إيهاب فتحي
إيهاب فتحي


إيهاب فتحي يكتب: اغتيال ابنة الفيلسوف

أخبار الحوادث

الأربعاء، 24 أغسطس 2022 - 03:45 م

بقلم: إيهاب فتحي

..كان مذيع النشرة الإخبارية بإحدى الفضائيات يقدم تفاصيل خبر اغتيال داريا دوجين فى إحدى ضواحى العاصمة الروسية موسكو بعبوة ناسفة وضعت فى سيارتها وفجرت السيارة وأودت بحياة داريا الصحافية والناشطة المؤيدة للدولة الوطنية الروسية والأهم أنها ابنة الفيلسوف الروسى الكسندر دوجين أو مايطلق عليه فى الأوساط السياسية بموسكو عقل الرئيس الروسى فلاديمير بوتين .

أثناء متابعة هذا الخبر الدموى كان معى أحد الأصدقاء الذى علق عقب انتهاء مذيع النشرة من تقديم التفاصيل قائلا : دوامة العنف تتسع، أعتقد  ما قاله الصديق من تعليق على الخبر دقيق إلى حد كبير وأن حادث اغتيال داريا دوجين فى إحدى ضواحى موسكو ستكون له تداعيات عنيفة على المستوى الدولى لأن مستوى الصراع فى الأزمة الروسية الأوكرانية انتقل إلى أبعاد أكثر شراسة .

قبل الدخول فى التداعيات أو دوامة العنف التى ستتسع كما علق الصديق يفضل الإجابة على سؤال هل كانت داريا دوجين هى المستهدفة ؟ بالتأكيد نشاط داريا دوجين الدعائى والسياسى مع اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية زاد بشكل كبير.

تؤيد داريا  بشدة حق بلدها روسيا فى حماية أمنها القومى والوقوف ضد تطلعات حلف الناتو ومن ورائه الولايات المتحدة فى ضم أوكرانيا إليه وكتبت فى إحدى مقالاتها المنشورة أن دخول أوكرانيا إلى حلف الناتو يعنى هلاكها مما دعا الولايات المتحدة وبريطانيا  وضعها على قائمة العقوبات المفروضة على روسيا مع الكثير من الشخصيات السياسية والدبلوماسية والاقتصادية الروسية فى مارس الماضى وكان السبب المعلن أن داريا دوجين دأبت على ترويج دعاية مضللة من خلال وسائل الإعلام التى تديرها أو تعمل بها.

علقت داريا دوجين على العقوبات الغربية المفروضة عليها وعلى والدها من قبل فى العام 2015 مع استعادة روسيا لمنطقة القرم أنها تشعر بالفخر لأن الغرب وضعها على قائمة عقوباته.

لم تكن الحروب الدعائية التى تشنها داريا دوجين على الولايات المتحدة وحلفائها عفوية أو ناتجة عن انفعال فهى درست الفلسفة فى جامعة موسكو وتجيد الفرنسية بطلاقة وتعتبر متخصصة فى السياسات الفرنسية غير الدراسات التحليلية التى تقوم بها حول السياسات الغربية تجاه بلادها روسيا وتحركها النشط فى أوساط القوميين الروس من أجل إثبات أحقية روسيا فى الدفاع عن أمنها القومى .

بالتأكيد كل هذا النشاط يجعل من داريا دوجين هدفاً أمام أعداء روسيا ليضعوا فى سيارتها  مادة شديدة الانفجار لكن ملابسات الحادث تقود إلى هدف آخر أو الجائزة الكبرى وهى والدها الفيلسوف الكسندر دوجين الذى يرقد حاليا فى إحدى مستشفيات موسكو بعد صدمة اغتيال ابنته.

قبل ساعات من حادث الاغتيال ذهب الفيلسوف دوجين وابنته إحدى ضواحى موسكو لحضور مهرجان مخصص لإحياء التقاليد الروسية الوطنية وألقى الفيلسوف ألكسندر دوجين محاضرة وعقب انتهاء الفعاليات كان دوجين سيغادر المكان فى السيارة التى استقلتها ابنته لكنه غير رأيه فى اللحظة الأخيرة ليستقل سيارة أحد اصدقائه ويتبع سيارة ابنته التى انطلقت بمفردها ليحدث الانفجار بالقري من قرية صغيرة فى ضواحى موسكو ويتوقف الأب مذهولا يشاهد السيارة التى كانت بها ابنته محترقة تماما من شدة الانفجار لدرجة أن رجال التحقيق الروس لم يتعرفوا على بقايا جثة داريا دوجين إلا من خلال تحليل ال DNA.

سبب اغتيال داريا دوجين صدمة فى موسكو لكن لو نجح مدبرو الحادث الدموى فى اغتيال الأب الكسندر دوجين فإن الصدمة ستتحول إلى زلزال عنيف يؤثر على الكرملين وقائده بشدة لأن الفيلسوف الكسندر دوجين ليس شخصا عاديا نعم هو ليس مسئولا حكوميا روسيا لكنه أرفع منزلة من أى سياسى روسى لأنه هو من وضع النظريات التى أخرجت روسيا من حالة الانهيار التى وقعت فيها عقب اختفاء الاتحاد السوفيتى من الساحة الدولية وكل السياسات التى تتبعها روسيا بقيادة بوتين لاستعادة مكانتها على مستوى العالم ناتجة من أفكار ونظريات الفيلسوف الكسندر دوجين بل أن الكتابات الغربية التى تحلل التحول  فى روسيا من الضعف إلى القوة تشير إلى أن كل من يريد فهم سياسات روسيا ورئيسها فلاديمير بوتين فعليه دراسة أفكار ونظريات ألكسندر دوجين .

ألَف دوجين أكثر من 60 كتابا في التاريخِ والاجتماعِ والفلسفة والجيوسياسة ويعتبر الآن  من أكثر الفلاسفة الروس المعاصرين حضورا فى الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية الروسية، قدم دوجين من خلال كتاباته خارطة طريق لروسيا فى مواجهة الغرب المتربص بها وبمجرد وصول فلاديمير بوتين إلى الكرملين فى العام 1998 تلقف نظريات دوجين وحولها إلى واقع عملى متحقق على الساحة السياسية الداخلية الروسية والدولية.

أهم ما قدمه ألكسندر دوجين إلى روسيا ـ بوتين ــ  وقوفه على ضفة العداء من العولمة والليبرالية الغربية ونسختها الجديدة ويرى انها بلاء البشرية وكل ما يحدث من خراب سببه تفرد العولمة والليبرالية ونسخها بالساحة العالمية ، فصاغ  دوجين النظرية السياسية الرابعة القائمة على فشل الشيوعية والفاشية والليبرالية و ترى النظرية الرابعة أن الأساس هوالعودة إلى الهوية الروسية ومن خلالها يمكن أن تتلاقى الثقافات المتفردة لكل أمة فيحدث  التناغم بين الأمم دون سيطرة ثقافة واحدة على الشعوب كما تريد العولمة.

ومن خلال نظريته الرابعة فإنه يجب على روسيا الاتحاد مع كل الشعوب الناطقة بالروسية ثم يمتد التحالف إلى الشطر الآسيوى من العالم المتعدد الثقافات كالصين والهند وقد تحقق تصور دوجين سياسيا على أرض الواقع بقيام روسيا باستعادة القرم ثم دخولها إقليم الدونباس على حدودها مع اوكرانيا وبالنسبة لتحالفها مع آسيا فيظهر فى العلاقات المتنامية بين روسيا والصين وتحالف البريكس الذى يضم روسيا والصين والهند.

لم تتوقف رؤى دوجين عند هذا الحد فقدم طرحه الآخر المرتبط بصراع روسيا مع الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة وهو ما يعرف (بالنوماخيا ) أو ما يعنى  (حرب العقول) فكل صراع حضارى هو معارك بين أفكار متضادة والمنتصر من  تسود وتسيطر أفكاره ثم تقود، فبناء حضارة ما قائم على أفكار و أى مشروع إصلاحى وتحول مجتمعى وقوده الأفكار.

رأى دوجين أن أخطر ما يواجه روسيا هو سيطرة الأفكار الغربية من خلال آلة الدعاية الأنجلو أمريكية التى تؤثر على المواطن الروسى العادى وتشعره بالدونية أمام الغرب وأنه يجب مواجهة هذه الأفكار الدعائية الغربية من خلال امتلاك روسيا لمنظومة تستطيع من خلالها الترويج لأفكارها وإعادة الثقة للمواطن الروسى فى هويته.

اقتنعت روسيا ـ بوتين  برؤية دوجين وعملت منذ العام  2005 على إنشاء آلة دعائية مضادة هدفها الأول إعادة حالة الفخر بالهوية الروسية وتثبيت إحساس الندية بين المواطن الروسى والمواطن الأمريكى والغربى بصفة عامة .تفاعلت آلة الدعية الروسية  مع ثورة المعلومات ووسائط السوشيال ميديا وتطبيقاتها حتى أصبحت هناك تطبيقات روسية منافسة للتطبيقات الغربية بالإضافة لشبكة الفضائيات والمواقع متعددة اللغات، تم تدشين اكتمال الآلة الدعائية الروسية فى العام 2014 بخروج مجموعة سبوتنيك للإعلام الروسى وهى المنظومة الإعلامية الأكبر خارج منظومة الإعلام الغربى والمنافسة له بضراوة .

استطاعت الآلة الدعائية الروسية  حصار حملات الدعاية الغربية ثم الهجوم عليها وكانت لحظة الفخر بالنسبة للروس عندما قررت أغلب الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة وانجلترا منع الأذرع الإعلامية الروسية من العمل على أراضيها لأنها تشكل تهديدا لأمنها القومى وكانت تلك هى المرة الأولى فى تاريخ روسيا المعاصرالذى يخشى فيه الغرب من الدعاية الروسية وهو ما أعاد الإحساس بالفخر عند المواطن الروسى بدولته فى قدرتها على إيذاء الخصم .

آخر ما قدمه دوجين كان رده المؤثر على دعاية الغرب الدائمة التى يستخدمها كوسيلة ضغط على الدول والمتعلقة بمصطلح حقوق الإنسان فاعتبر دوجين أن هذا المصطلح المستخدم من الغرب هو أمر نسبى ويختلف من ثقافة شعب إلى آخر وعندما نفهم مدى اختلاف  مفهوم الإنسان والحق والقانون والأخلاق والسياسة والثقافة من أمة إلى أمة و  من شعب إلى آخر عندها يمكننا الوصول إلى مصطَلح حقوق الإنسان.

بلا شك بعد كل ما قدمه ألكسندر دوجين من نظريات وإيمانه الشديد بحق روسيا فى الدخول إلى أوكرانيا التى يعتبرها جزءا من روسيا سيصبح عدوا للغرب لكن فى تاريخ الصراع الغربى  ـ الروسى لم يصل إلى هذه الدرجة من الحدة ففى ذروة الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتى لم يتم اغتيال كتاب أو مفكرين حتى من انشقوا على أى من المعسكرين .

نعود هنا إلى تعليق الصديق على خبر اغتيال داريا دوجين بأن دوامة العنف تتسع فلايمكن فصل حادث الاغتيال هذا عن العمليات التخريبية التى وقعت قبل ايام فى العمق الروسى والقرم حيث تعتبر أراضى روسية أو عمليات الاغتيال الغامضة التى تطال شخصيات روسية محسوبة على الكرملين وحتى الآن لم ترد موسكو على الحوادث السابقة أو العمليات التخريبية فى عمقها بنفس العنف .

تمثل العملية الأخيرة إهانة بالغة للكبرياء الروسى فهى تمت داخل موسكو العاصمة وضد شخصيات ـ سواء دوجين أوابنته ـ فهى شخصيات تعمل فى المجال العام الثقافى ولا تدير حربا بشكل مباشر وقريبة بشكل ما من الرئيس فلاديمير بوتين شخصيا ويبقى هناك سؤال ستجيب عليه الأيام القادمة هل سترد موسكو بنفس الأسلوب ؟ إذا ردت موسكو فسينتقل الصراع إلى  مستوى آخر وأعتقد أن تعليق الصديق سيتحقق وتتسع دوامة العنف إلى درجة غير مسبوقة من الوحشية بين روسيا والولايات المتحدة.

 

 

الكلمات الدالة

 

 

 
 
 
 
 
 
 

مشاركة