د. أسامة السعيد
د. أسامة السعيد يكتب: من رموز يوليو لأبطال أكتوبر .. الجمهورية الجديدة تعيد الاحترام للتاريخ
الخميس، 21 يوليه 2022 - 09:46 ص
لا يقوى على مواجهة الماضى سوى الأقوياء، فبناء المستقبل الحقيقى لا يقوم إلا على قيم العدالة والإنصاف وإعطاء كل ذى حق حقه، والحقيقة أن من يتابع نهج الرئيس عبد الفتاح السيسى فى التعامل مع العديد من الشخصيات التاريخية التى تعرضت لمظالم عدة فى فترات تاريخية مختلفة، يمكنه بسهولة أن يلحظ كيف تمثل قيمة «الإنصاف» أحد ثوابت فكر وضمير الرئيس، حتى قبل أن يصل إلى موقع الرئاسة، بل ومنذ توليه منصب وزير الدفاع وهو لا يتوانى عن تحريك المياه الراكدة، ورفع الظلم عن الكثير من «مظاليم التاريخ».
وإذا ما حاولنا استعراض قائمة من استعادوا حقهم فى التقدير واستعادة الاعتبار سواء من العسكريين أو المدنيين، فإن القائمة ستطول، ولكن نكتفى هنا بمجموعة من رموز ثورة يوليو 1952، الذين عصفت بهم متغيرات السياسة، وكذلك أبطال حرب أكتوبر 1973، الذين طمس غبار النسيان والتجاهل المتعمد على أدوارهم، وكاد ذكرهم يتوارى لولا أن القيادة السياسية الواعية بأدوارهم، المدققة فى حقائق التاريخ بعيون مبصرة وببصيرة مستنيرة، قررت بوفاء ونبل أن تعيد لهؤلاء «المنسيين» ما يستحقون من تقدير واحترام.
نجيب ... «رئيس المظاليم»
أول اسم يمكن أن يتبادر إلى ذهن من يقرأ تعبير «مظاليم التاريخ بالتأكيد سيكون اللواء محمد نجيب أول رئيس للجمهورية، والوجه الأكثر شهرة لثورة يوليو 1952 قبل أن يُطاح به وتُحدد إقامته لنحو ربع قرن من الزمان.
كان محمد نجيب شخصية نابغة منذ شبابه، فكان أول ضابط بالجيش المصرى يحصل على إجازة الحقوق فى مايو1927، ثم حاز على دكتوراه فى الاقتصاد السياسى عام 1929، كما نال دبلوم الدراسات العليا فى القانون الخاص ثم شهادة أركان حرب عام 1939. وبدأ فى إعداد الدكتوراه، لكن طبيعة عمله العسكرى حالت دون إتمامها، وكان يجيد اللغات الإنجليزية والفرنسية والإيطالية والألمانية وذكر فى مذكراته أنه تعلم العبرية أيضاً.
وكانت المواقف الوطنية العديدة سببا لشهرة «الضابط» محمد نجيب فعندما اندلعت ثورة 1919 فى القاهرة، أصر على تحدى رؤسائه من الإنجليز، وسافر إلى مصر سرا، ولم يخف إعلان تأييده لسعد زغلول عندما ذهب مع مجموعة من الضباط الصغار فى ملابسهم العسكرية إلى مقر إقامة زغلول، فى بيت الأمة ليعبروا عن رفضهم لنفيه إلى جزيرة سيلان.
وعقب حادثة 4 فبراير1942، حين حاصرت الدبابات البريطانية قصر الملك لإجباره على إعادة مصطفى النحاس إلى رئاسة الوزراء أو التنازل عن العرش، قدم استقالته من الجيش احتجاجا على التدخل الإنجليزى السافر فى شئون مصر الداخلية. لكن الملك رفض الاستقالة، واشترك نجيب فى حرب فلسطين وجرح ثلاث مرات، كان آخرها فى معركة التبة فى دير البلح فى 23 ديسمبر 1948، وهى أهم المعارك التى خاضها فى فلسطين، وعددها 21 معركة.
