محمد السيد عيد
محمد السيد عيد


يوميات الاخبار

ذكرى لا تنسى

محمد السيد عيد

الأحد، 11 سبتمبر 2022 - 07:08 م

 

كان عرابى ضحية الخيانة، خانه الخديوى توفيق، وخانه ديليسبس، وخانه سلطان باشا رئيس مجلس النواب، وخانه آخرون وثق فيهم

فى سبتمبر من هذا العام تحل ذكرى مرور مائة وأربعين عاماً على الاحتلال البريطانى لمصر. قضت مصر نصفها تحت الاحتلال، ونصفها الآخر تحت رايات الحرية بعد أن نجحت ثورة يوليو فى تحقيق الجلاء. وقد رأينا أن نقف عند هذه الذكرى لنستعيد معاً درسين غاليين، أولهما: خطورة انقسام الأمة، وكيف يستفيد أعداؤها من هذا الانقسام. والثاني: هو خطورة ضعف الجيش المصرى وعدم قدرته على المحافظة على الوطن. لن نطيل التقديم، وسندخل إلى الموضوع مباشرة.


اجتماع فى لندن
رشف اللورد جرانفيل وزير خارجية انجلترا رشفة من فنجان قهوته، ثم نظر لمسيو تيسو سفير فرنسا فى لندن، وقال شارحاً سبب طلبه للمقابلة: المسألة باختصار مسيو تيسو أنى أريد أن أقترح على فرنسا قيام الأسطولين الإنجليزى والفرنسى معاً بمظاهرة بحرية أمام شواطيء الإسكندرية.
قال تيسو مستفسراً: والسبب؟
- الحالة فى مصر الآن بالغة السوء. الانقسام هو سيد الموقف. عرابى والجيش فى ناحية والخديوى توفيق فى ناحية. ولعلك تعرف أن عرابى بعد مظاهرة عابدين فى العام الماضى صار قوة حقيقية فى مصر، لذلك فلا بد أن نقف مع الخديوى لنسانده ضد عرابى وجيشه.
ضحك تيسو. قال له: المسألة ليست بهذه البساطة سيدى اللورد، فمعلوماتى تقول إن الخديوى يتآمر على عرابى وقادة الجيش، وقد اكتشف الضباط أخيراً مؤامرة دبرها الضباط الأتراك ضدهم، وأغلب الظن أن الخديوى نفسه يقف وراءها، وحاكموا المتآمرين أمام مجلس عسكرى، لكن الخديوى رفض التصديق على الحكم، وقام بتخفيفه مما استفز الضباط.


ابتسم اللورد جرانفيل. قال له: هناك وجهة نظر أخرى تقول إن المؤامرة لا أصل لها، وأن الضباط موسوسون أكثر مما ينبغي، وقد أرادوا إبعاد خصومهم الأتراك من طريقهم.
- هههههه أظن أن هذه هى وجهة النظر الإنجليزية.


- أياً ما كان الأمر فالوضع الآن فى مصر مناسب جداً للتدخل. العرابيون يريدون خلع الخديوى، ويصرحون بهذا دون مواربة، والخديوى فى حاجة لمن يسانده، ومن صالحنا ألا يحكم العسكريون الذين قاموا بثورة ويريدون تغيير كل شيء. أنت تعرف أننا نستفيد من الوضع القائم، لذلك، فأنا أرجو أن تبلغ رئيس وزرائكم برأيى هذا، فإذا كان يوافق على الاشتراك فى المظاهرة فإن أولى سفننا ستكون فى الإسكندرية خلال أسبوع واحد من الآن. - أعدك أن أبلغه، وأن أزكى وجهة نظرك سيدى اللورد. وبدأت السفن الحربية الإنجليزية والفرنسية تصل إلى الإسكندرية فى 19 مايو 1882.
ليست مجرد مظاهرة
استقبل محمود سامى البارودى باشا، رئيس نظار مصر، سلطان باشا رئيس مجلس النواب، مرحباً. جلسا جلسة ودية. تنحنح سلطان باشا وهو يقول للباردوى: بصراحة جئت أقدم إليك نصيحة محددة.
- أى نصيحة؟
- أرجو أن تقدم استقالة النظارة، وأن يخرج عرابى باشا من مصر، لتفويت الفرصة على الأسطولين الواقفين فى الإسكندرية لتهديد مصر.
- هل هذه نصيحة منك أم رسالة من انجلترا وفرنسا؟
- اعفنى من الإجابة. واخبرني، ما رأيك؟
- بصراحة، أنا أرى أن نصيحتك تمس إرادة بلادنا واستقلالها، وأنا شخصيا أرفضها.


