الذكرى الثامنة لساحر الكلمة الساخر
الذكرى الثامنة لساحر الكلمة الساخر


كنوز| الذكرى الثامنة لساحر الكلمة الساخرة.. المصريون أكثر شعوب الأرض عشقاً للصوت العالى

عاطف النمر

الأربعاء، 14 سبتمبر 2022 - 05:50 م

دع زوجتك «تبرطم» التنفيس ضرورى، والحكمة تقول «التنفيس خير لك من أن توضع فى الكيس».

8 سنوات غابت عنا خلالها كلماته الساخرة الرشيقة القصيرة المؤثرة الموجعة لمن كان ينتقدهم ويسخر منهم، منذ 12 سبتمبر 2014 ونحن نتشوق لـ «نص كلمة» التى كان يكتبها صباح كل يوم لجريدتنا الغراء «الأخبار».

8 سنوات ونحن نبحث عن إبداعات الساخر العملاق أحمد رجب فلا نجدها إلا فى المناسبات، وما تركه للمكتبة الساخرة العربية من مؤلفات ستظل باقية وحية وممتعة، وما نشاهده من أعمال كتب لها القصة والسيناريو والحوار فى السينما، أو الأفلام التليفزيونية التى نقلت عن إبداعه القصصى الساخر، شرفت بمقابلته مرة واحدة عندما أجريت معه حوارا حول بعض المسرحيات التى أعُدت عن كتاباته، وعرفت الكثير عنه من خازن أسراره الفنان القدير مصطفى حسين خلال 6 أيام حضرنا خلالها فعاليات مؤتمرالإعلام العربى بالأردن ـ عرفت ـ

الكثير والكثير نُشر عن سيرته وحكاياته ومقالبه وحواديته، لكنى أرى أن قيمة أحمد رجب الحقيقية التى نقدمها للشباب وقراء «كنوز» هى ما خطه بقلمه، وما تناوله بأسلوبه السهل الممتنع من قضايا يصعب أن يناقشها أحد غيره بنفس شجاعته، لهذا نكتفى بإعادة نشر بعض ما كتبه، ويأخذنى الانتقاء إلى مقال مهم على يمين الصفحة بعنوان «الجنيه المجيدى» الذى يسخر فيه بمرارة من البيروقراطية الحكومية المقيتة الساكنة فى أضابير التاريخ، وأسفل هذه المقدمة مقال يقطر سخرية وانتقادا للضجيج والصخب والصوت العالى الذى نتميز به دون شعوب الدنيا، كل شىء فى حياتنا صراخ فى صراخ، ومقال آخر يتناول فيه بسخرية شديدة ذكاء المرأة الذى تسيطر به على الرجل سيطرة أبدية، فهيا نستمتع ونحن نذكره بالرحمة .

نحن ناس كلنا عواطف وتعاطف ولفرط حرارة عواطفنا لا نجد ترجمة لمشاعرنا إلا بالصوت العالى «أهلا وسلامات واتفضل وألف مبروك وخطوة عزيزة»، فى العاطفة الراضية أو الانفعال الغاضب نعمد إلى رفع الصوت، وكلما كان الصوت أكثر ارتفاعاً شعرنا أن الترجمة أكثر صدقاً لمشاعرنا، حتى الأعمال الشاقة التى نقوم بها لابد أن نقرنها بالصوت العالى: «هيلا هيلا.. يا مهون هون».

ولسبب يتعلق باختفاء مبيد الذباب نقول للذباب «هش» مع أنه لا يسمع هش ولا ينش، حتى الزوج يضطر أحياناً إلى الصراخ المتواصل دون أن تسمعه زوجته لأن المرأة لا تستعمل أذنيها إلا لتعليق الحلقان !

وبسبب الصوت العالى أصبحت بيوتنا بلا جدران فمن العسير عليك مثلا فى أوروبا أن تعرف ما يدور فى مسكن الجار الملاصق لك، لكن زغرودة تنطلق من بيت عبد العزيز فى أول الشارع الذى تسكن به تعرف على إثرها أن الشاهد الوحيد فى قضية رشوة عبدالعزيز قد مات متأثراً بركوب قطار تصادم مع قطارآخر، وتستطيع وأنت فى فراشك ساعة القيلولة ان تعرف أن عبد العزيز - سادس جار - قد اشترى سيارة، وبدأ يتدرب على أهم مرحلة فى قيادة السيارات فاشترى من وكالة البلح كلاكس وراح يتعلم الضرب عليه فى شقته، ويمكنك وأنت فى فراشك أن تتابع تطورات ماتش كورة دون تليفزيون فى الغرفة أو راديو، فأجهزة تليفزيون الجيران تقوم وحدها بكل العمل ومنها تعرف اللحظة التى ظهرت فيها أعراض العبط على حكم المباراة، وتتابع صوت المعلق الرياضى وهو يصف الكرة وقد صدها حارس المرمي.