واقترن اسم محمد نجيب بأولى شرارات الثورة، التى تمثلت فى فوزه بانتخابات نادى الضباط عام 1951، فى مواجهة مرشح الملك، حسين سرى عامر باشا، الذى سبق وأن عينه الملك مديرا لسلاح الحدود بدلا من نجيب، حيث استقر رأى الضباط الأحرار على ترشيح نجيب رئيسا لمجلس إدارة النادى ضد مرشح الملك، وهى المواجهة التى عجلت بقرار الثورة.
وكان اختيار تنظيم الضباط الأحرار لمحمد نجيب سر نجاح التنظيم داخل الجيش، فكان ضباط التنظيم حينما يعرضون على باقى ضباط الجيش الانضمام إلى الحركة كانوا يسألون من القائد، وعندما يعرفوا أنه اللواء محمد نجيب يسارعون بالانضمام.
وأشار المؤرخ العسكرى اللواء جمال حماد، وهو أحد الضباط الأحرار، إلى أن الحركة لم تكن لتنجح لولا انضمام محمد نجيب إليها لما كان له من سمعة طيبة فى الجيش، ولما كان لمنصبه من أهمية، إذ أن باقى الضباط الأحرار كانوا ذوو رتب صغيرة وغير معروفين.
وجاء انتخابه كأول رئيس للجمهورية منطقيا ومتوقعا، لكن سرعان ما دبت صراعات السياسة بين أعضاء مجلس قيادة الثورة بعد أزمة 1954، وخرج اللواء نجيب من المشهد، حيث تقرر تحديد إقامته فى قصر زينب الوكيل بالمرج، ومنعت عنه الزيارة، وبقى هناك حتى أفرج عنه الرئيس أنور السادات عام 1971.
وفى عهد الرئيس الأسبق حسنى مبارك، تقرر تخصيص فيلا فى القاهرة لإقامة نجيب، كما أطلق اسمه على واحدة من محطات الخط الثانى لمترو الأنفاق، وعندما توفى عن عمر يناهز ٨٤ عامًا، أمر مبارك بتشيع جنازته عسكريا من مسجد رابعة العدوية بمدينة نصر.
لكن التكريم الأكبر والأهم والإنصاف الأبرز الذى حظى به اللواء نجيب، جاء على يد الرئيس عبد الفتاح السيسي، الذى كان يدرك أن الرئيس الراحل محمد نجيب لم ينل ما يستحق من تقدير، ومن هنا جاء قرار الرئيس السيسى بتخليد اسم نجيب بين قادة مصر الكبار، من خلال إطلاق اسمه على أكبر قاعدة عسكرية فى الشرق الأوسط وأفريقيا، وإحدى أكبر القواعد العسكرية الاستراتيجية الشاملة فى العالم، ليرتبط اسمه بالجيش المصري، ليس فقط كأول رئيس للجمهورية، ولكن كقائد عسكرى منح وطنه أقصى ما يستطيع.
يوسف صديق .. الفارس المقهور
ولا تخلو قائمة رموز ثورة يوليو 1952 من أسماء أخرى تعرضت لظلم تاريخي، استبعدت من مشاهد التكريم والاحتفاء، والقى بها إلى أركان الظلمة والاختفاء، ومن بين تلك الأسماء يبرز اسم شاعر وفارس، طالما آمن بقضية وطنه، وحمل حياته بين كفيه قربانا لوطنه فى ليلة الثورة، وكان هو المنقذ الذى دفع به القدر لتغيير التاريخ فى لحظات، ولولاه لما عرفت الثورة انتصارا، بل لعلقت رؤوس الثوار فوق أعواد المشانق!!
إنه العقيد أركان حرب يوسف منصور صديق عضو مجلس قيادة الثورة، الملقّب بـ«فارس ثورة يوليو ومنقذها»، والذى كان على موعد مع القدر فى ليلة الثورة، فقبل أن ينتصف ليل القاهرة تحرك يوسف صديق بقواته من منطقة «الهايكستب» مبكرا عن الموعد المتفق عليه بين قادة حركة الضباط الأحرار، وهو التحرك الذى كان بمثابة منحة من القدر لإنقاذ الثورة من الفشل، فقد مكّن ذلك التحرك المبكر صديق، من السيطرة على مقر قيادة الجيش بعد إلقائه القبض على قيادات الجيش الملكى قبل تحركهم للقبض على الضباط الأحرار.
قبل تحركه وبدء مشاركته البطولية فى الثورة خطب يوسف صديق فى ضباطه وجنوده قائلا إنهم مقدمون هذه الليلة على عمل من أجل الأعمال فى التاريخ المصري، وسيظلون يفتخرون بما سيقومون به تلك الليلة هم وأبناؤهم وأحفادهم وأحفاد أحفادهم، وكم كان صادقا ذلك الشاعر النبيل وهو يلقى بتلك الكلمات أجمل قصائده فى حب وطنه، فقصيدته لم يصغها بالكلمات، بل بروحه وحياته التى وضعها فى تلك الليلة فداء لوطنه.
انضم يوسف صديق صاحب التاريخ العسكرى المشرف، والوعى السياسى المستنير، للضباط الأحرار فى أكتوبر 1951، وجاءت عواصف أزمة 1954 لتبعد الفارس الشاعر عن المشهد، لكنه لم يبتعد يوما عن الميدان، فقد ظل مساندا لوطنه وللثورة، رغم الخلاف الحاد وقتها مع الرئيس جمال عبد الناصر.
وتجسدت أخلاق الفرسان حقا فى لحظة وفاة عبد الناصر، فقد كان وقتها العقيد يوسف صديق يُعالج فى الاتحاد السوفيتى من سرطان الرئة، وعندما وصله الخبر قطع رحلة علاجه وعاد إلى مصر على وجه السرعة، وكتب قصيدة رثاء فى صديقه الراحل، وقد توفى صديق فى 31 مارس 1975.
وبعد 43 عاما على رحيله كان مشهد آخر لأخلاق الفرسان يتجدد بتكريم صديق، من جانب رئيس مصر الذى يعرف جيدا قيمة الوفاء، ويقدر الرجال حق قدرهم، فقد قرر الرئيس السيسى عام 2018 منح اسم البطل يوسف صديق «قلادة النيل» أرفع الأوسمة المصرية، وجاء التكريم خلال الاحتفال بتخرج دفعة جديدة من طلبة الكليات والمعاهد العسكرية فى الكلية الحربية، وكأن القيادة السياسية أرادت أن يكون ذلك التكريم درسا عمليا وتجسيدا واقعيا لقيمة النبل والوفاء، النبل من جانب رجل حمل روحه على كفه، وقرر أن ينحاز لوطنه وتغييره للأفضل، وحتى عندما اختلفت الرؤى وافترقت المصائر، لم يكن عبئا على بلده أو قيادته، بل كان دائما داعما لها وسندا فى كل المناسبات والمواقع فى إنكار للذات.
الشاذلى من المجد إلى الحبس!
وإذا كانت صراعات السياسة قد عصفت بالعديد من رموز يوليو، فإن الخلافات أيضا كانت أحد أسباب «ظلم» العديد من قادة حرب أكتوبر، يُضاف إليها بعض نوازع الغيرة، والرغبة فى «احتكار» النصر على مدى عقود لصالح أسماء بعينها، مقابل تجاهل أسماء أبطال حقيقيين خلد التاريخ العسكرى بطولاتهم وتضحياتهم، حتى وإن تجاهلتها السياسة، إلى أن جاء إنصاف الرئيس السيسى للكثير من هذه الأسماء.