كان سلطان باشا فى حقيقة الأمر يحمل رسالة من الإنجليز والفرنسيين، ولما خاب مسعاه طلبت الدولتان المطلبين رسمياً فى خطاب بتاريخ 25 مايو، أى بعد أسبوع واحد من وصول الأسطولين.


عقد مجلس النظار اجتماعاً لمناقشة الأمر، وانتهى من مناقشته بالرفض. لكن فى اليوم التالى أعلن الخديوى موافقته على المطلبين، واشتعلت أزمة جديدة بين الفريقين. واستقالت الوزارة احتجاجاً على قبول الخديوى لمطالب الإنجليز والفرنسيين.
عودة عرابى
وقف الخديوى توفيق لاستقبال الوفد الذى طلب مقابلته بشكل عاجل. كان الوفد يضم سلطان باشا، وعدداً من علماء الأزهر، ووجوه الأمة. سألهم الخديوى: خيراً؟ واضح أن لديكم أمراً عاجلاً جئتم لأجله.
قال سلطان باشا: هذا صحيح يا مولانا.
- هاتوا ما عندكم.


- جئنا نطلب عودة عرابى لنظارة الحربية والبحرية
- ماذا؟ّ! لا يمكن. مستحيل.
- نرجوك يا مولانا أن تسمع لنا، فنحن لا نريد إلا صالح الوطن. وصالح الوطن يقول إن الناس لا تسمع الآن إلا لعرابي، وإنه الوحيد القادر على حفظ الأمن فى البلاد. أنت تعلم يا مولانا أنه منذ جاء الأسطولان والناس مستنفرة ضد الأجانب، وكثير منهم غادروا البلاد فعلاً خوفاً من غضب الأهالي. لصالح مصر يا مولانا، أرجو أن توافق. وافق الخديوى وعاد عرابى وحده من بين كل الوزراء وصار مسؤولاً عن الأمن فى البلاد.
الفتنة
بعد أن صار عرابى مسؤولاً عن الأمن سعت انجلترا لإظهار أن الأمن بمصر غير مستقر، وأن الأقليات الأجنبية فى خطر. ولعب مستر كوكسن، قنصل انجلترا فى الإسكندرية الدور الأساسى فى هذا الصدد. هاهم قناصل الدول يتوافدون على مقر القنصلية الإنجليزية بالإسكندرية، وبعد أن اكتمل الاجتماع بدأ كوكسن الحديث:
- حضرات السادة القناصل، إن المصريين فى حالة هياج شديد منذ وصول الأساطيل الحربية إلى الثغر، وأخشى من هجوم الرعاع على الأوربيين، لذلك دعوتكم لنتشاور فيما يجب فعله، ونتخذ التدابير والوسائل التى تؤدى لحفظ الأرواح ووقاية الأموال.
تعالت الأصوات: قل ماعندك
نحن نسمع لك
ماذا ترى؟
- أرى أن نسلح قوة من الجاليات الأوروبية، وندربها بسرعة على استخدام السلاح، وتكون جاهزة للرد على أى عدوان.
- وماذا عن الأسلحة؟
- سأطلبها من قائد الأسطول
- موافقون.. موافقون.. موافقون
وبدأ الاستعداد
مذبحة الإسكندرية
جلس عم سيد العجان على باب الله ينتظر الزبائن الذين سيؤجرون حماره للركوب. والحمار كان وسيلة أساسية للتنقل فى ذاك الوقت. طال انتظار عم سيد للزبائن. صاح: إفرجها يا كريم. واستمر فى الانتظار. بعد قليل جاءه رجل مالطي، وأبناء مالطة فى هذا الوقت يتمتعون بالرعاية الإنجليزية. لم يقل المالطى كلمة لعم سيد، بل ركب الحمار وقال آمراً بتعالٍ: هيا، تحرك يا رجل.
- إلى أين
- إلى أى مكان به خمارة
دار به عم سيد على خمارات المدينة. شرب بلا توقف. أخيراً وصل لحى اللبان. نزل من فوق الحمار أمام إحدى الخمارات. أراد أن يدخل دون أن يدفع الأجرة. أمسك به سيد من ذراعه: الأجرة يا مستر. وضع الرجل يده فى جيبه وأخرج قرشاً واحداً وأعطاه لسيد. نظر سيد للقرش ثم قال مستنكراً: ما هذا يا مستر؟ أنت لفيت اسكندرية من مشارقها لمغاربها، كل هذا بقرش؟
- كفاية.
- حرام عليك.


تعالت الأصوات من الرجلين، سيد يطلب المزيد والمالطى يرفض الدفع، ودون مقدمات أخرج المالطى خنجراً وطعن عم سيد العجان فسقط قتيلاً فى الحال. رأى أبناء البلد ما جرى فثارت الدماء فى عروقهم. أسرعوا نحو المالطى ليمسكوا به لكنه فر إلى منزل قريب. وأطل المالطيون واليونانيون من البيوت المجاورة وراحوا يطلقون النار على المصريين. سقط بعض القتلي. انتشر الخبر بسرعة فى المدينة بأن الأجانب يطلقون النار على المصريين. هاج المصريون. فتكوا بكل من صادفهم من الأجانب، واستمر الأجانب يطلقون النيران. انتقل مستر كوكسن لمكان الحادث فأصابه الأهالى الثائرون بجراح شديدة، كما أصيب قنصل إيطاليا وقنصل اليونان فى هذا اليوم. ويُلمّح عرابى فى مذكراته إلى أنه كان هناك تواطؤ بين المحافظ عمر لطفى ومأمورالضبطية السيد بك قنديل من ناحية وبين الإنجليز من ناحية أخرى. وكانت الحصيلة مفجعة، يقدرها عرابى بمائة من الوطنيين ومثلهم من الأجانب، ويقدرهم الرافعى بأقل من ذلك. المهم أن الإنجليز وجدوا المبرر الذى يستخدمونه لإقناع أوروبا بانعدام الأمن فى مصر.


الحرب
إنجلترا قالت: المصريون يرممون الطوابى المواجهة للأسطول الإنجليزى ويزودونها بالمدافع وهذا تهديد للأسطول الإنجليزى. قال المصريون: نحن لم نزود عدد المدافع، وسنوقف الترميم. حينئذ كتب قائد الأسطول الإنجليزى لقومندان اسكندرية يقول إنه سيضرب الإسكندرية إذا لم يوقف المصريون عمل الاستحكامات فى مواجهة الأسطول، وبالفعل ضربوا الإسكندرية يوم 11 يوليو 1882. وكان الخديوى يعرف بموعد الضرب ولجأ للإنجليز لحمايته.
الحرب خدعة

 


كان عرابى يرى أن الإنجليز لن يجرؤ على استخدام قناة السويس لمهاجمته من الشرق، وصدّق ديليسبس حين وعده بعدم السماح للإنجليز باستخدام القناة، لهذا ركز جهده على الجبهة الغربية، فى كفر الدوار، واستطاع أن ينزل الهزائم بالجيش الإنجليزى. لكن الإنجليز كانوا يصرفون نظره عن وجهتهم الحقيقية باشتباكات كفر الدوار، وقاموا بالهجوم من الشرق، وسمح لهم ديليسبس باستخدام القناة، فكانت المفاجأة، وكانت الهزيمة فى التل الكبير.

 

 

الكلمات الدالة

مشاركه الخبر :

 
 
 
 
 
 
 
 

 
 
 

 
 
 

مشاركة