وما تلبث أن تأسف لضعف نظر المعلق الرياضى الذى يقول: «دلوقت ح نعرف حالا اللى صدها دى كورة ولا طوبة»، فإذا انتهت المباراة أتيح لك أن تقف على المناقشة المحتدمة فى بيت خامس جارعندما تسمعه وهو يحسم الأمر بين أولاده فيقرر أن البلوزتين لماجدة وقطعتى القماش لعايدة، والقطعة الغامقة للأم والخلاط لأخته خديجة والبنطلونات والقمصان لنبيل، على ان ينتظر ابنه الآخر لبكرة حتى يجد له بنطلونات وقمصان مقاسه، وهنا تسمع طلبات ملابس جديدة من ماجدة وعايدة ونبيل فتشفق حقاً على هذا الجار المسكين الذى يعمل موظفاً فى مخزن طرود المطار، والغريب أن الوافد على بلدنا لا يمكن أن يشعر بالوحدة أبدا فنحن معه دائما داخل مسكنه نؤنس وحدته بأصواتنا المترامية إليه من بيوتنا وشوارعنا.

ومنهم الخبير الألمانى «الهر شموخلر» الذى كان يسكن العمارة معنا ذات يوم ففى اليوم التالى لسكنه طاف بشققنا مستأذنا فى إقامة حفل استقبال بشقته مستفسراً منا فى أدب عما إذا كان يزعج أحداً منا أن يستمر الحفل الى الحادية عشرة مساء؟.. شوف الراجل اللى على نياته ! طبعاً قلنا له إنه يسعدنا أن يستمتع بمناسبته السعيدة فى أى وقت يشاء فدهُش الخبير الشاب لهذه السماحة المصرية وشكرنا كثيراً وما إن انتهى الحفل فى بيته حتى دوت مكبرات الصوت فى فضاء المنطقة: «آلو آلو.. محلات أفراح المدينة.. واحد .. اتنين.. ثلاثة.. اربعة.. عشرة».

وبدأ الفرح السعيد بأغنية «العب يا سمك وارقص بحنان» وكم أبدعت ولعلعت فيها الأسطى «فايقة العايقة» ثم توالت الليالى والمواويل من المطرب الصاعد «أحمد بنجر» ومضت ساعات الليل وليلة الأنس منصوبة. 

وسمعت «الهر شموخلر» يحاول محادثة البواب مستفسراً فى استنكار عن هذه الجريمة التعذيبية البشعة، فقلت له: إن هذه ليست جريمة يا سيدى ولكن من عاداتنا الحميدة أن نشارك بعضنا البعض فى الأفراح والمآتم بالسماع الميكروفونى ثم لا تحاول الاستعانة بالشرطة فإننا هنا فى الجيزة وهذا الفرح خارج اختصاص شرطة الجيزة لأنه فى شبرا وهى بعيدة جداً، فسألنى الرجل التكنولوجى عن المسافة بين الجيزة وشبرا بالهليكوبتر فقلت له نصف الساعة - أى كلام طبعاً - وهنا رفع حاجبيه فى دهشة لأن الصوت يصل فى دوى رهيب فشرحت له أن من شروط الزواج عندنا أن يتوافر فيه ركن العلانية وأن يعرف كافة الناس فى الجمهورية أن حسن قد تزوج نعيمة ولهذا يقيم أصحاب الفرح محطات لتقوية الإرسال العوالمى حتى يعرف الناس من اسكندرية لأسوان أن نعيمة أصبحت مدام حسن !

غير أن ما أسعدنى حقاً المفاجأة التى صحوت عليها لأسمع «شموخلر» يغنى فى الحمام بصوت عال جداً وبالعربى: «فى يوم.. فى شخر.. فى سنة فى يوم فى شخر فى سنة»، وعرفت أنه قد تعلم الأغنية من راديو الجيران وحمدت الله ان «شموخلر» أصبح واحدا منا ولم يعد مخلوقاً نشازاً بيننا وشرحت له أن ما يردده الباعة الجائلون هو تعبيرات صوتية يتغزل بها البائع الذى يقلق راحته، فيتغزل فى البامية: «يا رفيعة وحلوة يا بامية»، ويقول للقوطة: «يا ورد يا خد الجميل يا قوطة»، ويتغزل فى ثمرة الخيار: «يا خيار النيل يا صغير يا لوبيا»، وأدرك «شموخلر» فداحة الخطأ الذى وقع فيه وأصبح يطرب طرباً شديداً عندما يعزف بائع البلح الأمهات كونشرتو: «ولا تين ولا عنب زيك يا بير العسل»، وأصبح يغنى فى الحمام: «يا بير الأسل.. يا بير الأسل»، وعندما ذهب إلى ألمانيا وطالت غيبته سألت عنه زوجته فقالت لى: إن حكما صدر عليه بالحبس لإقلاق راحة جيرانه !


أحمد رجب من كتاب «كلام فارغ» 
 

إقرأ أيضاً|8 سنوات على الغياب .. ماذا قال محبو الساخر الكبير أحمد رجب في ذكرى رحيله؟

 

 


الكلمات الدالة

 

 

 
 
 
 
 
 
 

مشاركة