وأول الأسماء البارزة من أبطال وقادة حرب أكتوبر الذين طُوى ذكرهم عمدا، كان الفريق سعد الدين الشاذلي، رئيس أركان حرب القوات المسلحة خلال معركة العبور، بعد خلافه الشهير مع الرئيس السادات بشأن أسلوب تصفية ثغرة الدفرسوار، فتوسعت دائرة الخلاف، ولم تعد تقتصر على البعد العسكري.
كان سعد الدين الشاذلى واحدا من نجباء المؤسسة العسكرية، وكانت معركة العبور صفحة ناصعة فى تاريخه، فهو أحد أبطالها الكبار، الذين أسهموا فى تحقيق النصر، ليس فقط بحكم منصبه كرئيس للأركان، لكن لأنه كان أحد الخبرات العسكرية الفريدة، فقد شارك فى حرب فلسطين عام 1948، وانضم للضباط الأحرار فى 1951، وخاض بعدها كل معارك الوطن فى 1956، و1967، وحرب الاستنزاف.
تنسب كثير من المراجع العسكرية للفريق الشاذلى دوره البارز فى وضع خطة العبور، التى اشتهرت بخطة «المآذن العالية»، وتجسدت فيها قدرة الشاذلى على استخدام التكتيك العسكرى والقيادة والمناورة، وفهمه لطبيعة العدو وحدود قدراته، وسارت الأمور وفق الخطة المرسومة حتى حدوث «ثغرة الدفرسوار» التى تسببت فى خلاف بينه وبين الرئيس السادات، اضطره إلى قضاء سنوات طويلة خارج مصر، وحتى عندما عاد إلى البلاد فى منتصف التسعينات، تعرض للحبس لمدة ثلاث سنوات، ورفض الرئيس الراحل مبارك منحه عفوا رئاسيا، رغم امتلاكه الحق القانونى فى ذلك!
ورغم رحيل الفريق سعد الشاذلى فى 10 فبراير 2011 عن 89 عاما بعد معاناة طويلة مع المرض، بينما مصر تجتاز لحظة فارقة من عمرها، إلا أن الوفاة لم تكن هى مشهد النهاية فى حكاية هذا القائد العسكرى الفذ، فقد تحققت نبؤة الشاذلى التى دونها فى مذكراته عندما كتب: «أنا واثق من أن مصر سوف تكرمنى فى يوم من الأيام بعد أن تعرف حقائق وأسرار حرب أكتوبر»، على يد الرئيس عبد الفتاح السيسى فى أكثر من مناسبة، حتى قبل أن يتولى رئاسة البلاد، فقد قرر السيسى خلال توليه منصب القائد العام للقوات المسلحة، إطلاق اسم الفريق سعد الدين الشاذلى على الدفعات 109 حربية، و67 بحرية و82 جوية و54 فنية عسكرية، و44 دفاع جوي، وهو تكريم له قيمته فى التقاليد العسكرية العريقة، كما تم إطلاق اسمه على أحد المحاور الرئيسية التى تربط طريقى السويس والإسماعيلية الصحراوى.
الجنرال النحيف المخيف
وإذا كانت الخلافات بين الشاذلى والسادات وراء أزمة الأول، فإن المشير محمد عبد الغنى الجمسى رئيس هيئة العمليات للقوات المسلحة خلال حرب أكتوبر المجيدة، الذى اشتهر بأنه «مهندس حرب أكتوبر»، ووصفته جولدا مائير رئيسة الحكومة الإسرائيلية بأنه: «الجنرال النحيف المخيف»، قد تعرض لظلم من نوع آخر، عندما تم تجاهل دوره لسنوات طويلة، رغم أنه واصل الصعود على سلم القيادة، حتى تولى منصب وزير الحربية، وكان آخر من يحمل هذا اللقب، فقد تغير مسمى الوزارة عقب خروجه من الحكومة ليكون وزارة الدفاع.
ورغم الدور الوطنى الكبير والعطاء المتميز، لصاحب «كشكول الجمسي»، والذى ساهم بعقليته العسكرية المنظمة، ودأبه الفريد فى جمع المعلومات وتوظيفها لإدارة العمليات، فى نجاح عملية العبور، كما ترأس وفد مصر العسكرى فى مفاوضات فض الاشتباك، التى عُرفت بمفاوضات الكيلو 101، إلا أن الرجل عانى طويلا أيضا ولسنوات من تجاهل دوره المهم والحيوى وبخاصة فى حرب أكتوبر، لصالح التركيز فقط على أهمية الضربة الجوية، وهو ما كان سببا لإحساس «الجنرال النحيف المخيف» بالمرارة، وقد لمستُ الأمر شخصيا فى حوار صحفي، كان لى شرف إجراؤه مع المشير الجمسى قبل رحيله بأربعة أعوام، لكن الرجل الذى اعتاد العطاء، لم يطلب لنفسه شيئا، ولا حتى ارتضى أن يشكو من ذلك التجاهل والنسيان.
ورغم رحيل مهندس حرب أكتوبر فى صمت بعد معاناة مع المرض فى 7 يونيو 2003 عن عمر يناهز 82 عاما، إلا أن الرئيس عبدالفتاح السيسى أعاد إليه بعض التكريم المستحق، والإنصاف الذى لم يحظ به الرجل فى حياته، فأطلق اسمه على الدفعة 55 من الكلية الفنية العسكرية عام 2018، وكذلك على الدفعة الأولى من كلية طب القوات المسلحة، التى شهد الرئيس بنفسه حفل تخريجها من كلية طب القوات المسلحة الجديدة، فى أكتوبر 2019 ، وقد شاهد الرئيس خلال الاحتفال فيلما تسجيليا يرصد جوانب مضيئة من تاريخ الرجل، ودوره العسكرى والوطنى الحافل بالانجازات.
صاحب خطة الضربة الجوية الحقيقي
ومن الأسماء الكبيرة وصاحبة التضحيات النادرة التى لم تحظ بنصيبها من تسليط الأضواء أو الحصول على التكريم الواجب، اسم اللواء اللواء أ.ح طيار مصطفى شلبى الحناوى، قائد القوات الجوية أثناء حرب الإستنزاف، وقد تولى قياده القوات الجوية فى أكتوبر 1967 وبدأ على الفور فى تطوير وإصلاح سلاح الطيران بعد هزيمة حرب 1967، والذى دمرت معظم قدراته القتالية فى أول أيام حرب الأيام الستة.
وكان اللواء الحناوى متفوقا منذ بداياته الدراسية، فقد ولد فى 23 مايو 1924 فى محافظة البحيرة، مركز ايتاى البارود، بقرية كفر عوانة، وكان يرغب فى دراسة الطب، لكن التحق قدرا بالكلية الحربية، وكان من أوائل دفعته، فالتحق بالكلية الجوية، وكان أيضا أول دفعته بها.
شارك اللواء الحناوى فى بعثات خارجية فى المملكة المتحدة والاتحاد السوفيتى، وقام بالطيران على 22 نوعا من الطائرات، كما حصل على درجة ماجستير فى العلوم العسكرية من أكاديمية «فرونز» من الاتحاد السوفيتى سنة 1959، وشارك فى كل المعارك بداية من حرب 1948 وحتى حرب أكتوبر 1973 التى وضع خطة الهجوم للقوات الجوية بها.
وكانت فترة تولى اللواء الحناوى كقائد للقوات الجوية و الدفاع الجوى 1967-1969 هى فترة البناء الحقيقية للقوات الجوية، باعتراف الفريق حسنى مبارك، الذى خلفه فى القيادة، وتولى قيادة القوات الجوية خلال الحرب، وكان رفض اللواء الحناوى تدخلات بعض المقربين من الرئيس عبد الناصر فى عمله، سببا فى تقاعده، لكن الفريق أول محمد صادق بعد توليه منصب وزير الحربية عام 1971، وعقب القضاء على مراكز القوى، أصر على إعادة اللواء الحناوى للخدمة العسكرية، وكان الاتفاق أن يعود الحناوى إلى أكاديمية ناصر العسكرية انتظارا لأول تعديل وزارى فيتم تعيينه وزيرا للطيران المدني، لكن التعديل الوزارى جاء بخروج الفريق أول محمد صادق من الحكومة، وبقى اللواء الحناوى فى الفترة من 1971 وحتى 1975 فى أكاديمية ناصر، لكن القدر أراد أن يكون ذلك خيرا لمصر كلها، فقد طلب الجنرال كاو كاريف رئيس قسم الطيران بالأكاديمية من اللواء الحناوى بما لديه من خبرات وقدرات قيادية يعرفها جيدا أن يضع خطة هجوم القوات الجوية على القوات الإسرائيلية، وكان رد اللواء الحناوى أنه ليس فى موقع القيادة ليقوم بذلك، فأخبره الجنرال السوفيتى أنه يمكنه إعداد الخطة كبحث يصدر من الأكاديمية.
وبالفعل عكف اللواء الحناوى على إعداد الخطة، وجمع أحدث المعلومات بالاستعانة بالمخابرات الحربية، وقدم الخطة كبحث نوقش على أعلى المستويات داخل الأكاديمية قبل تقديمه للقيادة العامة، وكان هناك اعتقاد سائد بأن القوات الجوية لا تستطيع تنفيذ عملية هجومية، لكن عندما تلقى الفريق أول صادق الخطة، وكان يؤمن بقدرات وكفاءة اللواء الحناوى اعتمد الخطة، كما اعتمدها من بعده المشير أحمد إسماعيل الذى تولى قيادة القوات المسلحة لاحقا، وكان يعرف اللواء الحناوى جيدا، وأخبره فى لقاء بينهما قبل الحرب أنه أعجب بالخطة واعتمدها وأحالها للقوات الجوية للتنفيذ.
وعندما اندلعت شرارة الحرب، كانت المفاجأة بأن كل ما تضمنته الخطة جاء دقيقا إلى أبعد حد، حتى توقعات الخسائر فى الطائرات، ولكن خلال القتال تم تنفيذ عملية إبرار جوى بالهليكوبتر لقوات الصاعقة، وفشلت العملية، وطلب المشير إسماعيل من اللواء الحناوى تقييم العملية وفق الخطة، فكان رده بعد دراسة العملية أنها لم تكن واردة بالخطة، وأن العملية شابها الكثير من الأخطاء فى التخطيط والتنفيذ.
ونقل المشير إسماعيل تلك الملاحظات للفريق حسنى مبارك قائد القوات الجوية، ويبدو أنه لم يتقبل تلك الملاحظات، فأرسل عبر وسيط إلى اللواء الحناوى يطلب منه عدم انتقاد القوات الجوية، «فهو الذى بنى تلك القوات وهو الذى وضع خطة الهجوم»، ولاحقا التقى اللواء الحناوى ومبارك بطلب من الأخير وتم تصفية الأمر، وأوضح الحناوى أن ملاحظاته لم تكن انتقادا، ولكنها تقييم لعملية، والخطأ وارد خلال القتال، وتحدث الرجلان فى اجتماع مغلق لثلاث ساعات، لكن يبدو أنها لم تكن كافية لإزالة كل ما فى نفس مبارك الذى أختير بعدها نائبا لرئيس الجمهورية.
وشعر اللواء الحناوى فى عام 1975 أن أمورا كثيرة تتبدل من حوله، وأن جيلا جديدا يصعد لتولى القيادة، فآثر الخروج فى صمت، وتقدم باستقالته من أكاديمية ناصر، واستمر هذا الصمت حتى وفاته عام 1999، دون أن يحظى واضع خطة هجوم القوات الجوية فى حرب أكتوبر بأى تكريم، إلى أن جاء قرار الرئيس عبدالفتاح السيسي، القائد الأعلى للقوات المسلحة، بتكريم هذا البطل وإطلاق اسمه على الدفعة 85 جوية، وشهد الرئيس بنفسه الاحتفال عام 2018، وكان هذا التكريم لمسة وفاء حقيقى لأحد أبطال القوات المسلحة، الذين لم تمنحهم الظروف ما يستحقون من تقدير.
الأب الروحى للصاعقة المصرية
أما حكاية البطل جلال هريدي، فهى قصة درامية بكل ما تحمله الكلمة من معانٍ، فهذا الرجل كان أصغر قائد بالجيش المصري، وهو الأب الروحى للصاعقة المصرية بعد أن قرر نقل مفهوم «الصاعقة» عقب دراسته لها فى الولايات المتحدة، وأصبح قائد السلاح وهو ما زال نقيبا.
قدم الكثير من البطولات خلال حربى 1948، وحصل على وسام الجدار الذهبى عن دوره فيها، كما ساهم مع رجاله خلال العدوان الثلاثى عام 1956 بأعمال استثنائية حيث فجروا معسكر الدبابات البريطانية فى بورسعيد، كما رفض الاستسلام للهزيمة فى 1967، وكانت قوات الصاعقة صاحبة الفضل فى إيقاف العدو الإسرائيلى فى معركة «رأس العش»، وتقديم نموذج ملهم لإمكانية إعادة بناء الروح المعنوية والتصدى ببسالة للعدوان.
حكم عليه بالإعدام بسوريا، عندما كان قائدا للقوات فى اللاذقية ووضع فى سجن المزة خلال فترة الانفصال عن مصر عام 1961، ولم ينفذ الحكم، كما حُكم عليه مجددا بالإعدام أثناء الصراع على السلطة بين المشير عبدالحكيم عامر والرئيس جمال عبدالناصر بعد النكسة، إلا أن الحكم خُفف للمؤبد، وفى عام 1974 أفرج الرئيس أنور السادات عن هريدى صحيا بعد قضاء 7 سنوات وشهرين و5 أيام، ليتوارى تماما عن الأنظار، وتطوى سيرة أحد الأبطال الذين قدموا مسيرة عسكرية استثنائية وتضحيات لا تُنسى.
إلى هنا كان يمكن للقصة أن تنتهي، لكن الرئيس عبد الفتاح السيسى خلال توليه منصب وزير الدفاع أراد ألا تطوى الصفحة دون أن يحظى البطل جلال هريدى بما يستحقه من تكريم، فكان ظهوره العلنى الأول بعد سنوات من البقاء فى الظل، ففى احتفالات أكتوبر 2012، تم تكريم هريدى بمنحه رتبة فريق فخرى ونوطا للتكريم، وقال هريدى حينها إنه بمنحه هذه الرتبة قد استرد كرامته فى أخر أيام عمره وبعد وصوله لسن 83 عاما.
ولم يتوقف «الإنصاف» الذى ناله الأب الروحى للصاعقة المصرية عند هذا الحد، بل جاء إنصاف من نوع آخر وهو الاستفادة من روحه الوطنية، فكان تأسيسه لحزب «حماة وطن» بعد ثورة 30 يونيو، والذى ضم كوكبة من رجال القوات المسلحة السابقين، الذين وضعوا خلاصة خبراتهم ورؤيتهم لدعم منظومة الأمن القومى من خلال هذا الكيان المدنى النشط.
كما تم تعيين الفريق هريدى بقرار جمهورى ضمن 100 من الشخصيات العامة فى مجلس الشيوخ، وليترأس الرجل الجلسة الأولى لهذا المجلس النيابى بعد عودته إلى الحياة، ليعرف الناس سطورا بسيطة من سيرة بطل، ظلمته الأحداث، وأنصفه الرئيس السيسي.
الكلمات الدالة
الاخبار المرتبطة