخطايا وأد «قيمة الجمهورية» من خلال مشروع التوريث، بعد عقد سفاح بين الثروة والسلطة!

(٦) الحملات

على مدى أكثر من خمسة عقود لم تهدأ حدة الحملات التى تستهدف النيل من ثورة يوليو؛ وغالباً ما يكون جسر العبور لتحقيق هذا الهدف الهجوم على عبد الناصر!

مبكراً قرأت «عودة الوعى» لتوفيق الحكيم، و»حوار وراء الأسوار» للحمامصى، وسيل من المذكرات الهدف السامى لمن أصدروها الذم فى عبد الناصر، وضرب الثورة من داخلها، فالمفارقة أن معظم كُتابها كان فى مقدمة نجومها!

الحملات تجسد المفهوم الكلاسيكى لـ «الثورة المضادة» التى يسعى من يتصدر لها إلى تبنى سياسات معاكسة، لتلك التى وهب قائد يوليو حياته من أجل إعلائها.. بالقطع فإن تلك الحملات لها تأثيرها السلبى، لكن أصحابها لا يكتبون التاريخ، ولا يدركون أن الكلمة الأخيرة فى الثورات تتطلب مرور زمن طويل لإنجاز هذه المهمة، ثم إن الثورات الحقيقية، ويوليو فى عِدادها، تتبنى مثلاً عليا رفيعة، وقيماً إنسانية نبيلة هى التى تبقى، بينما حملات تزييف الوعى تذهب جفاءً، تلك عبرة التاريخ.

(7) 25 يناير

«عيش، حرية، كرامة، عدالة اجتماعية».

فى 25 يناير غاب القائد عن الثورة، فحضر عبد الناصر عبر رفع شعاراته وصوره، ولم يقتصر الأمر على ميادين التحرير فى مصر، وإنما تجاوز ذلك فوصل إلى الساحات العربية الثائرة، وكأن صدى يوليو الذى كان من المحيط للخليج يعلو من جديد.

لعل فيما حدث إبان 25 يناير رداً مفحماً على الحملات التى استهدفت يوليو وقائدها لعشرات السنين.

يوليو الثورة تظل حلقة رئيسية فى مسيرة الحركة الوطنية، غيرت وجه الحياة فى مصر ونفذ إشعاعها إلى محيطها.

تلك بعض المشاهد الشواهد فى سبعينية ثورة يوليو، أحسبها رؤية ذاتية حاول صاحبها أن يضفى عليها قدراً من الموضوعية، فهل أفلح؟

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة