نوال مصطفى
نوال مصطفى


يوميات الاخبار

حضور الغياب

نوال مصطفى

السبت، 30 يوليه 2022 - 08:08 م

ربما سطع وجودهم وتأكد أكثر بالرحيل المادى عن عالمنا الدنيوى، وكأنهم برحيلهم اختاروا الخلود اللانهائى فى ذاكرة وعينا ومشاعرنا.

قرأت بوست على الفيسبوك، هزنى، لمس مشاعر عشتها بالفعل عندما اختطف الموت قطعة من قلبى بلا مقدمات أو تمهيد أو توقع فى صيف 2018. مرضت نجلاء أختى الصغيرة فجأة، ولم يكن مرضها رحيما، بل خبيثا، شرسا، كشر عن أنيابه فى مرحلته النهائية، وانتزع الجميلة، الراقية، الحنون، الحبيبة فى أقل من شهر منذ اكتشفنا البلاء وحتى كتب القدر كلمة النهاية لحياتها القصيرة العامرة بالحب والعطاء.


لذلك تأثرت بما كتبته الكاتبة الصحفية ولاء العصرة على صفحتها عن تجربتها فى العيش مع أشخاص فقدناهم بالموت لكنهم حاضرون بقوة فى حياتنا، بل ربما سطع وجودهم وتأكد أكثر بالرحيل المادى عن عالمنا الدنيوى، وكأنهم برحيلهم اختاروا الخلود اللانهائى فى ذاكرة وعينا ومشاعرنا، وهذا بالضبط ما أعيشه منذ وفاة نجلاء؛ لذلك رأيت أن أشارككم هذه السطور التى كتبتها واصفة هذا الإحساس الفريد.


«اكتشفت أن عمر ما وفاة حدّ بتحبه كان نهاية لوجوده فى حياتك. اللى اكتشفته مؤخرا مع وفاة حدّ قريب منك وعزيز عليك إنه بيفضل موجود معاك على طول يمكن موجود بقوة بصورة أكبر بكتير من وهو كان عايش... إنت عامل حسابه دايما... إنت بتفكر فيه على طول كل مشهد قدام عينك بتشوفه لازم يبقى فيه حته بتفكرك بيه.. تقعد مكانه تفتكره تتحرك فى بيتك تفتكره، تتكلم تفتكره، تاكل أكله كان بيحبها تفتكره. بتدعيله تلقائيا قبل ما تدعى لنفسك أصلا... بتتصدق له قبل ما تتصدق لنفسك.. حتى لو فرحت بحاجة لازم بيخطر على بالك كأنك بتقوله أنا فرحان بس مش ناسيك، ولو زعلت عشان حاجة تفتكره وكأنك برضو بتقوله أنا آه زعلان بس بعدك مفيش حاجة تستاهل أزعل عليها قدك.. لا والغريب إنك أوقات تحب حاجات كنت بتكرهها وهو عايش وبتنقده فيها لمجرد إنك بقيت عايز تفهم فلسفته فى كده وإنك بتشم ريحته فى الحاجة دى... وممكن ما يكونش دخل كتير المكان اللى انت بتروحه بس تحس إنه كان وجوده فى حياتك كان ساندك ومخليك قوى فى الأزمات لمجرد إنه كان بيقوللى «آلو.... إزيك يا حبيبتى عاملة ايه».


دى علاقة مميزة من نوع تانى...علاقة كلها حب ومشاعر مختلفة ما بين حب وألم وافتقاد وأحيانا سعادة حاجة كده عجيبة... الخلاصة هم اتحولوا من أشخاص كانوا حوالينا لأشخاص بقوا جوانا... وده من لطف ربنا بقلوب عباده. الله يرحمك وحشتنى يا اخويا يا حبيبى».


أحمد الخميسى
كلما قرأت للأديب أحمد الخميسى، يتملكنى شعور غريب، أننى أريد أن أكتب مثله! نعم يحدث ذلك كثيرا معى والسبب فى ذلك هو أن أحمد يكتب من النبع، المصدر العميق الرائق الصافى للمشاعر، أشعر أن تعبيره بسيط لدرجة الاعجاز، ووصفه للتجارب والمواقف والذكريات المخزونة سواء جاء فى قصة أدبية أو مقال صحفى يأتى من المادة الخام للمشاعر، كالنهر الرقراق الذى لم يتعكر بذرة غبار. قرأت له مؤخرا مقالا بعنوان «حجرة ثالثة داخل القلب» ينعى فيها شقيقه الدكتور فتحى الخميسى. يتحدث أحمد عن حجرة الأحزان التى تفسح لنفسها مكانا فى القلب عندما يموت أقرب إنسان للشخص، بعدها تبدأ تلك الحجرة تتسع ليدخلها أشخاص آخرون نفقدهم خلال حياتنا، ومع كل شخص نفقد جزءا من أنفسنا يتجاور مع الأجزاء السابقة للذين رحلوا عن حياتنا وتركوا فراغا هائلا لا يمكن ملؤه. شكرا يا أحمد لأنك بيننا تشع أدبا خالصا صافيا، تقدمه إلينا فنستعيد إحساسنا بآدميتنا، ونتذكر أننا بشر لا نزال.


سر سيد العراقى
أصبح فيديو المراجعة النهائية لعلم النفس والفلسفة للأستاذ العبقرى سيد العراقى هو حديث الساعة فى كل بيت مصرى، خاصة الأسر التى يمتحن أبناؤها الثانوية العامة خلال الفترة السابقة. المشهد الذى رأيناه جميعا من خلال الفيديو يظهر موكب استقبال أسطورى يحتشد فيه آلاف الطلبة والطالبات بملابس بيضاء، يحملون لافتات تحية وتقدير تجسد مشاعر محبة وامتنان لأستاذهم سيد العراقى.
المحاضرة كانت مجانية شارك فى إقامتها عضو مجلس النواب عن دائرة الطالبية بتوفير المكان وتجهيزه لإقامة تلك المحاضرة التى ضمت آلاف الطلبة، وكذلك شارك نجم الحدث الأستاذ سيد العراقى بأجره ووقته ورفض أن يتقاضى مقابلا عنها.


الفيديو تم تصويره بكاميرا «درونز» وهى كاميرا حديثة تصور من الجو وتنتج مشاهد من منظور رأسى ليظهر كل تفاصيل المنظر. الطلبة كانوا منظمين، متحضرين للغاية، التنظيم الذى شاركوا فيه كان شيئا «يفرح فعلا»، الحب والاستقبال كان لافتا، يدعو للدهشة والتأمل. كيف استطاع الأستاذ سيد العراقى أن يكسب حب واحترام وتقدير كل هؤلاء الطلبة؟ ما سر هذا الأستاذ؟ وإذا كان لدينا مثل هذا النموذج الفاخر لمن يمتهن تلك المهنة المؤثرة فى حياة الآلاف بل الملايين، فلماذا لا ندرس هذا النموذج ونحاول أن نبحث عن أمثاله؟
هل جلس الدكتور طارق شوقى مع الأستاذ سيد العراقى؟ سؤال منطقى وبديهى من حقنا أن نسأله. أعتقد أن أى وزير للتعليم سيكون مهتما بمعرفة شخص مثل سيد العراقى الذى أعاد إلى الحياة بيت شعر لأمير لشعراء أحمد شوقى «قم للمعلم وفِّه التبجيلا.. كاد المعلم أن يكون رسولا». لو أننا معنيون فعلا بتطوير التعليم فى مصر، فلنبحث عن أمثال سيد العراقى، ولنتعلم منه كيف ينظر الطالب لأستاذه تلك النظرة التى ظهرت فى آلاف العيون كلها حب وامتنان واحترام لقيمة المدرس فى بناء الأجيال.


دكتور أحمد مرسى
فقدت مصر عالما كبيرا ورمزا مهما من رموزها هو الدكتور أحمد مرسى، أستاذ التراث الشعبى والفلكلور، نعت منظمة اليونسكو فقيد مصر الغالى باعتباره شخصية عالمية ترك بصمة عميقة فى مجال الحفاظ على التراث المصرى الذى يعد تراثا عالميا ملك الإنسانية، وكان نعيا يليق بعالمنا الكبير، واعترافا بقيمته العلمية العالية، وجهوده وأبحاثه المهمة فى مجال حفظ التراث.


على المستوى الشخصى كنت أحب هذا الرجل الذى لا يقابلك إلا بابتسامة مضيئة، لا يتحدث أبدا عن آلامه مهما بلغت شدتها، لكنه يحدثك عن الجمال والأمل فى كل شىء، حتى داخل مناطق العتمة والوجع. كان صوفيا، متوحدا مع الكون، غارقا فى تجليات الخالق بمنظور فنى فلسفى، يستوحى أفكاره البراقة من قلب الناس الحقيقية، يعيش بصدق نادر مع نفسه أولا قبل أن يكون كذلك مع الآخرين.


كتب الكثيرون ينعونه ويتحدثون عن ذكرياتهم معه، استوقفنى ما كتبه الدكتور حسين حمودة الكاتب والناقد الأدبى عنه «أسترجع كفاحه الطويل والأدوار المتعددة التى قام بها من أجل الاهتمام بالتراث الشعبى العربى الذى وهب له حياته، وسعيه المتصل إلى جمعه ودراسته، وكتاباته المهمة فى مجالاته، ودفاعه المجيد عنه فى كل مكان.. فقط أستعيد بعض أحاديثنا عبر السنوات.. وأفكر فى رؤيته لظاهرة الموت فى كتابه الجميل (كلّ يبكى على حاله ـ دراسة فى العديد)، الذى تأمل فيه ظاهرة الحزن، ومظاهر البكاء على الموتى فى جانب مهم من جوانب الثقافة الشعبية المصرية». رحم الله الدكتور أحمد مرسى، طاقة الأمل المتجددة فى قلوبنا دوما رغم الرحيل.


نهاد أبو القمصان
تعجبنى المحامية المعروفة الأستاذة نهاد أبو القمصان فيما تقدمه من محتوى قيم وهادف على صفحتها على الفيسبوك، وقناتها الخاصة على اليوتيوب. فلديها حضور قوي، وخبرات متعددة تثرى الموضوعات التى تتناولها بالحديث، وطرح الرؤية الخاصة بها تجاه تلك الموضوعات والقضايا. إلى جانب كل ذلك هى خفيفة الظل، بسيطة جدا كشخصية تستطيع أن تجعلك تشعر أنك جالس أمامها تتحاوران وتتناقشان بلا حواجز ولا افتعال.
معظم الموضوعات التى تركز عليها نهاد أبو القمصان خاصة بالمرأة، همها الأكبر هو أن تساعد النساء على أن يتسلحن بالقوة المبنية على الحق والعدل والمساواة، لا أن تستقوى على الرجل كما يحب البعض السخرية مما تقدمه. نهاد تناقش بجرأة وصراحة ما يحاول المجتمع أن يزرعه فى عقيدة المرأة منذ طفولتها المبكرة، أفكار من نوعية أن المرأة لا تستطيع الحياة والنجاح إلا بمساندة الرجل، وأن عليها أن تحتمل الإهانة من أجل استمرار الأسرة والأولاد!
تحاول نهاد أن تستدعى عناصر القوة فى المرأة، وتخرجها من مكامنها العميقة، وأن تغير الكثير من الأفكار المغلوطة التى يكرسها المجتمع والأسرة فى أذهان البنات، والنتيجة هى آلاف المآسى الإنسانية التى نشاهدها أو نقرأ عنها فى صفحات الحوادث يوميا.


أنا شخصيا أرى السوشيال ميديا مضيعة للوقت وسالبة لسنوات العمر، لكن هناك صفحات استثنائية، وقنوات يوتيوب قليلة تجعلنى أعيد حساباتى فيما يتعلق بغلق الباب أمام هذا الإعلام الجديد. الحقيقة هناك صفحات وقنوات خاصة لأشخاص نجحوا فعلا فى تقديم محتوى هادف ومحترم، لا أشعر معهم أننى أضيع وقتا، بل أشعر أننى استفدت واستمتعت برؤى مختلفة تحرك العقل، وتحفزه للتفكير بشكل مختلف، ومنها قناة وصفحة نهاد أبو القمصان.
كلمات
*لدى ما يكفى من الذكريات لأشرب قهوتى وحدى فى مقهى يظنه الجميع فارغا، لكنه يغص بالغائبين*.
(محمود درويش).
‏*أنت تشعر أنك مجرد شخص فى هذا العالم، بينما يوجد دائماً من يشعر أنك العالم بأسره.
(جورج برنارد شو)

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة