دومينجو باديا إى ليبليش جاسوس اسباني في قاهره القرن ال« 19 » رحلات علي باي
دومينجو باديا إى ليبليش جاسوس اسباني في قاهره القرن ال« 19 » رحلات علي باي


دومينجو باديا إى ليبليش.. جاسوس إسباني في قاهره القرن الـ«19»

أخبار الأدب

السبت، 10 سبتمبر 2022 - 02:18 م

 

يقول المؤرخون إنه فى زمن الحكم العربى الذى غزا المدينة فى أيام الخليفة عمر بن الخطاب، كان بها أربعة آلاف قصر، وعدد مماثل من الحمّامات العامة، وأربعمئة سوق، وكان من بين سكانها أربعمئة ألف يهودى يدفعون الجزية

المساجد ليست ثرية وما يوجه إليها من الهبات الرسمية قليل: إمام المسجد الذى اعتدت التردد عليه كان يتلقى راتبا شهريا أربعة قروش تركية، ولكن تبرعات المصلين وهباتهم الطوعية تساهم فى تغطية احتياجات المكان

يصل عدد رجال محمد على إلى حوالى الخمسة آلاف، يسيطرون على مصر، كان هؤلاء الجنود فوضويين ومتشددين، خاصة أن الشعب كان يحتملهم بصبر، لأنهم لم يكونوا أسوأ من المماليك

يُقال إن فصل الصيف أطول فى القاهرة، لكن الحال أنه كذلك بشكل عادى وقد أثر على شكل الشوارع والبيوت: أسقف الغرف مرتفعة ولها نوافذ متسعة لتمرير التيارات الهوائية

فى يوم العيد، يجرى العامة فى الشوارع كالمجانين، يحملون فى أيديهم سعف النخيل الأخضر. وتسير النساء فى جماعات متنقلات من اتجاه إلى آخر، يقضين معظم الوقت باكيات أو يطلقن الزغاريد الحادة

 

فى السنوات الأولى من القرن التاسع عشر، تخفّى رجل إسبانى يدعى دومينجو باديا إى ليبليش فى زى أمير عثمانى وأطلق على نفسه اسم على باى. بهذا الاسم، ولإجادته التامة للغة العربية ومعرفته العميق بالإسلام، راح يتنقل بين بلدان شمال أفريقيا وصولًا إلى مصر، ثم عبورًا إلى بلاد الشام وشبه الجزيرة العربية. خلال ذلك، كان يكتب ما يشبه التقارير الموجهة إلى جهة غير معلومة، هذه التقارير صارت فيما بعد كتابًا هامًا يشبه مجلدات وصف مصر، إذ لم يكن على باى مجرد جاسوس عادي، وإنما، كما يلاحظ فى الكتاب الذى يصدر عن مشروع كلمة بأبو ظبي، عالمًا فى الفلك والجغرافيا والأنثروبولوجي، وعلى دراية كبيرة بالشؤون السياسية والاقتصادية، ولماحًا وفطنًا. هذه الصفات الشخصية بالإضافة لمعارفه الواسعة، أعطت لهذه التقارير عمقًا حد أنها باتت مرجعًا لا غنى عنه لفهم بدايات القرن التاسع عشر العربي، وملاحظة التحولات المفصلية فى العديد من الدول مثل مصر وشبه الجزيرة.

 

وصف الإسكندرية وآثارها
لن يكون صعبا تكوين مكتبة كاملة عن الرحلة إلى مصر ووصف ذلك البلد. وعلى الرغم من أنه بلد معروف جدا، إلا أنه أصبح معروفا أكثر بعد الحملة الفرنسية التى اصطحبت كتيبة من العلماء، وأسفرت أضواؤها وجهودها خلال ثلاث سنوات من العمل المضنى عما يمكن أن نسميه لفت أنظار أى مهتم.

وربما لم يعد ثمة ما يمكن إضافته إلى وطن سقراط، ولا يمكن لأى مهتم أن يضيف إلى وصف تلك الأرض الشهيرة سوى ما يمكن أن نطلق عليه ظلالا باهتة وخرساء. مما لا يتعدى أن يكون مجرد إعجاب، ولفت أنظار الآخرين، وسأتحدث أنا هنا بشكل مختصر، وإذا رأى القارئ أنى لم أضف شيئا سوى تكرار ما قيل من قبل، فيمكنه أن يمر على ما أقول مرور الكرام، وربما يعثر فيه على شيء جديد.


موقع الإسكندرية محدد، طبقا لوصف علماء الفلك فى العام 1806، على خط العرض 31 درجة و13 دقيقة و5 ثانية شمالا، وخط طول 27 درجة و35 دقيقة، و30 ثانية شرقا، طبقا لمرصد باريس. وأن خسوف الشمس الذى وقع يوم 16 من يونيو بدأ فى الإسكندرية قبل دقائق من غياب ذلك الكوكب، وهو ما تسبب فى ألا أشاهد أول علاقة لى بالمكان بسبب خطأ فى حساباتي، فقد تابعت كوكب الشمس بتلسكوبى حتى اختفاءه، وساعدنى على ذلك أن المناخ كان صافيا بشكل كبير.


كان معروفا أن الإسكندرية الأولى أول إمبراطورية وعاصمة تجارية لمصر. فقد كانت مدينة عظيمة المساحة، يسكنها أكثر من مليون نسمة، وجماركها فى ذلك الوقت كانت تدر دخلا كبيرا يمكن تقديره بخمسة وستين أو خمسة وسبعين مليون فرنكا، تبلغ قيمته النسبية طبقا لقيمة العملة الحالية ما قيمته سبعة آلاف مليون فرنك فى اليوم الواحد، فيما لا تحصل فى الوقت الحالى أكثر من خمسمائة ألف.


يقول المؤرخون إنه فى زمن الحكم العربى الذى غزا المدينة فى أيام الخليفة عمر بن الخطاب، كان بها أربعة آلاف قصر، وعدد مماثل من الحمّامات العامة، وأربعمئة سوق، وكان من بين سكانها أربعمئة ألف يهودى يدفعون الجزية، وقد تم تدمير كل هذه المبانى ويكاد لا يُعرف مكانها فى الوقت الحالى.


يشيرون أيضا إلى عدد غير محدد من الحدائق العامة والمزارع المحيطة بالمدينة. تحولت اليوم إلى مجرد صحراء رملية متحركة وحارقة.وفى النهاية، فالمدينة الرائعة التى أنشأها الإسكندر الأكبر، وعاصمة البطالمة.

ومقر إقامة كليوباترا ، لم تعد سوى مجرد ذكرى لماضيها العظيم. لم تعد سوى أطلال من الخرائب، ومعظم أجزائها مطمور تحت الرمال، وتمتد على مدى عدة فراسخ، وأعمدة الصوارى المنسوبة إلى بومباى ومسلات كليوباترا، والخزانات والمقابر.

وأعمدة كاملة تحولت إلى حطام متناثرة هنا وهناك، كشاهد وحيد على عظمتها القديمة. مجرد مكان ممتد على مساحة فراسخ أسوارها العالية الممتدة، التى تتخللها أبراج شبه مهدمة، تحيط بأكوام عظيمة من الحجارة والأطلال المتناثرة فى ذلك المكان. إنها مجرد شاهد على المدينة التى كانت تنتمى إلى العصور الوسطى، أو شاهد على الزمن الثانى للمدينة بعد أن سقطت تحت الحكم الإسلامى.

فقد أصبحت مجرد مدينة يقطنها خمسة آلاف ينتمون إلى مختلف الأجناس والأمم والأديان. مقامة على رقعة صغيرة من الأرض، ولا دخل لها سوى القليل من ناتج التجارة المترنحة، ولسوء الحظ، كانت قد فقدت خلال هذا العام 1807، مددها من المصدر الوحيد للمياه العذبة الذى كانت تملكه: لقد كان هذا حال الإسكندرية الحديثة عند وصولى إليها.


على الرغم من كل هذه السلبيات، إلا إننى لا أستطيع أن أرسم صورة لهذه المدينة بكل هذه الألوان السوداء والآراء السلبية التى رسمها بها بعض الرحالة. فقد افترضوا أن شوارعها ضيقة وغير مريحة، وبيوتها مظلمة وواجهاتها كالحة لافتقادها للنوافذ، والأسواق غير المنظمة والسكان المُقلقون، أجلاف وقليلو التحضر. من غير الممكن أن أقوم أنا بتأكيد هذه الصورة، بل على العكس من ذلك، فإن شوارع الإسكندرية عادية جدا وإن كان بعضها غير مريح، كما هو الحال فى معظم المدن الأوروبية الأكثر جمالا، وأيضا ثمة شوارع أكثر اتساعا يمكن العثور عليها فى الإسكندرية.

والشوارع ليست معبدة بالحجارة ولكنها ليست غير مريحة للمارة لهذا السبب، لأنها معبدة بطبقة متماسكة من الملاط المكون من الجير والرمال: يمكن مقارنتها بشوارع مدينة فالنسيا الجميلة، فى إسبانيا. يقولون إن البيوت بلا نوافذ، فيما أعتقد أنهم يبالغون فى السلبية، فرغم أن هناك حجرات سيئة التهوية وتتكون فقط من جدران أربعة، كما هو موجود فى جميع مدن العالم، لكن لا يوجد بيت فى الإسكندرية مهما كان صغيرًا إلا وبه أربع أو ست.

أو عشر نوافذ، فى الحقيقة إنها مغلقة بشكل دائم للحفاظ على حرمتها، لكنها تتمتع بمشاهد رائعة من خارج البيوت وتنفذ منها نسمات وأنوار تضيء الداخل. إن عشق النوافذ يفوق العادى حتى يصبح ظاهرا أكثر من المتوقع.

بل ويصل عددها إلى ما يفوق ما هو معتاد فى الأبنية المشابهة. ثمة واجهات ببعض البيوت يبدو تخطيطها خارجا عن المعتاد، بل تبدو زواياها متداخلة وبارزة مما يجعلها تضاعف مساحتها، وهو أمر يدفع إلى مضاعفة عدد نوافذها.

وفى بعض المناطق التى لا تسمح بمثل هذه الأعداد من النوافذ فإنه يجرى البناء بشكل يبرزها أو يتشكل بما يشابهه، ما يجعل حجرة أو صالة تبدو معلقة على الشارع ومحاطة بدائرة أو اثنتين أو ثلاث من النوافذ، فتبدو كأنها تتعانق فيما بينها.


الأسواق العامة مخططة كما ينبغي، وتعد الأفضل فى أفريقيا. يمكن العثور فيها على أنواع مختلفة من اللحوم والفاكهة الطازجة والمجففة، والحبوب وأنواع طيور برية وداجنة بكثرة، والخبز طيب جدا، وكذلك البيض ومنتجات الألبان. تكاد البلاد لا تنتج شيئا، نظرا لموقعها فى قلب صحراء جرداء، لكن تصلها منتجات رشيد وكل منتجات مصر السفلى، وشواطئ الشام.

والجزر والشواطئ الأفريقية، حتى درنة. كل هذه المنتجات تصل إلى هناك دون وسيط ومحملة فى مراكب صغيرة، ما يحافظ على سد احتياجاتها. لا تحتاج الإسكندرية إلى أى شيء أكثر من هذا، وعلى الرغم من الأوضاع الطارئة فى ذلك الوقت.

وعدم وصول التجارة الخارجية نتيجة الحروب مع المسيحيين، والتجارة الداخلية بسبب صراعات المماليك، ما تسبب فى نقص العملة، ورغم  الصعوبات التى تواجه النقل وحروب الألفى بك، وقرب المدينة منها، ورغم  هروب الفلاحين من المزارع وفيضان بحيرة مريوط التى تسبب فيها الإنجليز خلال الحرب فى مصر، وفقدت الكثير من أراضيها الزراعية التى كانت تشكل أكثر من مائة وخمسين هكتارا من أراضيها، برغم كل هذا فإن أسواقها العامة كانت تحصل على احتياجاتها بشكل كبير لا يتناسب مع الأحوال المحيطة بها.


الغالبية الرئيسية من السكان من العرب، أى أنهم رجال جهلة وقساة، ولكنهم غير معادين للمسيحيين، يخدمونهم على الرغم مما يعانونه من حماقاتهم فى صبر، ويتقبلون معاملتهم السيئة وكأنهم عبيد. أنا أعتقد أن شعب الإسكندرية لم يكن قبل ذلك متقبلا للأوروبيين، بسبب الخلاف الدينى فقط، ولكن الحملة الفرنسية أقنعتهم أن المسيحيين لا يكرهون المسلمين، فقد كانوا يمتلكون القوة الكافية للتعامل معهم من منطق السيادة.

وكانوا يعاملون السكان كأشقاء، مما كان سببا فى أنهم رأوا فيهم ثورة طيبة، وكانت إيجابيات الحملة العسكرية الضخمة كعمل تكتيكى أنها قامت بتنظيم السياسة والفنون، وعلوم الأمم الأوروبية، وأتاحوا لهم فرصة الاطلاع على المعرفة والأفكار الخيرية والتضامنية بين جميع طبقات المجتمع.

وامتلكت الزمن الكافى لاطلاعهم عليها وتقدير قيمتها، وزرعت فيهم قيمة الاحترام بين الشعوب المختلفة، وعرّفتهم بالكثير من الإيجابيات التى استفاد منها العرب والأتراك، فقد كانوا يعترفون صراحة بتفوق الأوروبيين عليهم.


أسقف المنازل فى الإسكندرية مسطحة، تماما كالبلاد قليلة المطر، ومهما كانت سلالمها كبيرة إلا إنها ضيقة وبالكاد يمر من خلالها شخص واحد.فى مداخل قاعات الاستقبال ثمة حاجز من الخشب به خزانات ملابس، فى أعلاها ما يشبه الشرفة، مُشكلة من زوايا خاصة للرؤية.

وشكلها على هيئة مقعد علوي، تدور من حول القاعة وارتفاعها ستة أقدام، وثمة لوح صغير عرضه قدم تقريبا يضعون عليه كتبا وأشياء أخرى، وفى عمق القاعة شيء يشبه المنبر أو مقعد ارتفاعه نصف قدم وعرضه ثلاثة أقدام، يمتد على  الجانبين كجزء رابع تضمه القاعة.

والكنبة مغطاة بشرشف وصفوف من المساند تستند إلى الحائط. ثمة أرائك يسمونها «الديوان»، وكثير من بيوت الإسكندرية تتمتع بخزانات، ولكن بما أنها لا تمطر سوى فى أوقات قليلة يجدون أنفسهم مجبرين على جلب الماء من النيل محمولا على الجمال بعد أن تكون قد جرت تصفيته من شوائب الفيضان.


تُقام الأسواق فى شوارع المدينة الأكثر اتساعا، نظرا لعدم وجود ساحة متسعة بشكل كافٍ يمكنها احتواء مثل هذا الكم، والساحة الموجودة تقع فى أقصى شرق المدينة. أسواق الشوارع تبيع الخضروات ومغطاة بالبوص والحلفاء والحصر لتحميها من الشمس خلال النهار.

وفى الليل تغرق فى الظلام. أمر يمكن للصوص استغلاله، ولكن خلال إقامتى فى المدينة لم أسمع أبدأ عن أى حادث سطو، ويمكننى أن أؤكد أنهم فى الإسكندرية ليسوا أشرارا كما يحاول البعض وصفهم.


باستثناء المسجد الكبير، ويرجع للشيخ سيدى أبو العباس، راعى المدينة، وتحت أحد منابره يرقد جثمانه، فباقى بنايات المدينة لا تتمتع  بشيء ذى قيمة، لكن حتى هذا المسجد الكبير ومبان أخرى مشيدة فقط فى الطابق الأول، أما الطابق الأرضى فتحتله حوانيت ومخازن وغرف النوم.


فى أشكال العبادات، لفت نظرى إدمانا لم أشاهده من قبل فى الغرب. قبل بداية صلاة الظهر من يوم الجمعة، كان يأتى كثير من المنشدين ينشدون بعض التواشيح بشكل جماعي، ثم يظهر بعد ذلك منشد عجوز يتقدم حتى أسفل السلم أو منبر الخطيب، يمسك فى يده عصا طويلة، واقفا، ووجهه متجهًا نحو الجمهور وبصوت أخنف ويمثل إنه شيخ مسن على وشك أن تطلع روحه، ويقول: «الله أكبر، الله أكبر».

تكرر من خلفه جماعة المنشدين بصحبة الآلات الموسيقية الكلمات نفسها. وهكذا يستمر الشيخ مكررا مقاطع الأذان كلها ويرددون من خلفه مقطعا، مقطعا. فى النهاية يصلى الشيخ بصوت منخفض بقراءة سورة من القرآن، تحض على أداء صلاة الجمعة: حينها يترك عصاه، وينسحب من مكانه، ويبدأ الإمام إقامة الشعائر. هذا الإدمان الصغير الذى يمارسونه فى كل مساجد الإسكندرية لا يمكن أن يكون مجرد ممارسة عادية، لأنه يضفى على العبادة نوعا من الأهمية والجماعية.


المساجد ليست ثرية وما يوجه إليها من الهبات الرسمية قليل: إمام المسجد الذى اعتدت التردد عليه كان يتلقى راتبا شهريا أربعة قروش تركية، ولكن تبرعات المصلين وهباتهم الطوعية تساهم فى تغطية احتياجات المكان.


المساجد الرائعة التى يتحدث عنها بعض الرحالة لم تعد موجودة. فالزمن والاحتلال العثمانى والحروب دمرتها جميعا. الصناديق الحجرية القديمة المليئة بالنقوش الهيروغليفية التى يذكرها الرحالة اختفت أيضا، يبدو أنها نُقلت إلى إنجلترا.


بما أن المواد الغذائية كانت تُنقل من أماكن متعددة، فالأسعار كانت مرتفعة قليلا طبقا للبلاد المستوردة منها فى أفريقيا التى زرتها. الدجاجة تساوى قرشا تركيا، وزوج الحمام الزغاليل ثمنه 30 بارة ، وأوقة اللحم ثمنها 40 بارة وأوقة الخبز 10 بارة، والزيت 60 بارة، والزبدة 15 بارة. وكان المعهد المصرى قد حلل الإجراءات الخاصة بالموازين والعملات، فتبين أن الأوقة تزن 40 أوقية، أى 235 قطعة من الموازين الفرنسية.

وقطعة النقد المستخدمة كانت مكونة من 4 قروش تركية ونصف، كل قطعة مكونة من 40 بارة، والبارة تساوى قطعة من ذات الخمسة بيزتات الإسبانية، والعشرة قروش تساوى عشر بارات من مصوغات الذهب البندقى.


المواد الغذائية جيدة بشكل عام، لكن المياه، التى تظل مخزنة فى الخزانات غير طيبة، تنتهى مع نهاية كل عام مليئة بالحشرات، ما يجبرهم على تنظيفها بشكل اصطناعى لكى تتحول إلى مياه صالحة للاستهلاك الآدمى.


تأتى المياه، كما قلت من قبل، سنويا من النيل خلال فترة الفيضان، عبر ترعة تبدأ من مسافة قليلة تصل إلى حوالى أربعة عشرة ميلا من الإسكندرية، لو قسناها فى شكل مستقيم، لكن المياه قطعت عن الترعة بأمر من الألفى بك، فى منطقة قريبة من دمنهور، ولم يعد ثمة مصدر للمياه بالمدينة سوى المياه المالحة التى يستخرجونها من بعض الآبار أو التى يأتون بها  من البحر.

 


معروف أن فنار الإسكندرية القديم، وهو إحدى عجائب الدنيا، كان مقاما على جزيرة تقع على مسافة قريبة من اليابسة. تراكمت الرمال على مر الزمان بين الجزيرة واليابسة فتكونت مساحة برية أقيمت عليها مدينة الإسكندرية.

وتوجد على جانبى الأرض اليابسة عدة موانئ: قبل الحملة الفرنسية كان يمكن للسكان المسيحيين الدخول من الميناء الشرقى وهو الأسوأ، الآخر، الغربي، كان مخصصا للسفن التركية، ولكن، منذ ذلك الحين أصبح الميناءان مفتوحين أمام جميع الأمم.


ثمة حاجز فى مخرج الميناء الشرقى لا يترك سوى ممر صعب جدا، بالطبع قليل العمق، ويظل يضيق يوميا بسبب البقايا التى تلقيها السفن. يظل الميناء مكشوفا بالكامل عند الدرجة الرابعة شمالا وأمام الرياح الشمالية الغربية، التى كانت مرعبة فى تلك المناطق،

وكثيرا ما كانت تتسبب فى كوارث. عمق الميناء الغربى جيد ومحمى بشكل ممتاز، ويمكن أن تتوقف فيه كل السفن الحربية، أو السفن ذات الحمولات المحددة، إلا إنه يتجه إلى الدمار للسبب نفسه الذى تتسب فيه الرياح الشرقية، أي، بسبب الكميات الكبيرة من المخلفات التى يلقونها فيه.


فى أقصى الشرق من الجزيرة، حيث كان موقع الفنار قديما، ثمة قلعة أو برج من الطراز العربى ، شديدة الجمال، ومبنية على صخرة تكاد تكون معزولة، تتصل بالأرض عبر ممشى يكاد يكون مدمرا، وبما أن الأتراك لم يجددوا أى بناء أبدا، يمكن أن تنفصل تلك القلعة عن اليابسة بشكل كامل. يطلقون على القلعة اسم الفنار، تدافع عنها بعض قطع المدفعية وكتيبة تركية.

وفى أقصى الغرب من شبه جزيرة الفنار، ثمة منطقة يطلقون عليها اسم رأس التين، بسبب العدد الكبير من أشجار التين التى كانت موجودة فى أزمان أخرى، وتم قطعها خلال الحروب الأخيرة، وأقام الأوروبيون مكانها ممرا.


تعيش الإسكندرية فى حالة دفاع معتادة، بها كثير من الطوابى التى أقامها الفرنسيون، وأسوار تم تجديدها بحفرها، وخنادق وأبراج، ما يجعل الهجوم عليها معقدا، إلا أن مثل تلك الأبنية لا تعتبر عائقا أمام الجيوش الأوروبية. كل الطوابى تقريبا تتآكل بسبب عوامل النحر، ما يجعلها لا تحافظ على تجديداتها، وبما إنها غير مغطاة بطبقة عازلة، قد تتحول إلى بقايا فى وقت قليل من الزمن.

ولهذا السبب من المستحيل الحفاظ على ذلك الموقع، حتى لو تم الدفاع عنه بقوات كبيرة، يمكنها أن تواجه الأوروبيين وبشكل أكثر تواجه أى قوات عربية، أو من المسلمين أو الأتراك، الذين يجهلون الفنون العسكرية، وبالنسبة لهم تعتبر منطقة قوية الحماية. بالنسبة للأشياء الأخرى، تكاد تكون الإسكندرية معزولة بسبب بحيرات مريوط والمهدية التى تحيط بها.

وتعزلها عن مصر إلا من خلال ممرين ضيقين تربطانها باليابسة، وأيضا ليس من الصعب عزلها تماما. لكن مثل هذه الحالة يمكن أن تزيد من صعوبة تموين المدينة، ويمكن أن يقطع عنها السبيل الوحيد لحصولها على المياه العذبة.


ثمة حدائق عامة بائسة داخل أراضى الإسكندرية القديمة. بخلاف أشجار النخيل التى تبدو متسقة مع المكان، فالخضرة لا توجد إلا فى شكل شجيرات صغيرة متناثرة بلا تنسيق، وربما يعود هذا إلى أن السكان لا يجدون مياها لريها غير مياه الآبار، التى بدورها ليست متوافرة.


للتنزه فى الحدائق، أو الانتقال من نقطة إلى أخرى فى المدينة، يستخدمون نوعا من الحمير صغيرة الحجم، وارتفاعها يكاد لا يكفى لتجنب احتكاك أقدام راكبيها بالأرض. صغر حجم هذه الحيوانات تجد بديلا عنه فى سرعة وحيوية سيرها، حتى إن خطواتها العادية تكاد توازى سرعة خطوات حصان. تُرى فى مرات قليلة، محملة مع راكبيها بحمولات ضخمة.

وتجرى من أقصى المدينة إلى أقصاها مثل خيول النقل، ومن يتولون قيادتها يسيرون على أقدامهم دائما، ويجرون أيضا بسرعة حتى يمكن مجاراة حميرهم. وهو ما يشكل مادة للتندر بين المارة. أنا نفسى قمت بقياس ارتفاع هذا الحيوان الغريب، ومتوسط ارتفاعه يصل إلى 39 بوصة فرنسية.

 

وكثير منها لا يتعدى 37 بوصة فقط. وأعتقد أنها يمكن أن تصلح للعمل فى المدن الأوروبية! واستهلاكها يكاد لا يصل إلى ربع ما يستهلكه الحصان أو البغل فى غذائه. على الرغم من أن خدمات تلك الحمير لا تقل عن خدمة عن الحيوانات الأخرى.


الخيول التى تُباع فى الإسكندرية تنتمى إلى جميع السلالات الموجودة فى مصر، والجزيرة العربية والشام وأفريقيا: قليل منها من سلالات أصيلة، ورغم ذلك فالموجود منها لا يمكن نسيان أنها غالية الثمن، وسروجها أكثر مما هى موجودة فى المغرب، لها زوايا حادة تستخدم ناخسات للخيول.

وهنا تماما كما فى قبرص لا أحد يستخدم العصا فى قيادتها، يكادون لا يرفعون السروج عنها، يمتطيها الخادم ويتهادى بها ببطء لفترة تصل إلى ربع الساعة يوميا، كما لو كان يعلم الحيوان الانتقال من حال المسير إلى حال الهدوء، وهذه عادة لا تتوقف أبدا حتى لو لم يكن يشارك الحصان فى سباق مرهق.


تضم المدينة أفرادًا يعملون كمرافقين للمسافرين وحراس للخيول، ويسمونهم «السايس»، بالطبع يوجد دائما خيول للبيع والشراء، فيتدخلون فى تلك العمليات مبدين حماسهم لهذا العمل، عند الخروج بالحصان، من المعتاد أن يسير السايس فى المقدمة، يحمل عصا بطول سبع أو ثمان أقدام، مطلية باللون الأخضر أو الأحمر، يحملهما فى يده متقاطعة مع جسده، وثمة عدد كبير من هؤلاء السياس، يسيرون أزواجا وعادة ما يتكاثر عددهم حتى أن مشهدهم يبدو مثل مشهد الحراس والتابعين فى أوروبا.


تفتقد الإسكندرية إلى مدارس تعليم العلوم، وتعليم فنون الخط مقتصر على تعليم كتابته بأسوأ الأشكال، وبما أن معلمى المدارس غير خاضعين لأى امتحانات ولا تفتيش خاص، فإن كل معلم يعلم رص الحروف كما يتراءى له وحسب هواه، وكل كلمة تتعرج حسب شكل الحرف الذى يُكتب بها، الأقباط واليونانيون واليهود، وحتى كل قبيلة، لهم طريقتهم الخاصة فى الكتابة والتشكيل، وهكذا فإن حياة الإنسان لا تكفيه لتعلم القراءة بشكل صحيح، ومن يتابع علومه فى مجال الأدب عليه أن يذهب للدراسة فى القاهرة.


والقرّاء الأكثر احتراما فى المدينة يذهبون للقراءة لبعض الوقت فى المساجد الرئيسية، الأمر الذى يساعد على تقييم عملية التعليم بعض الشيء، ولممارسة تلك القراءات العامة جهرا، يجلس الشيخ على سجادته المفروشة فى منتصف المسجد، ومن حوله وعلى مسافة معينة، يشكل المستمعون دائرة، ومن يأتون فيما بعد يشكلون بالتتابع دوائر متتابعة جالسين جميعا على الأرض.


على طاولة موضوعة فى المنتصف، ثمة شمعدان بقاعدة خضراء، وفى مواجهة الشيخ يجلس قارئ بين يديه بعض الأوراق، تحتوى على ما كتبه من التفسيرات الرئيسية للقرآن. يبدأ القارئ بتلاوة إحدى الآيات، ما يكاد يقرأ بعض الكلمات، حتى يقاطعه الشيخ، مفسرا بعضها بشكل تقريبي.

وأحيانا يلتقط إحداها ويفسرها تفسيرا مثيرا للسخرية، فيحول النص إلى شيء مشوه، يعود القارئ إلى موضوعه ويتابع الشيخ تعليقاته، يتحدث دائما كما لو كان يُوحى إليه، ومن وقت إلى آخر يسمح لنفسه بإطلاق صوت حاد أو إلقاء نكتة.


ليلة يوم السابع والعشرون من شهر رجب، يتم الاحتفال بليلة إسراء ومعراج سيدنا النبى. حينما ذهبت لأداء الصلاة بالمسجد الرئيسي، كان الشيخ يخطب منذ أربع ساعات. وبعد أن استمعت إليه لبرهة قلت له فى أذنه: «يا شيخ، أنت رجل من حديد»، وابتسمت، قال دون تردد وبصوت عال أمام الجمع الذى يستمع إليه: «سيدى على باى يقول إننى رجل من حديد، ولذلك يكفى الحديث اليوم»، وللاحتفال كانوا قد أناروا المسجد بعدد كبير من القناديل، إضافة إلى عدد من الحلقات الحديدية، معلقة مثل خيوط العنكبوت، معلق عليها فوانيس من الزجاج الملون، تشكل هيئة رائعة.


كل أراضى الإسكندرية القديمة كانت مرتفعة بشكل ملحوظ عن سطح البحر بسبب الرمال التى كانت تأتى بها الرياح الغربية دون توقف. هذا السر وراء أن كل بقايا معالم المدينة القديمة تقريبا كانت مطمورة، ولهذا السبب كانت أجزاء من قواعد الأعمدة والمسلة مطمورة لعدة أقدام فحافظت عليها من السقوط.

 

وبحسبة بسيطة نجد أن أرض الإسكندرية القديمة ارتفعت ما بين 15 أو 16 قدما عن باريس. وهذا الارتفاع جرى أيضا فى كل الصحراء المحيطة بالإسكندرية، ويبدو أن هذا حدث للسبب نفسه.


بقايا المبانى الحجرية، المدفونة فى الرمال، اعتبرها سكان الإسكندرية محاجر يأخذون منها مواد بناء بيوتهم الجديدة. هذا المكان، بالإضافة إلى ذلك، يتمتع بخزانات مياه، محاطة بأعمدة مزينة بأقواس تعلو بعضها فوق بعض، كان مقام هناك مسجد يسمونه مسجد الألف عمود.


تم إخراج عدد كبير من تلك الأعمدة، من تحت تلك البقايا المطمورة، وحملها بعض الأوروبيين إلى شاطئ البحر لنقلها فيما بعد إلى بلادهم، لكن فى أحد الأيام كان الأسطول التركى موجودا فى الميناء، وشعر القباطنة أن مدخل الميناء غير مريح للدخول والخروج منه، فألقوا بالأعمدة إلى المياه، مكومة فوق بعضها.

 

وشكلوا بذلك رصيفا صغيرا باستخدام تلك المواد النفيسة، مما طمرها للمرة الثانية تحت الرمال وفقد الإنسان تأمل روعتها. مدخل ذلك الميناء المذكور، الفريد من نوعه، يوجد فى الميناء الغربى.


المسلات المسماة باسم مسلات كليوباترا، يمكن رؤيتها فى أقصى الشرق من الميناء الشرقي، بالقرب من برج عريض، يسمونه البرج المستدير، كانا برجين: أحدهما مكتمل والآخر مدمر، مبنيان من الجرانيت الأحمر الشبيه بالقرميد، ومغطيان بالنقوش الهيروغليفية المحفوظة فى بعض أوجهها وممحوة تقريبا من الوجه الآخر. جرت محاولات لإخراجها من مدفنها، وقاعدة المسلة التى بقيت قائمة تعتمد على ثلاث درجات من المرمر الأبيض.


لو حاولت معرفة مصير ذلك الأثر المزدوج، أقول إننى شاهدته على شاطئ البحر، وأن وضع المسلتين مختلف عن وضع الفنار، والفضاء الواقع بينهما كان مخصصا لشيء آخر. العمود المسمى بومباى (عمود الصواري).

وربما يكون فريدا من نوعه، ومصنوعا من الجرانيت نفسه المصنوع منه المسلة، يتكون من أربع قطع تشكل القاعدة، القاعدة والصارى والتاج وكلها من قطعة حجر واحدة، ترتفع إلى ثلاث وستين قدما وبوصة واحدة طولا، على محيط دائرى من ثمان أقدام وبوصتين فى المنطقة السفلى، كلما كانت ناقصة رؤية الإنسان.

وعلى بعد خمسين خطوة من الأثر، فإن النظرة لا تتمكن من تقدير طول العمود الموجود أمامها، فالتخيل ليس جريحا مثل وجود هذه الكتلة، حتى لو كانت على مسافة قريبة منه، هو ما ينتج عن أن العمود بكتلته الضخمة غير مرتبط بأى مبنى قريب منه يوازيه فى العظمة أو يمكن أن تقارن عظمته به، الحواس تمثل عمودا ضخما.

ولا شيء أكثر من ذلك، ولكن حين تقف على مسافة سبع أو ثمانى خطوات، حينها، تبدو كما لو رُفعت فجأة عن عينيك غمامة كانت تغشاها. حينها تبدو أمام العينين عظمة هذا الأثر، نحن تعلمنا أن اللمس حاسة أساسية، ولكن العين هناك لا تُقدر مسافة الشيء الذى لا تلمسه، أو حتى تقارن أى جزء منه بمقاييس أجسادنا، حينها يلمع شعاع من الضوء بشكل فجائى فى خيالنا.

حينها يقف الإنسان منبهرا بالكتلة التى يشاهدها أمامه. ليست هذه المرة الأولى التى جربت فيها مثل هذه الحالة البصرية، فقد نشرها الأذكياء بشكل حقيقي، الحُفر الموجودة على التاج تشير إلى أنه كان يقف عليه قديما تمثال.


أجهل تماما الحقبة التى أنشئ فيها العمود والمسلات. إن الأسماء التى تحملها وتلصقها بكليوباترا وبومبى لا يمكن اعتبارها سوى تسميات حديثة، لأن الآثار، بلا شك، سابقة على الشخصيات التى تحمل اسمها. واسم «صوان» الذى ينسبون العمود إليه يبدو غاية فى العبثية، لأن أصل هذه التسمية تكمن فى الجهل المطبق باللغة العربية، فتلك الشعوب تسميه «صوان»، اسم يعنى «عمود»، مع أن صحيحها «صوار» جمع صارية، وهو ما تسبب فى الوقوع فى هذا الخلط.


بعض العرب المتعلمين يعتقدون أن العمود أقامه الإسكندر، الذى يسمونه «سكندر»، ولكنى عثرت لدى خبراء آخرين فى البلاد على ترجمة أكثر احتراما وأقرب إلى طبيعة وعظمة الأثر. تقول الترجمة، وهنا أشير إلى الترجمة حرفيا: «إن العمود أقيم مع بداية زمن وعبادة هرقل، الذى يسمونه هم «إسكندر ذو القرنين»، أى صاحب القرنين، لأن الترجمة عاشت لقرنين من الزمن، وليس الإسكندر ذو القرنين لأنه عاش قرنين من الزمن. وقرن تعنى مئة عام، و»القرنين» أى قرنان من الزمان.


المقابر والسراديب التى تضمها الجبانة القديمة (كوم الشقافة)، أو مدينة الموتى، تعتبر من الآثار الجديرة باهتمام الرحالة. بعضها محفور فى الصخر، على شكل غرف كبيرة تقريبا، ومنسقة على هيئة صفين أو ثلاثة من التجاويف المخصصة لرص الجثامين فيها. إلى جانب مقبرة مرابطى اسمه سيدى البري، يمكن مشاهدة ما يشبه الشارع، مكونًا من المقابر فقط، ويقع تحت هضبتين إحداها فى مواجهة الأخرى.

أحد الجانبين يكاد يكون مغطى تماما بالرمال، عدا مقبرة فى أقصى المكان تحتوى على ثلاث قاعات وعدد كبير من تجاويف ملحدات الجثث، وفى المكان المعاكس أحصيت إحدى عشرة مقبرة، بعضها لا يزال محتفظا بحالته كاملة، وتتكون من ثلاثة صفوف متراصة فوق بعضها.


السراديب الأكثر روعة تقع على بعد ميلين من جنوب غرب المدينة. يبدو أنها كانت تستخدم كمقابر لقدامى الملوك فى مصر. المقابر الحالية حالتها سيئة ومدمرة فى كثير من الجوانب، وجزء كبير منها مُحاط بالخرائب والرمال، لأن السقف انهار وبات مزعجًا دخولها، ولا يمكن ذلك إلا زحفا على الأرض.

وقبل الدخول، من الأفضل إطلاق عدة طلقات نارية من بندقية أو مسدس، ذلك لإبعاد الحيوانات المتوحشة التى تسكن مثل هذه الأماكن المهجورة، وأيضا لتحريك الهواء الراكد. ثم الدخول على ضوء قنديل مع حبل يستخدم كمرشد مع ربط أوله فى الباب.

تسيطر درجة حرارة مرتفعة داخل تلك السراديب، ويتعرق المرء فيها كما لو كان يتعرض لحمّام بخار. من حسن الحظ عند خروجنا وجدنا أنفسنا مجبرين على التوقف لنصف ساعة فى قاعة المدخل، لنتخفف من العرق وندخل تدريجيا مستوى درجة الحرارة الخارجية. كان الضباب كثيفا، ومن الصعب تمييز أى شيء إلا بصعوبة كبيرة، حتى بعد البقاء لمدة ساعة واستعادة شبكية العين كل قوتها فى الرؤية.


الحيوانات المتوحشة التى تسكن فى سراديب المقابر تأخذ فرائسها إلى هناك لتلتهمها، فقد شاهدنا الأرضية مليئة ببقايا عظام لجميع أنواع الكائنات، وكثير منها يبدو كما لو كان حديث الالتهام. ما من خفافيش هناك كما فى سراديب مقابر أماتونتا Amatunta  ؛ ولكن ثمة أعداد كبيرة من الفراشات الليلية، وذبابات بأجنحة لامعة. وأيضا يمكن رؤية فئران تصل جحورها حتى أعماق الأرض.

حيث توجد المياه على أعماق قليلة، جلودها بيضاء مائلة للرمادى فتبدو أقرب إلى الحُمرة، وهذا يشبه ألوان جميع الحيوانات التى تسكن مثل تلك الأماكن، التى أعدها الإنسان بكل الفخامة ليدفن فيها موتاه. الجثامين التى يضعونها هناك كانت قد تحولت إلى تراب منذ زمن بعيد، ولم تترك أثرا يدل عليها، ونجهل حتى أسماء من أمروا بفتح تلك السراديب. تبدو حجارتها التى بُنيت بها رملية جرانيتية ملتحمة ببعضها بملاط جيرى.


على بعد خطوات غربا، من المقابر الملكية، يمكن رؤية حمامات كليوباترا، وهى عبارة عن ثلاث ساحات مفتوحة فى الصخر، كما لو كانت خزانات، تكاد تتشكل على هيئة مربع و11 قدما تقريبا من كل جانب. يمكن لمياه البحر أن تتسرب إلى الداخل من خلال ثلاث فتحات مرتفعة عن الأرض ببضعة أقدام.

وضع يحاول أن يبدو كما لو كانت تستخدم كحمّامات، حمّامات بالقرب من مقابر الموتى؟ من الذى بناها وفى أى زمن؟ لا شيء، لا نعرف أى شيء على الإطلاق عن تلك الأزمنة الغابرة، آه، إنه الفقد الذى لا يعوض لمكتبة الإسكندرية! مع كل الاحترام لقرار خليفة المسلمين.


العبور إلى رشيد، مصب النيل، رشيد، السفر إلى القاهرة عبر النيل انطلقت فى رحلتى على الفور يوم الجمعة، 30 من أكتوبر لعام 1806، بعد خمسة أشهر ونصف قضيتها فى الإسكندرية، صعدت على ظهر قارب شراعى مع بعض مشايخ المدينة، الذين أصروا على مرافقتى فى القارب خلال ساعات الإبحار على الأقل أو خلال ساعتين من الإبحار. بعدها افترقنا وعادوا هم فى قارب بالمجاديف.


جميع المراكب من نوع القوارب المكشوفة، عليها أشرعة لاتينية أو مثلثة. المركب الذى استأجرته كان من أكبرها حجما، له ثلاثة صوارٍ، على كل واحد منها شراع كبير. صوارى تلك المراكب تكون مثبتة عادة إلى جوانب جسم المركب، بطريقة عند رفع الشراع لا بد من الصعود إلى أعلى الصارى لسحب الشراع وضمه إليه.

وهو أمر يتسبب فى آلاف الحوادث فى المراكب صغيرة الحجم، خاصة عندما تهب الريح قوية أو تثور أمواج عاتية. لا يمر عام دون أن تقع فيه حوادث غرق مثل هذا النوع من المراكب، وذلك بسبب أحوال الصوارى السيئة، والمشاهد الصعبة والخطرة لجوانب النيل. وبما أن الرياح كانت خفيفة ومركبنا ليس أمامه طريق طويل، لم يكن متوقعا أن نصل قبيل هبوط الليل، اتخذنا طريقنا من أبى قير فى حوالى الرابعة مساء.


فى أقصى الشرق من المصب قلعة، ثمة محطة عسكرية قديمة، ذات برج عال وبعض الدفاعات الجديدة. بعدها مباشرة يمكن رؤية قرية مهدمة بكاملها، من ورائها البيوت المحاطة بالأشجار والحدائق. توجد فى أعلى القلعة بعض المدافع المشرعة: قالوا لى إن عدد جنودها لا يزيدون عن ثمانية أو عشرة رجال. فى مقابلها كانت هناك بعض الجزر الصالحة للرسو على شواطئها.


فى الثالثة من صباح يوم الجمعة 31، فردنا قلوعنا، لأنه إن لم نستطع بقوة الرياح لا يمكننا الوصول إلى الشاطئ قبل الساعة السابعة.ثمة مصدات عند مصب النيل داخل عمق البحر بحوالى أربعة فراسخ. عادة ما تكون الأمواج هناك قوية. لأن مياه النيل تتلاطم مع مياه البحر. والمركب قد تجد غاطسا قليلا، والمسارات الصالحة للإبحار قليلة وضيقة وتتنقل من مكانها بشكل مستمر، لهذا السبب دائما ما يوجد مركب عند مصدات الأمواج لتوجيه المسير.


لهذا السبب فإن الاحتياط يكون فى حاجة إلى عشر دقائق للمرور عبرها، ويحدث أنه خلال الجزر لا يمكن لأى مركب أن يمر دون أن بغرس فى الرمال عدة مرات. أمر يتسبب فى الكثير من الإرهاق للبحارة، ويتسبب فى كثير من الأحيان فى فقدان الطريق. عندما مررت أنا، وبما أن النيل كان عاليا والبحر كان هادئا، فإن مصدات الأمواج لم تكن ظاهرة إلا من خلال الخط الأحمر الذى تشكله مياه النيل، التى دائما ما تكون محملة بالطمي، عبرناها نحن بشكل يكاد لا  يكون محسوسا.


كانت الرياح ساكنة تماما، تم إلقاء الهلب فى النيل، من الناحية الداخلية على بعد قليل من مصدات الأمواج. يا له من مشهد جميل لذلك البحر من المياه العذبة! كانت مياه النيل لا تزال تمتد إلى بعد فرسخ. فى الحقيقة كنا موجودين فى مياه البحر المتوسط، وكنا نشرب من ماء النيل، الذى كان عذبا بشكل واضح، ويدفع مياه البحر إلى ما خلف المصدات.


فى التاسعة والنصف تحركت الرياح بشكل مواتٍ فقمنا بفرد القلوع. دخلنا فى العاشرة إلى مصب النيل. يا له من منظر رائع! إنه لنهر عظيم، تجرى مياهه ببطء بين شاطئين يغطيهما النخيل وأشجار من كل الأنواع، وحقول واسعة من الأرز، فى وقت الحصاد، ومساحات شاسعة من الحشائش البرية والعطرية، التى كانت روائحها تفوح فى الهواء، قرى.

وأكواخ وبيوت منتشرة هنا وهناك على جانبى الشاطئين، أبقار وتيوس ماعز وحيوانات أخرى، إما مسترخية أو مستلقية على جوانبها فوق الحشائش، وألف نوع من الطيور، تصفق الهواء بغنائها المحبب، وآلاف من البط البرى ودجاجات الماء، وأنواع أخرى من الطيور البحرية تبلبط فى مياه النهر، ويمكن أن تميز بينها مجموعات كبيرة من البشاروش، الذى يبدو كملوك لتلك القرى المائية... آه! لماذا لم تتخذ إلهة الحب مصب نهر النيل سكنا لها؟

تركنا على يسار النهر قلعة جوليان، التى يبدو أنها كانت فى حال جيدة وبها أسلحة مدفعية، وإلى اليمين جزيرة كبرى حديثة التكوين، يسمونها الجزيرة الخضراء، يعود أصلها إلى مركب غارقه تراكمت عليه الرمال والطمي: الجزيرة كبيرة الحجم حاليا ومليئة بالبيوت والحدائق. واصلنا هذه الرحلة اللذيذة كان يرافقنا ما بين ثلاثة عشر أو أربعة عشر مركبا أخرى، فكانت تشكل مع مركبنا قافلة صغيرة.


عند منعطف من النهر، كانت الرياح تهب معاكسة فقام جميع البحارة بالهبوط إلى الأرض على الشاطئ الأيسر، كل مجموعة سحبت مركبها بحبال حتى الوصول إلى المنعطف الثاني، عاد هبوب الرياح لصالحنا ففردوا الأشرعة، ووصلنا إلى رشيد عند منتصف النهار. قفزت إلى اليابسة على الفور، وذهبت للإقامة مع صديق لى فى بيت كان معدا لى من قبل.


مدينة رشيد، طبقا لما يطلقه عليها سكانها، تقع على الجانب الأيسر من مياه النيل. قليلة العرض ولكنها مستطيلة جدا. البيوت، تماما مثل البيوت الموجودة فى الحقول، مبنية بالطوب الأحمر، ومكونة من أربعة أو خمسة طوابق، بالإضافة إلى وجود عدد كبير من النوافذ بها، ولها أبراج عالية وفخمة، تمنح رشيد مظهرا يجعلها أقرب إلى المدن الأوروبية.

لو أضفنا إلى صورتها تلك قربها من هذا النهر الكبير، وكونها مقدمة للدلتا، فإن جمال المناخ وروعة إنتاجها الزراعي، يمكنها أن تكون مدينة رائعة، ذلك لو أن البشر اهتموا بما تقدمه لهم الطبيعة.


يحكم رشيد أغا أرناؤوطي، اسمه على بك، تحت إمرته بشكل عام ما بين مائتين إلى ثلاثمائة جندى من بنى جلدته ويوجد أيضا تركى اسمه على بك، ابن أحد الباشوات القدامى، وبذلك أصبح بالإضافة لى ثلاثة على بك فى رشيد فى وقت واحد.


كانت تلك المدينة أيضا مقرا لأسقف يونانى. وكان أسقف جبل سيناء قادما من القاهرة فى طريقه إلى القسطنطينية، والتقينا فى مقر نائب القبطان باشا الذى كان يسير فى الرحلة نفسها فى طريقه إلى القسطنطينية: فى هذا الشهر كانت رشيد تكاد تمثل مقرا لحاشية صغيرة.


زارنى يوم السبت عدد كبير من سكان المدينة، ولم أخرج فى ذلك اليوم سوى لزيارة الرجل الشهير م. الرشيدى الذى أقام على شرفى حفلا صغيرا. هطلت أمطار غزيرة يوم الأحد يصاحبها رعد رهيب.


يوم الاثنين، 3 من أكتوبر، فى الثانية مساء، اتخذت مركبا للصعود فى النهر، ذلك النوع من المراكب مخصص للإبحار فى النيل فقط، وطريقة صنعه تختلف قليلا عن المركب الذى نقلنا من الإسكندرية، على الرغم من أنهما متساويان فى الحمولة.

ويبحران بالطريقة نفسها، لكن الإبحار فى الأخير أكثر راحة، ويوجد بها قمرة تنقسم إلى قسمين، تشكل قاعة وغرفة مليئة بالنوافذ، ولها شرفة خلفية، ومنفصلة عن باقى المركب، كنت أحتل أنا القمرة فقط، وخدمى ومتاعى وخيولى احتلوا باقى المركب بكل راحة.


وفى الثانية والنصف مررنا أمام أبو مندور، مسجد لأحد أولياء الله يقع على الطرف الأيسر من النيل، وفى الخامسة وصلنا بالقرب من برينبال، قرية تقع على الشاطئ الأيمن، وبعد ترك ليمير على الجانب الأيسر.


منحنيات النيل تجبرنا دائما على ضم الأشرعة بعيدا عن الريح، وفى تلك الحالات يجرى سحب المركب بالحبال، ولهذا السبب فإن هذه المراكب يكون عدد العاملين فيها أكبر من متطلبات حمولتها، ومركبى كان عليه أربعة عشر بحارا.


فى الثامنة مساءً ألقى مركبنا مرساته بين قرية مطوبس على الجانب الأيمن وإدفينا على الجانب الأيسر من النهر.


4 أكتوبر
فردنا قلوعنا أمام رياح ضعيفة فى الثامنة صباحا، وقفز ثمانية رجال إلى البر لسحب المركب، ولكنهم لم يستطيعوا السير على الشاطئ نظرا لغرقه فى المياه، فعادوا إلى سطح المركب وساقوا المركب باستخدام الزانات، وعلى مسافة قريبة من هناك، القبطان، الذى كان يتمتع بخبرة عملية كبيرة بالأرض، أمر الرجال بالعودة مرة أخرى إلى المياه، فسبحوا حتى سبعمائة أو ثمانمائة متر، إلى أن وصلوا إلى أعماق لا تزيد على قدمين فى المياه، على الرغم من أن المركب كان بعيدا بشكل كبير داخل المياه، فقد واصلوا سحبه.


هناك، رأيت أيضا صيادا يجلس فى هدوء على مخدة أو جوال، يعتمد على ست أو سبع عصى خشبية، فيما كان هناك رجل آخر يدفع الطوف شيئا فشيئا، فيما كان هذا يسبح كان الصياد الآخر يلقى بشباكه بضربة واحدة كلما لمح الأسماك، يقفز إلى المياه ويخرج الأسماك من الشباك، ويقتلها بقرضها بأسنانه. ويسحب شباكه سريعا ويعود إلى الطوف، ليعيد تكرار العملية نفسها.


المراكب التى كانت تهبط نحو الشمال فى النيل تبحر بدون أشرعة أو مجاديف، عندما يكون التيار عاليا، فإن القباطنة يتركون الدفة تسير حسب التيار؛ ولكنهم يراقبون السير من خلال استخدام زانة طويلة، فيما يقوم ثلاثة أو أربعة من الرجال بمراقبة الإبحار بشكل دائم.


فاجأتنا سحابة كبيرة من الذباب المزعج، وإن كان هناك القليل من البعوض، الذى لا يظهر سوى ليلا.بعد العاشرة صباحا توقفنا على الجانب الأيسر لبعض الوقت، حتى يستريح البحارة ويحصلوا على وقت كاف لتناول الإفطار. فى المنطقة التى توقفنا فيها كانت المياه عميقة إلى أن تصل بالقرب من الشاطئ.

ولم نكن نهبط إلى اليابسة حتى تقترب أفرع البوص من نوافذ قمرتي، ولا نكاد نصل إلى أعماق النهر، سرعان ما مررنا بين قرية شنشيرا على اليمين وفيتزارة على الجانب الأيسر.


فى تلك اللحظة شاهدت مرور جنازة إلى شنشيرا. أحد الأشخاص المحترمين، حسن الهندام، ربما يكون الإمام، كان يتقدم الجنازة ويتبعه ما بين اثنى عشر إلى خمسة عشر رجلا، يسير بعدهما الجثمان محمولا على أكتاف أربعة رجال ومغطى بعدد من الأقمشة مختلفة الألوان، كان آخرها اللون الأحمر.

ويتبع الجنازة حوالى مئة من النساء يطلقن صرخات حادة. كن يتابعن المسيرة بالقرب من شاطئ النيل، كن يرتدين ملابس زرقاء، شاهدت واحدة أكثر أناقة من غيرها، كانت مغطاة ببشكير كبير مخطط بخطوط زرقاء وبيضاء، عندما وصلت الجنازة إلى مكان الدفن، انسحبت النساء وبقى الرجال وحدهم لدفن الجثمان.


مع كل خطوة نجد أماكن يحصدون فيها الأرز. تنتشر على الضفتين الأبقار والجواميس: الكثير من تلك الحيوانات غارقة معظم الوقت فى المياه حتى أذنيها، وترفع رؤوسها من وقت لآخر، وتظل على حالها هذا لمدة دقيقة أو اثنتين.


فى الواحدة مررنا ما بين قرية ديروط Derot، إلى اليسار وسنديون على يمين النهر، وفى الثالثة والنصف كنا أمام مدينة فوة، التى تقع على الضفة اليمنى، ولها امتداد كبير، أحصيت فيها أربع عشرة مئذنة، إضافة إلى البيوت التى كانت تبدو متسعة جدا، فى الوقت نفسه كان ثمة عدد كبير من القوات والجنود الأرناؤوط، فى مواجهة تلك المدينة تقع مدينة زورومبا Zurumbe، فى هذا المكان يمكن أن يصل اتساع عرض النهر إلى حوالى نصف فرسخ، وتقع فى منتصفه جزيرة كبيرة.


وفى الخامسة والنصف مساء، مر مركبنا أمام قرية السالمية، فيما تقع التايس على الضفة اليمنى، وبعدها بثلاث ساعات، عبرنا بين مدينة الرحمانية فى الضفة اليسرى، وقرية دسوق فى الضفة اليمنى، وألقينا بالهلب على مرأى منها.


كان يبدو مظهر الرحمانية مثل كل المدن التى مررنا بها سابقا فى مصر السفلى، بها القليل من الجاذبية. غرفها مصنوعة من الطين الأسود، ومبنية، نظرا لنقص الحجارة، من الطين سيئ الحرق المصنوع من الطينة نفسها، وبما أنهم لا يدهونونها فتبدو كما لو كانت مصنوعة من الحبوب، ولاحظت أيضا أن هناك حيا بكامله مبنياً على هيئة أبراج حمام.

وكلها على هيئة واحدة، تبدو مثل أقماع السكر أو الأسطح المقببة، مما يمنح الرحمانية شكلا مميزا. وبالقرب من المدينة، على ضفة النهر، كان ثمة معسكر يضم ألفى أرناؤوطي، إلى جانبه عدد كبير من المراكب التى تصطف فى صف طويل بطول المعسكر.


5 أكتوبر
كان السكون يخيم، فى العاشرة صباحا تحركت الرياح، ففردنا الأشرعة. بعد نصف ساعة كنا نمر بين قرية موجيز على الضفة اليسرى وقرية مايدون إلى يميننا.و بعدها، مررنا بقرية محلة أبو العلا على الضفة اليمنى، ثم مررنا بقرية كفر مشار، التى تقع على نفس الجانب من النهر. على الضفة المقابلة، كانت هناك عدة تجمعات من البيوت والأكواخ عديمة الأهمية.


فى كل هذه القرى والمزارع كان هناك عدد متنام من أبراج الحمام المشابهة لأبراج الرحمانية، وبما أن اللحوم كانت مرتفعة الثمن فى البلاد التى تفتقر إلى المراعي، فإن أبراج الحمام كانت تغطى احتياجاتها من الحمام، الضفتان فى ذلك المكان قليلتا الأشجار.


عند منتصف النهار مررنا أمام الصافية التى تقع إلى اليمين، وبعد ثلاثة أرباع الساعة كنا بين محلة ديه إلى اليمين، والحبرهيل، إلى اليسار، وبعد مرور ساعة ونصف الساعة مررنا بين قرية دامينجينا، إلى اليمين،  وشرباص، إلى يسار النهر.


شاهدت فى الثالثة قرية صان الحجر، التى كانت كبيرة الحجم، وتقع على بعد نصف فرسخ إلى الداخل بعيدا عن الضفة اليسرى. وبعد ساعة كانت أمامنا قرية نخلة إلى اليسار، وإلى اليمين كانت تسير قافلة بحرية مكونة من أربعة وعشرين قاربا مليئة بالجنود الأرناؤوط.


بعد الساعة السادسة مررت أمام الضهرية وهى قرية صغيرة تقع إلى اليسار، وكان يحتلها المماليك، ولهذا السبب تجنبنا الاقتراب منها، وواصلنا الإبحار على الضفة اليمنى حيث كانت هناك بعض القرى الصغيرة: الشابور كانت تقع على الصفة اليسرى.


وأخيرا، فى الثامنة كنا فى منوف، إلى اليمين، حيث واصلنا وجهتنا، وغرزنا فى العاشرة ليلا، بالقرب من الضفة نفسها. هذه الحادثة أجبرتنا على قضاء الليلة فى ذلك المكان.

 

6 أكتوبر
عند مطلع الفجر انتبهت إلى أننا كنا بالقرب من نتمة، إلى اليسار، وكفر البجة إلى اليمين. ولم تفلح جهود كل البحارة فى دفع المركب إلى الإبحار من جديد، وطلبوا مساعدة بعض العرب الذين أخرجونا من الورطة، ولكن هبت رياح من الشرق دفعتنا إلى الرسو فى كفر البجة.


عند منتصف الظهيرة هبطتُ إلى البر، ولأننى كنت أراقب مسير الشمس، كنت على قرب من القرية= 30 درجة 47» دقيقة 53» ثانية شمالا.


وبما أن الريح بدأت تهب فى الواحدة والنصف، تم سحب المركب إلى الشاطئ الأيمن، بعيدا عن اتجاه الرياح والتيار وهذا لم يساعدنا كثيرا على السير. وفى الرابعة كنا فى ميشلا، إلى اليمين، وبعدها بساعة أُجبرنا على إلقاء الهلب بسبب نقص دفع الرياح.


وتوقف فى المكان نفسه مركبان، أخبرنا بحارتهما أنه فى ذلك الصباح كان هناك بعض العرب يسطون على أحد المراكب على الشاطئ الأيسر، بعدنا بالأعلى بقليل، وأنهم يملكون قاربين مسلحين.


وفى السادسة والربع تحركت بعض الريح، وهو ما ساعدنا على فرد شراع المراكب الثلاثة. بعدها بساعة تركنا زعيرة على الضفة اليمنى، وفى الثامنة والنصف ألقينا مراسينا فى طنوب، على الصفة نفسها.

7 أكتوبر
هبت سحابة من الجنوب الغربى أجبرتنا على التوقف طوال الصباح. ما إن هدأ الطقس فى الثانية والنصف، فردنا الأشرعة، على يمين الضفة نفسها. تعرفت فى ما بعد الثالثة بقليل على قرية صغيرة تدعى عمروس، تقع على الضفة اليمنى. من هناك وحتى ربع ساعة شاهدت قرية كوم شريف، على الضفة اليسرى، وفى الثالثة والنصف كانت هناك قرية تشيطان، على الضفة المقابلة.


فى الرابعة مررنا أمام زاوية الواقعة على الضفة نفسها. مظهر ذلك المكان فريد جدا، تخيل تجمعا من مائة وخمسين من القباب، بارتفاع من عشرة أو ثمانية إلى عشرين قدما، وقطرها يمكن أن يكون من عشر إلى إحدى عشرة قدما، مبنية بالطين والطوب الأسود، وتبرز فى منتصفها مئذنة كبيرة. كانت تلك القباب تستخدم كأبراج حمام.

وبما أنها أكبر من الجدران البائسة التى تقف عليها، يمكن أن يُقال إنها قرية أبراج حمام، حيث يعيش بعض الأشخاص ممن ينتمون إلى البشر. 


مع هبوط الليل توقفت المراكب الثلاثة، أخرج البحارة أسلحتهم تحسبا لأى هجوم من سكان الضفة اليسرى .وفى السادسة والنصف، تركنا قرية نضير على  الضفة اليمنى للنهر، وبعد نصف الساعة دخلنا ترعة منوف، إلى الجنوب الشرقي، تاركين الفرع الرئيسى للنيل، لأن الإبحار فيه كان خطرا، فيما تنهمر علينا لعنات عرب الضفة اليسرى. وبما أن الرياح كانت ضعيفة، وصلنا إلى أعماق الترعة فى العاشرة مساءً.


8 أكتوبر
انتبهنا فى السابعة والنصف إلى أن الضباب كان كثيفا، فى هذا المكان كان يصل عرض الترعة من مئتين وخمسين إلى ثلاثئة قدم. أجبرنا الهدوء التام للرياح على سحب المراكب بالحبال من البر، وبسبب البطء فى هذه العملية فقد اضطررنا للتأخر فى الوصول إلى منوف حتى نصف نهار كامل بعد ذلك.

وحاول بعض الجنود الأرناؤوط إجبار القبطان على السماح لهم بالصعود إلى مركبنا ليأخذهم معنا إلى القاهرة، وهو ما رفضته أنا، وأرسلت اثنين من خدمى إلى  الحاكم. وكان هذا الحاكم قد عرض عليَّ جميع خدماته التى ترضيني، قبل أن تصلنى الإجابة على طلبى كان الجنود الأرناؤوط قد اختفوا.


وبعدما رسونا فى منوف لمدة ساعة، بدأنا سحب المراكب حتى حلول الليل، لحظة تحركت الرياح قليلا، وفى العاشرة رسونا فى الترعة كما فعلنا من قبل.


9 أكتوبر
فى السابعة صباحا واصلنا سحب المراكب بسبب توقف الرياح. فى التاسعة مررنا أمام قليتي، الواقعة على الضفة اليسرى، حينها بدأت رؤية جبال القاهرة بمنظارى المكبرة.


ثم شاهدت على الضفة اليمنى قرية بها الكثير من أبراج الحمام، تنتهى بأوان فخارية مستديرة مبنية بالطوب المحروق، وتظهر أشكالها نحو الخارج، وتستدير إلى الداخل، لتشكل نوعا من الأعشاش.


لكل جرة فم مستدير بقطر حوالى قدم وكل برج حمام مكون من عدد كبير من تلك الجرار المستديرة، والملتصقة فيما بينها بالطين، ويوجد بها شُبّاك واحد يسمح بدخول وخروج الحمامات، أما صاحب البرج فيدخل من خلال فتحة من داخل البيت نفسه الذى يشكل قاعدة برج الحمام. وتبرز من البرج عصى كثيرة قصيرة مثبتة فى الحوائط لتستخدم كمكان تقف عليه الحمامات.


وبما أننا وصلنا نهاية الترعة فى العاشرة والنصف، فقد دخلنا إلى فرع النيل الأيمن الذى يتجه نحو دمياط. تأخذ ترعة منوف ماءها من الفرع الأيمن للنيل، وتفرغها فى الفرع الأيسر فتدفع المياه بقوة مما يشكل عائقا أمام الإبحار.

فنعتمد فى الإبحار على الأشرعة، ونصبح مُجبرين على مواجهة التيار بشكل دائم حتى لا يجرفنا التيار، لأن سحب المراكب بالحبال يصبح صعبا، يكون الإبحار بشكل عام نحو الجنوب الشرقي، ويبلغ عرض النيل فى هذا المكان ما بين 150 و 160 قدما، وتياره سريع جدا، وحوافه مغطاة بالمبانى فيما عدا بعض الأماكن التى تنمو فيها الأشجار فى تجمعات رائعة جدا.


فى الثانية عشرة إلا الربع، وصلنا إلى عمق الذراع اليمنى للنيل، حيث شاهدنا بوضوح الهرمين الكبيرين، رغم بعدهما بحوالى اثنى عشر فرسخا، بعد الثانية عشرة فردنا أشرعتنا لتدفعها نسمة ريح بدأت فى الهبوب، وبعد ساعة ونصف الساعة تعرفت على قرية البشارة على الضفة اليسرى. فى الثانية والنصف، كنا بموازاة شبرا، الواقعة على الضفة اليمنى للنهر، وبعدها بدأت أشاهد الهرم الثالث.


فى الثالثة والربع تركنا خلفنا شفيتا إلى اليمين، وبعدها بساعة مررنا أمام دراويك، التى تقع على رأس جنوب الدلتا، فى المكان الذى ينقسم فيه النيل إلى فرعين.


وفى الخامسة كانت شالكان على الضفة اليمنى، وبعد ست ساعات رسونا أخيرا فى بولاق، ميناء القاهرة النهرى الذى يقع على الضفة نفسها.


هذا الإبحار فى النيل، من رشيد وحتى القاهرة، كان رائعا، رغم أنه ليس كذلك بالنسبة للقارئ نظرا لقائمة الأسماء الطويلة للقرى المجهولة التى ذكرتها، ولكن ما كان يمكننى أن أتجاهلها بدافع تحرى الدقة فى طريقى.


الإبحار، الزيارات، محمد علي، الوضع السياسى فى مصر، القاهرة، الأهرامات، الجيزة، المقياس، القاهرة القديمة، التجارة وشاركت يوم الاثنين، العاشر من نوفمبر عام 1806، فى حفل تنصيب الشيخ المتولي، صديقي، وثانى أهم شخصيات مدينة القاهرة، فقد كان شيخ المغاربة، ورئيس طائفة المغاربة القادمين من الغرب.


ما إن تسلم رسالتى حتى أخبر بها السيد عمر مكرم، شيخ مشايخ القاهرة، الذى كان يجمع بين كونه نقيب الأشراف، ودوره الذى يكاد يرفعه إلى دور الأمير المستقل.


أرسل لى السيد عمر مكرم على الفور عددا كافيا من الجمال لتفريغ متاعي، وجاء لاستقبالى الشيخ المضواتى مع عدد كبير من المستقبلين، ورافقنى إلى بيته، حيث أعدوا لى غرفة فيه.


استقبلت زيارة السيد عمر، والشيخ الأمير، والشيخ سهمان الفيومي، والشيخ السادات، وآخرين من كبراء القاهرة. أبدوا فى أحاديثهم كرما عظيما. وأكثر من هذا، ولعل أكثر ما أثارنى عندما وجدتنى أشاهد مولاى سلامة، شقيق مولاى سليمان، حاكم المغرب، وجهه وتقاطيعه ذكرتنى بالمحترم المبجل الأمير مولاى عبد السلام: قفز قلبى من مكانه، وهتفت: «مولاى سلامة!»... وعندما كنا فى عناقنا الذى طال لفترة غسلت الدموع وجهينا.


جلسنا، وقلبانا لا يزالان تحت عنفوان لحظة اللقاء، ما جعل من الصعب أن نتبادل الحديث لاختناق العبارات.وكان مولاى سلامة أكبر سنا من مولاى سليمان، لكن الأولوية فى تولى الابن الأكبر السلطة لم يكن معمولا بها فى المغرب، حيث لا يوجد أى قانون ينظم الخلافة على العرش: القوة فقط تفصل بين المتنافسين.

وكما قلنا من قبل. كانت نتيجة هذا النظام الفوضوى أن مولاى سلامة، بعد جلوسه على العرش لعدة أشهر، حورب مرتين من شقيقه مما اضطره إلى التخلى عن العرش، وانسحب نهائيا إلى القاهرة، ليقيم مع عائلته، بعد أن تخلى عنه شقيقه، ويعيش على مساعدات مشايخ المدينة.


كنت على علم بالحكاية، وكان يعرف حكايتي، لهذا تحدثنا بكل صراحة وأوضح كل منا وضعه إلى الآخر. لاحظت أنه كان غاضبا من موقف مولاى سليمان. تمكنت من تهدئته بعض الشيء، وأعدت إليه بعض السكينة، وبعد جلسة طويلة، انتهت بتقبيل كل منا لحية الآخر وشاله، قال: إن كلامى أكثر حلاوة من السكر.


رددت زيارات كبار المشايخ بزيارتهم فى بيوتهم، ورافقت السيد عمر مكرم لرؤية الباشا محمد علي، الذى قدمت له رسالة القبطان باشا. فقدم لى أكبر الهدايا، هذا الأمير، كان لا يزال شابا، قصير القامة، وتبدو على وجهه بقايا جدري، كان شجاعا، عيناه حيويتان، وتبدو عليه ملامح عدم الثقة، رغم أنه كان يبدو عليه الذكاء إلا أنه كان يفتقر إلى الخبرة، دائما ما يبدو غاضبا، حينها قام السيد عمر مكرم الذى كان له بعض التأثير عليه، وعرض عليه أن يكون باشا البلاد.


يصل عدد رجال محمد على إلى حوالى الخمسة آلاف، يسيطرون على مصر، كان هؤلاء الجنود فوضويين ومتشددين، خاصة أن الشعب كان يحتملهم بصبر، لأنهم لم يكونوا أسوأ من المماليك، وبما إنهم لم يكونوا يمتلكون برلمانا يمثلهم، لم يجدوا أمامهم سوى الصمت. من ناحية أخرى فإن محمد على الذى يدين إلى ما وصل إليه إلى جنوده.

وكان متسامحا إزاء أفعالهم، لأنه لم يكن يملك استقلالية عنهم، إضافة إلى أن كبار المشايخ كان لهم تأثير كبير فى أمور الحكم وكانوا يؤيدون هذا النظام القائم بكل قوتهم. كلما زاد تمرد الجنود عانى الشعب أكثر من أفعالهم التى لم يكن يشعر بها الكبار، كانت ماكينة النظام تسير بقوة الدفع الذاتى.

حكومة إسطنبول، لم تكن لديها القوة الكافية لإخضاع البلاد كلها خاصة أنها كانت تعتمد على دخلها من جباية أموالها منها، فكانت تحاول إبقاء الحال على ما هو عليه سنة وراء سنة بوسائل مصطنعة. ولجأ بقايا المماليك المتبقين إلى الصعيد حيث لا يستطيع محمد على الوصول إليهم.

 

ولجأ ألفى بك، بجيشه المكون من المماليك والعرب والأتراك والمتمردين إلى صحراء دمنهور. لم تكن حكومة إسطنبول تملك السيطرة على الإسكندرية، نتيجة لوضعها الجغرافي، فلا هى مدينة مصرية ولا هى مدينة تركية، هذه هى الصورة الحقيقية للأوضاع السياسية فى مصر.


تمنح الطبيعة الجغرافية القاهرة لقب «مصر»، يسميها الأتراك «مصر الكبيرة». واسم مصر مجهول بالنسبة لعامة سكانها، لهذا يسمونها «بر مصر» أو «بلاد مصر»، أى أرض مصر أو دولة مصر.


يصف كثير من الرحالة المسيحيين  شوارع القاهرة باعتبارها قذرة جدا، وكئيبة. يمكننى أن أؤكد أن القليل من شوارع أوروبا بنظافة شوارع القاهرة، أرضياتها ناعمة جدا، بلا أحجار ناتئة، وتشبه إلى حد كبير رصيفا مرويا بالماء بشكل جيد.

وإن كانت ضيقة جدا، وربما يخيم عليها ظلام ظلال الطبقات الأولى للبيوت تماما مثل الإسكندرية، هذه الظلال تجعلها كئيبة خاصة أن البيوت تميل على بعضها البعض حتى تكاد تبدو متلاصقة، ويفصل بعضها عن بعض مساحات لا تزيد على أربع أصابع فقط، وربما كان هذا وضعا مثاليا ومطلوبا فى بلد حار جدا.


بعيدا عن أن شوارع القاهرة تبدو كئيبة، نظراً للعدد الكبير من الحوانيت والورش، إضافة إلى الزحام البشرى الذى لا يتوقف ولو للحظة واحدة، فإننى أجدها مثيرة للفرح ومشيعة للبهجة، كما فى المدن الأوروبية الكبرى. محال إقامة الإفرنج أو الأوروبيين، تقع فى مثلث منعزل بعيدا عن الزحام، ربما كان هذا السبب فى الأوصاف التى أطلقها الرحالة الأوروبيون. لن أنفى أن السير فى شوارع القاهرة سيىء للغاية بالنسبة للأوروبيين.

المنغلقين على أنفسهم فى حى كئيب. فهم مهمومون بالحفاظ على ارتداء الملابس الكاملة وممارسة عاداتهم الوطنية، ويبدو حضورهم فى الشوارع فريدا ويدفع الفضوليين من العامة إلى الالتفاف من حولهم: حينها يصيبهم الفزع ويسيرون فى حذر. ترى هل يمكن اتهام العرب بمثل هذه المعاملة، إنهم أناس لم يتحضروا، بل يمارسون الفعل نفسه الذى يحدث فى لندن حيث يوجد إنجليز متحضرون يشتمون الأجنبى إن ارتدى ملابس طويلة أو قصيرة قليلا ولو بإصبعين عن ملابسهم.


يُقال إن فصل الصيف أطول فى القاهرة، لكن الحال أنه كذلك بشكل عادى وقد أثر على شكل الشوارع والبيوت: أسقف الغرف مرتفعة ولها نوافذ متسعة لتمرير التيارات الهوائية. خلال فترة وجودى هناك كان الخريف رطبا، بشكل عام هناك شعور بالبرودة، مثل ذلك البرد الذى شعرت به أنا فى لندن فى الفصل نفسه. لذلك اتخذت احتياطاتى لاتقاء برد الليل فى الصحراء بشكل مناسب.


المناخ فى القاهرة ليس مشبعا بالرطوبة كما فى الإسكندرية، طبقا لمقياس الحرارة فقد سجل 56 درجة. وضع غرفتى لم يمكننى من مراقبة الرياح. كان المناخ متقلبا بشكل هادئ مع قليل من السحب مثل أوروبا. أمطرت خلال إقامتى لمرة واحدة، لكنى لم أسمع رعدا.


تتمتع القاهرة ببعض المساجد، أغلبها لا تستحق الزيارة، الجامع الأكبر منها، الأزهر، رائع باتساع مبانيه، وليس بسبب نوعية البناء أو جمال نقوشه، كما يقول م. براون. أعمدته من الرخام العادي، قطرها لا يزيد على قدم واحدة، بتيجان سيئة الصنع.

وأكثرها قذر. وفرشه بدلا من السجاجيد الفارسية التى تحدث عنها الرحالة، كانت مغطاة بالحصر الرديئة والمتهالكة، كانت تتحرك خلال الصلاة، السجاجيد الفارسية التى تحدثوا عنها أكد لى الجميع أنه لم يكن هناك أبدا غير هذه التى كنت أراها فى الأزهر.

وعلى أية حال كان يبدو أنه من المستحيل أن يُفرش المسجد بالسجاجيد لأن الكثير من المصلين كانوا معتادين على النوم فى المسجد ويلتفون بالحصر، وهو ما شاهدته أنا كثيرا، والحشرات التى يتركونها هناك لا تموت سوى بتحريك تلك الحصر لتنظيفها، وهو ما يؤكد أنه أمر لا يمكن أن يحدث بوجود السجاجيد، أنا لا أريد أن أناقض كلام م. براون.

 

وهو أكثر الرحالة الذين أحترمهم، بسبب رحلته المحفوفة بالمخاطر إلى دارفور، وأسعد بتصديق وصفه خلال رحلته إلى داخل أفريقيا واستفدت كثيرا من شروحاته التى لا تحمل تناقضات مع الواقع كما أمكن حدوثه فى وصفه لمصر.


ذلك المسجد، الذى كان يعيش إلى جواره أكثر مشايخ القاهرة المعروفين، وإن كان جوار المسجد يعيش بشكل رئيسى المغاربة، يذهبون إلى هناك لأداة الصلاة ويفضلونه على أى مسجد آخر. وفى هذا المسجد كان يجتمع مجلس القضاء، وأيضا مجلس العلماء، ليقوموا بالتدريس، أو تفسير القوانين، نظرا لاتساع المسجد كانوا يتوزعون إلى عدة مجموعات.


لكن المسجد الآخر الذى يجذب أناسا أكثر اسمه «الحسين» معماره مختلف عن معمار غيره من المساجد، له صحن مربع تعلوه قبة جميلة، حيث توجد مقبرة رأسه المقدسة، سيدى الحسين، يحيط بها صندوق من الخشب تماما مثل كل مقابر المشايخ، المسلمين، يغطى هذه المقبرة أقمشة من الحرير المطرزة بالذهب والفضة، ويحيط بها سور من المعدن والفضة، ينتهى إلى ما يشبه القبة الصغيرة فى أعلاه.


المكان التالى فى القداسة بالنسبة للسكان هو المسجد الرائع للسيدة زينب، أو «ستنا زينب»، كما يسمون شقيقة سيدنا الحسين، حفيدة النبى .ومسجد السلطان حسن، يقع بالقرب من القلعة، شهير بجرأة معماره، وارتفاعه، وجمال صحنه الذى يشبه بعض كنائس أوروبا.


لا يقل عن تلك المساجد روعة مسجد السلطان قلاوون، يضاف إلى جماله القبة المنفصلة التى يرقد فيها جثمان الأمير، والتى تعد أكثر روعة. تنتهى المقبرة بقبة مرفوعة على أعمدة رائعة، شاهدت فى ذلك المسجد أكثر من خياط مشغولين بخياطة قطعة عظيمة من القماش الصوفى الأسود، لصناعة كسوة الكعبة.

أو بيت الله الحرام فى مكة. إنها الكسوة التى ترسلها القاهرة سنويا، نوع من الكساء مصنوع ومطرز يدويا، ويشكل جزءا من مهنة متعلقة بالعقيدة: لا إله إلا الله. تنتشر الأحرف الكبيرة البارزة على  سطح القماش فتبدو كما لو كانت زهورا منثورة بين رسومات أخرى، عندما دخلت على الخياطين الذين يعملون فى التطريز قدموا لى إبرة وخيطا للمشاركة فى الخياطة، وبما أن هذا كان عملا من أعمال البر فقد قمت بصنع بعض الخيوط فى القماش، وكان هدفها موجها إلى شيء يحظى بالتقدير.


من بين أقسام مسجد السلطان قلاوون، كان هناك مشفى عام لرعاية المرضى من الجنسين، وللمحتاجين. كل هؤلاء المساكين الذين يعيشون فى أسوأ حالات الفقر والاحتياج، وفى أقصى حالات العرى، بينما كانت الإدارة تستعرض أعلى حالات الرفاهية.

وبعد ما سمحوا لى بزيارة جميع أقسام المشفى، تركت لهم تبرعا، وهو الأمر الذى سرعان ما ندمت عليه، عندما علمت أنه كان لدى المشفى مصادر دخل كافية تغطى جميع احتياجات كل هؤلاء المرضى، لو أن الإدارة كانت أمينة ونظيفة اليد. فى البداية كانت الإدارة قد أقامت للمرضى مكانا غاية فى الفخامة فى فناء المشفى المحاط بالعنابر ودفع تكاليف فرقة موسيقية لتعزف بشكل يومى فى هذا المكان. لقد اختفى كل هذا الآن: ولم يتبقَ من كل هذا سوى أطلال، تثير مشاهدتها حزنا عميقا.  


كنا قد تحدثنا من قبل عن السيد عمر مكرم، رئيس طائفة الأشراف، وعن الشيخ المدبولي، شيخ المغاربة، ونقدم هنا أسماء ووظائف كبار مشايخ القاهرة:
الشيخ الأمير، مدير ومسئول صندوق مال الأزهر، والرجل الثانى بين رؤساء العلماء.
الشيخ السادات ، شيخ طريقة العوافجية، طائفة لها طقوسها وممارساتها الخاصة.
الشيخ البكري، شيخ الطريقة البكرية.
والشيوخ الأربعة ورؤساء ومستشارى القاضي:
شيخ الحنفية.
شيخ الشافعية.
شيخ المالكية.
شيخ الحنابلة.
وهؤلاء يمثلون المذاهب الأربعة.
ومن بين العلماء الرئيسيين:
الشيخ المهدى.
الشيخ سليمان الفيومى.
السيد الدواخلى.
السيد عبد الرحمن الجبرتي، فلكى البلاد الأول.
الشيخ العروسى والشيخ الصاوى وهما يتمتعان باحترام كبير، ورثوه عن آبائهم.
السيد المحروقي، نائب شيخ التجار.
ويتمتع كل هؤلاء بحياة مرفهة حسب ما تسمح به قدرة كل منهم، ويمكن القول إن احترام هؤلاء يتعارض بالمقابل مع كل البؤس الذى كان يعم المغرب. ولا يخطو أحدهم خطوة دون أن يكون مُرافقا بعدد كبير من الخدم، ويتمتعون بين أبناء الطوائف الأخرى الأقل منهم اجتماعيا بكل الاحترام والتبجيل الذى يليق بأى سلطان.

 

ويتحركون بشكل شبه دائم على ظهور الخيل؛ يتقدمهم مجموعة مكونة من ستة من التابعين يحملون فى أيديهم عصيا طويلة، بينما يسير خلف الموكب جماعة من الخدم المسلحين على ظهور الخيل. وهذا يمنح مصر مظهر الجمهوريات الأرستقراطية، التى تعيش تحت سيطرة عسكرية مع الحرص على عدم التخلى عن شكل الحرية الظاهري، مما يشيع نوعا من مظهرية التمتع بالاستقلال. أما محمد على والجنود الأرناؤوط فقد كانوا يتبرمون من هذه المظاهر.


ممارسة الطقوس الدينية تكاد تطابق ما ذكرناه من قبل خلال حديثنا عن الإسكندرية. أمضيت شهر رمضان فى القاهرة. كنت أعرف أن وقت الالتزام بالصوم يجعل الأغنياء يعيشون بطريقة عكسية، أي، النوم طوال النهار، والاستمتاع بالحياة ليلا.


خلال هذا الشهر، تصبح المساجد والبيوت والشوارع مضاءة بشكل مبالغ فيه، فى قاعات استقبال بيوت الأثرياء، يتم تعليق مئات بل آلاف المصابيح والزجاجات البلورية مختلفة الألوان، مليئة بالزيت ومنتظمة فى حلقات حديدية معلقة على هيئة خيوط العنكبوت، مما يضفى عليها مشهدا رائعا، دون أن تنتج عنها روائح كريهة، فالدخان يخرج عبر فتحات فى القباب التى تغطى وسط القاعات.


فى يوم العيد، يجرى العامة فى الشوارع كالمجانين، يحملون فى أيديهم سعف النخيل الأخضر. وتسير النساء فى جماعات متنقلات من اتجاه إلى آخر، يقضين معظم الوقت باكيات أو يطلقن الزغاريد الحادة، تفرض التقاليد على الجميع فى ذلك اليوم زيارة المقابر.

وإن كنت أعتقد أن مثل تلك العادات المنتشرة لا تفرضها الشريعة على  الناس، وأنها مجرد بقايا لعبادات أدونيس القديمة... وبما أن تأريخنا قمرى، فإن تلك الأعياد لا تأتى دائما فى أوقات الربيع، لا يحدث هذا سوى ثمانى مرات كل ثلاثة وثلاثين عاما.


القلعة، تسيطر على المدينة كلها، هى فى الوقت نفسه، يسيطر عليها جبل قريب، أى أنها لا تستطيع أن ترد على أى هجوم مفاجئ، وتقع القلعة فى المكان الموجود فيه بئر يوسف الشهيرة، التى وصفها الرحالة مرات عديدة.
على الرغم من أن أهرامات الجيزة كانت محاطة بأشجار غير مشذبة، وإن لم تكن هناك أخطار عند الاقتراب منها، إلا أننى أردت أن أخاطر لأرى تلك الآثار المهمة التى صنعتها يد الإنسان.

اقرأ ايضا | عمار يا إسكندرية| مبدعون أنجبتهم عروس المتوسط.. تعرف عليهم

الكلمات الدالة

مشاركه الخبر :

 
 
 
 
 
 
 
 
 

 
 
 

 
 
 

مشاركة