جمال فهمي
جمال فهمي


جمال فهمي يكتب: خروج الزمن من الكهف

جمال فهمي

الثلاثاء، 16 أغسطس 2022 - 06:28 م

قبل أيام مَرت الذكرى الخامسة والثلاثون على رحيل توفيق الحكيم (1898-1987) هذه القامة الهائلة فى تاريخ الأدب العربى المعاصر، إذ تجاوز أثره مجرد إغناء المكتبة الأدبية العربية بأعمال إبداعية عميقة المعنى وخالدة، فقد كان رائداً كبيراً وبناءً عظيماً أسهم إسهاماً لا يدانيه فيه أحد فى التأسيس لفن كتابة الحكى العربى الحديث خصوصاً فى المسرح.

وللحكيم مسرحية شهيرة تناول فيها، على نحو غير مسبوق، تحدى الزمن بالنسبة للإنسان الذى يقف حيال تصاريفه وقوته الداهمة شبه عاجز تماماً عن فعل أى شيء لكى يتعايش مع الواقع الذى أتى به وهو يتحرك.. إنها مسرحية «أهل الكهف» التى بدأ موضوعها وقت صدورها فى العام 1933، جديداً بل غريباً على الأدب العربى آنذاك، وهو ما دفع العميد العملاق طه حسين إلى استقبال هذه المسرحية بحماس وترحاب شديدين، فقد قال عنها: «أنها أول قصة تمثيلية عربية حقيقية حقاً، ويمكن أن يقال إنها أغنت الأدب العربى وأضافت إليه ثروة لم تكن له (قبلها) كما يمكن أن يقال فيها أيضا، أنها رفعت من شأن هذا الأدب..».

إذن الجرأة على اتخاذ عنصر الزمن موضوعاً لهذه التحفة الأدبية ربما كانت هى السبب المباشر لحماس العميد الكبير لــ«كهف» الحكيم، وقد يقال إن شجاعة هذا الأخير فى استخدام قضية «الزمن» فى عمل أدبي، إنما يعود لثقافة الكاتب الرفيعة وإطلاعه على أحدث مذاهب ونزعات الآداب العالمية فى عصره، وأنه بدا متأثراً وهو يشيد «كهفه» بما فعله الأديب الفرنسى الكبير مارسيل بروست (1871- 1922) خصوصا تحفته الرائعة الضخمة «البحث عن الزمن الضائع»، تلك التى نشرت أجزاؤها السبعة على التوالى ابتداء من العام 1913 حتى العام 1927 أى بعد وفاة بروست بخمس سنوات، وقد أجمع كبار النقاد والروائيين على اعتبارها ضمن أهم وأعظم منتجات الأدب فى القرن العشرين.. لقد كتب توفيق الحكيم «اهل الكهف» بروح خلاقة مستلهماً القصة القرآنية الشهيرة، ولكنه حورها قليلاً لكى تناسب ما كان يريد قوله: أولاً عن قوة الزمن وفعله الخطير فى حيوات البشر، وثانيا عن بشاعة القهر والظلم عموماً والاضطهاد الطائفى والدينى خصوصاً، إذ غرف من تراث تاريخنا القبطى المسيحى واحدة من حكايات الاضطهاد المروعة ونسج منها حكاية المسرحية التى تروى أن ثلاثة شبان مسيحيين قرروا الهرب من الملاحقات القاسية لمعتنقى الدين الجديد ولاذوا بكهف مخفٍ ومكثوا فيه نائمين (مع كلبهم) مدة ثلاثة قرون كاملة استيقظوا بعدها وخرجوا إلى عالم كان قد تغير تغييراً هائلاً، أحد هؤلاء الثلاثة ويدعى «مشيلينيا» كان يحب ابنة الملك، فلما قام من رقدته الطويلة وخرج للدنيا ظن أن الأميرة بريسكا هى نفسها محبوبته القديمة، ثم سرعان ما صفعته الحقيقة المرة فخاب أمله وهيمن عليه وجع اليأس فيعود إلى الكهف كسيراً حزيناً.

أما ثانى الثلاثة المدعو «مرنوش»، فقد كان ترك زوجة وطفلاً حين هرب، وها هو حين يستيقظ ويخرج من كهف نومه المستطيل لم يجد فى الدنيا الجديدة سوى قبور أسرته فيعود هو ايضا إلى الكهف ، أما الثالث «يمليخا» فإنه، مثل زميليه، لا يجد فى الواقع الجديد الذى أحدثه الزمن أى شيء يستطيع التعايش معه، فيقرر بدوره أن يعود إلى الكهف نفسه لكى يموت هناك.. وفى مشهد أخير من المسرحية تذهب الأميرة بريسكا إلى الكهف بعدما وقعت فى حب «مشيلينيا» الذى ظنها حبيبته القديمة، لكنها، رغم قوة الحب، تأتى من بعد فوات الأوان إذ تجد حبيبها يحتضر.. فهل يدرك بعض البشر الطغاة أن الزمن يتحرك متمتعاً بقوة ساحقة، وان تجاهل هذه الحقيقة السرمدية لا يفيد؟!

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة