د.أسامة السعيد
د.أسامة السعيد


حكايات من حياة «صعيدى» غيّر التاريخ!

د. أسامة السعيد

الخميس، 21 يوليه 2022 - 09:01 م

لم يحصل فى مادة التاريخ سوى على (68%) وهى من أقل درجاته، رغم عشقه للتاريخ، ورغم أنه سيتحول لاحقا إلى أحد صناع ذلك التاريخ.

وقف المعلم بين مجموعة من الطلاب يختبر قدراتهم على الحساب، واعدا إياهم بمكافأة لصاحب الإجابة الصحيحة، وسألهم: لنفترض أننا ضللنا الطريق فى الصحراء، ونريد نحديد موقعنا باستخدام البوصلة، مع العلم أننا سنضطر لدفع عشرين قرشا لمعرفة كل واحد من الاتجاهات الأربعة، فكم قرشا يجب أن ندفع لقاء معرفة الاتجاهات الأربعة؟


هتف الطلاب بسرعة، وقد ظنوا أنهم فازوا بالمكافأة: ثمانون قرشا!
لكن طالبا أسمر الوجه، حاد العينين، كان يقف وحيدا رد بهدوء: سندفع عشرين قرشا فقط.


فسأله المدرس عن السبب، فأجاب ببساطة، لأننا لو عرفنا أيا من الاتجاهات الأربعة سوف نتمكن من معرفة الثلاثة الآخرين مجانا!
هذا الطفل كان اسمه جمال عبد الناصر حسين خليل سلطان المري، سيصبح فيما بعد واحدا من رموز وطنه وأمته وصانعا لصفحة من تاريخ العالم، لا تزال – بحلوها ومرها – تشغل كثيرين إلى يومنا هذا، وأظنه سيبقى شاغلا للأذهان، ومحلا لاتفاق واختلاف لسنوات طويلة قادمة.


واحدة من مآسينا فى كتابة التاريخ، ولا أقصد هنا التاريخ الحديث والمعاصر فقط، لكن التاريخ العربى بشكل عام، أننا نهتم بالأحداث الكبرى والصراعات السياسية الساخنة، بينما نتجاهل تاريخ ذلك الإنسان الذى يصنع الأحداث، ويشعل الصراعات، رغم أن معرفة الإنسان عن قرب، ربما تكون الوسيلة الأفضل والأسهل لفهم بقية القصة.


ورغم كل ما كُتب عن «الزعيم» جمال عبد الناصر، القائد الحقيقى لثورة 23 يوليو 1952، التى نحتفل هذه الأيام بذكراها السبعين، إلا أنه لم يكن استثناءً من ذلك المنهج القاصر فى كتابة التاريخ، فكان تركيز المؤرخين العرب دائما كان على جمال عبد الناصر «الزعيم» دون الانتباه إلى ذلك الثراء الذى تقدمه شخصية عبد الناصر «الإنسان».


بل لا أبالغ إذا قلت إن من يريد أن يفهم كثيرا من قرارات عبد الناصر وسياساته ومواقفه، وحتى تلك التى لا تزال محل جدل وخلاف بين المتخصصين وعامة الناس على حد سواء، فعليه أن يعيد قراءة التحليل النفسى والاجتماعى لشخصية الرجل، كى يدرك كيف كان متسقا مع عوامل تكوينه.

ومخلصا للأفكار التى آمن بها عمره كله، وأعتقد أن ذلك الصدق أحد مفاتيح بقاء شخصية الزعيم جمال عبد الناصر إلى اليوم، واحترام حتى من يختلفون مع سياساته لشخصيته.
لكى نفهم شخصية «عبد الناصر» يبغى أن نعيد قراءة ماضيه، فجذوره البسيطة، تجعله واحدا من أبناء الفلاحين، عاش جده «حسين» فى قرية فقيرة اسمها «بنى مر» فى أسيوط، لكنه رغم قسوة الحياة والفوارق الطبقية الصارخة، نجح فى تعليم أبنائه الستة.

ومنهم ابنه «عبد الناصر» الذى أصبح موظفا بمصلحة البريد، براتب شهرى ثمانية جنيهات، وسرعان ما انتقل إلى الإسكندرية ليعمل فى مكتب بريد سيدى بشر، وهناك يلتقى نصفه الآخر، فهيمة ابنة محمد حماد، وهى ابنة لرجل صعيدى أيضا، ويرزق منها فى 15 يناير 1918 بنجله الأول الذى أسماه «جمال» وتبدو على الطفل منذ صغره سمات النبوغ.


 وفى الثامنة من عمره يبعث به والده وحيدا فى القطار من مقر عمله بالخطاطبة إلى القاهرة ليستكمل تعليمه، ويقيم لدى عمه «خليل» المقيم فى مصر القديمة والمغرم بحكايات التاريخ، وأحلام الاستقلال الوطني، والتى دفع ثمنها سنوات فى السجن بسبب نشاطه فى دعم ثورة 1919.. هذا العم سيتحول لاحقا إلى ملهم للطفل «جمال» الذى تشبع منه عشق التاريخ، وكثيرا ما كان يسأله عن حكاية صلاح الدين، وهو يرنو إلى القلعة التى تحمل اسمه، ويمتلئ حماسا وهو يستمع إلى كيفية توحيد صلاح الدين للعرب، وطرده للغزاة.


صانع التاريخ
عشق التلميذ جمال عبد الناصر دروس التاريخ، وقراءة سير العظماء، فكان يلتهم الكتب التى تتحدث عن سيرة نابليون والإسكندر ويوليوس قيصر وغاندى وروسو وفولتير، وأحب قراءة الأدب الغربى والعربي، وتأثر كثيرا برواية «عودة الروح» لتوفيق الحكيم.

وخلال قراءاته كان يمسك بقلم رصاص يخط به تحت الجمل المؤثرة، وهذه العادة سترافقه طيلة حياته، وستكون سببا فى إمدادنا بتراث ثرى من يومياته ومدوناته، التى قدمتها ابنته الدكتورة هدى عبد الناصر فى عدة مجلدات قبل عشر سنوات تحت عنوان «جمال عبد الناصر .. الأوراق الخاصة».


نجد نسخة جمال عبد الناصر الخاصة من رواية «عودة الروح التى قرأها شابا، وقد وضع خطا سميكا تحت عبارة تتحدث عن ضرورة «ظهور زعيم للمصريين يستطيع توحيد صفوفهم ودفعهم للنضال فى سبيل الحرية والبعث الوطني»، وتشبع بهذه الفكرة، وكانت بوابته لدخول عالم السياسة فى تظاهرات الطلبة ضد الاحتلال الإنجليزي، واعتقل مرة، وأصيب أخرى.


وكانت مشاركته فى تلك التظاهرات سببا فى استبعاده من الالتحاق بالمدرسة الحربية عام 1936، فاختار الالتحاق بكلية الحقوق جامعة القاهرة، وقضى بها عدة أشهر، قبل أن يمنحه القدر فرصة جديدة، بطلب «الحربية» دفعة إضافية من الطلاب عددهم  44 طالبا.

وهنا لجأ عبدالناصر للمرة الأولى، وربما الأخيرة فى حياته، للواسطة، ووجد سبيلا إلى اللواء إبراهيم باشا خيرى نائب سكرتير عام وزارة الحربية، ليخوض «جمال» التجربة مجددا، ويجد نفسه بعد عدة أشهر طالبا بالمدرسة الحربية، بصحبة أسماء سيعرفها المصريون جيدا بعد سنوات، منهم عبد الحكيم عامر، خالد محى الدين، زكريا محى الدين، أنور السادات، حسين الشافعي.


من المفارقات التى ترصدها سيرة جمال عبد الناصر أنه كان قارئا نهما طوال سنوات دراسته بالحربية.


«البريد الأسود» !
وبعيدا عن التفاصيل الكثيرة حول التجهيز للثورة وأحداثها ومساراتها، فإننى أتوقف عند بعض التفاصيل الإنسانية فى حياة «زعيم»، لا يزال الناس يستدعون صورته وسيرته كلما ألمت بالوطن الشدائد، وتذكروا هذا المشهد فى ميادين التظاهر فى 2011، و2013.

ومن بين تلك التفاصيل قدرته الهائلة على التواصل مع المصريين من شتى الفئات والمستويات، فهو رجل جاء من بينهم، اختلط جسده بتراب القرية، وجاء من بين أبناء الطبقة المتوسطة، يعرف همومهم ويتفهم أحلامهم.


من بين الوسائل التى انفرد بها «عبد الناصر» فى استقاء المعلومات – إضافة طبعا إلى تقارير أجهزة الدولة المعنية- كانت رسائل المواطنين وشكاواهم إليه، بل ورسائل انتقاده والهجوم اللاذع عليه، أو ما عُرف بـ»البريد الأسود»، وكان عبد الناصر يصر على عرض تلك الرسائل عليه كاملة، والتحقق مما يرد بها.


ومن أغرب الحوادث التى يرويها محمود الجيار مدير مكتب الرئيس عبد الناصر فى هذا الشأن فى مذكراته التى رواها للكاتب ضياء الدين بيبرس وحملت عنوان «الأسرار الشخصية لجمال عبد الناصر»، ونشرت عام 1976، أن عبد الناصر تلقى رسالة ضمن «البريد الأسود» كانت سببا فى تعيين كاتبها وزيرا، فقد وصلت إلى الرئاسة رسالة بدا أن كاتبها، الذى لم يشأ كتابة اسمه، على علم ودراية كبيرة بالموضوع الذى يكتب فيه.

وكانت الرسالة تتضمن انتقادات حادة  لسياسات الدكتور عبد المنعم القيسونى وزير الخزانة والتخطيط، وكانت وجهة النظر الورادة فى الرسالة مدعمة بأسانيد ومعلومات قوية وعلمية، الأمر الذى أثار اهتمام الرئيس واحترامه.


واختتم الكاتب المجهول رسالته بأن لديه تفصيلات أوفى، وأنه مستعد لأن يوافى بها الرئيس إذا لم يكن فى هذا ضياع لوقته، وأنه على كل حال لا يطلب مقابلته، وإنما فقط يطلب إشعارا بأنه مهتم بمتابعة كل جوانب الموضوع، فإذا كان الأمر كذلك فإنه يرجو أن تنشر رئاسة الجمهورية إعلانا فى الأهرام نصه «إلى ولدنا أحمد، اكتب لوالدك وسيهتم بطلباتك... جميل».
وما كان من عبد الناصر إلا أن طلب من مدير مكتبه أن ينشر الصيغة التالية على نفقته الخاصة فى «الأهرام»: «إلى ولدنا أحمد... لماذا لا تحاول أن ترى والدك شخصياً بدلاً من أن تكتب إليه؟ هو سيهتم بطلباتك... جميل».


وفى مساء اليوم نفسه الذى نشر فيه هذا الإعلان الغامض، وصلت إلى رئاسة الجمهورية برقية باسم عبدالناصر يقول فيها مرسلها: «ولدكم أحمد يا سيادة الرئيس ينتظر تحديد موعد لمقابلتكم»، ولكن البرقية حملت هذه المرة اسم صاحبها، وكان أستاذا متخصصا فى مجاله، ومعروفا فى الأوساط العلمية، وحاصل على درجة الدكتوراه،  وقابله الرئيس فعلا، وناقشه فى اعتراضاته، وطلب منه أن يواجه الدكتور القيسونى بذلك، ثم طلب منه أن يكتب له عدة تقارير مفصلة حول وجهة نظره، وبعدها اختاره الرئيس وزيرا.


هذه الطريقة التى تبدو غريبة فى اختيار عبد الناصر لوزرائه، لا تثير الدهشة إذا ما عرفنا أن الرئيس وفى السنة الثالثة للثورة قد اختار أحد الوزراء الشباب فى حكومته بطريقة مثيرة للاستغراب، فقد كان الرئيس يزور مجلس الإنتاج القومي.

وكان هناك مهندس شاب على درجة وظيفية صغيرة يتولى الشرح أمام الرئيس، وأبدى عبدالناصر تعليقا يتضمن وجهة نظره فى أمر ما، لكن المهندس الصغير خالفه فى الرأى أمام الحضور من كبار قيادات الدولة، وعرض وجهة نظره بهدوء وموضوعية أقنعت عبد الناصر بصحة ما ذهب إليه المهندس الشاب، وفى الأسبوع التالي، اختار عبد الناصر ذلك المهندس الشاب ليشغل منصب وزير الصناعة، ليكون ذلك الشاب أحد أشهر وزراء الصناعة فى تاريخ البلاد، وهو المهندس عزيز صدقي!


رحم الله الزعيم والإنسان جمال عبد الناصر، والذى ستبقى ذكراه حية لعقود طويلة قادمة، سواء بين من أحبوه وأخلصوا فى حبه، أو بين من عارضوه بالغوا فى خصومته.

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة