حسن عبد الموجود يكتب :عزت القمحاوي المعلم
حسن عبد الموجود يكتب :عزت القمحاوي المعلم


حسن عبد الموجود يكتب :عزت القمحاوي المعلم

أخبار الأدب

السبت، 17 سبتمبر 2022 - 01:34 م

فى الطابق الخامس كان مخرجاً فنياً. يمسك بالمسطرة والقلم الرصاص، يحدد مساحة الأخبار والموضوعات ويرسمها، وفى الطابق الثامن يصبح محرراً ثقافياً ومسئولاً فى أخبار الأدب.

إن كان هناك خيط يلضم شهادات المشاركين فى هذا الملف فهو التأكيد على فرادة عزت القمحاوى فى الصحافة والأدب، فقد جعل المسافة بين الاثنين ضئيلة للغاية، مرتفعاً بمستوى المقال والبورتريه إلى حدود الأدب.
يحق لعزت الذى تجاوز عامه الستين بشهور أن ينظر خلفه برضى، إذ يمتلك فى مكتبته عدداً من الروايات والقصص والنصوص المفتوحة والبورتريهات جعلته واحداً من أهم كتاب العربية فى الوقت الراهن. ظل يراكم مشروعه بتأنٍ وصبر، فلم يكتب على سطر ويترك سطراً، وبذلك فقد حافظ على مستوى يميزه على مدار أربعين عاماً.
هذا البستان هو محاولة للاقتراب من عقل وروح عزت القمحاوى ومحاولة لتحيته كما يستحق وكما يجب، وقد وجد لحسن الحظ من يقول له شكراً أخيراً، حيث حصل على جائزة سمير قصير 
هذا العام.

 

فى أحد أيام شهر ديسمبر 98 رأيتُ عزت القمحاوى يخطو داخل صالة تحرير أخبار الأدب» فى الطابق الثامن من المبنى الصحفى لمؤسسة أخبار اليوم. كانت الصالة مزدحمة وانشغل بالحديث مع بعض الزملاء ثم جلس خلف مكتبٍ فتقدمت إليه وعرفته بنفسى. كنت قد التحقت بالجريدة منذ أيام، وعاملنى بطريقة مشجعة.


كان فى السابعة والثلاثين من عمره، شعره فاحم السواد، ومع هذا رأيته كبيراً، ربما بسبب قشرة وقار تكسو وجهه وتميز مشيته وحركات يديه، وربما بسبب سماعى عنه الكثير قبل مقابلتى له. كان شاباً متحققاً، يعاملونه كصحفى وكاتب كبير.

وكنت قد قرأت له بضع مقالات وعروض كتب فى أخبار الأدب قبل التحاقى بالجريدة، لكننى أصبحت فجأة فى قلب المطبخ الصحفى، ورأيت من قريب كيف يجيد هذا الطاهى صناعة طبق جميل من مكونات ممتازة أو حتى من بضع مقادير غير كافية أو بها الكثير من الشوائب. 


كان يجلس أمامى بالساعات. يضعون أمامه الأخبار فينهمك فى تحريرها، كان أنيقاً حتى فى شطبه على بعض الكلمات. يضع خطاً مائلاً رقيقاً على الكلمة المشطوبة، ويكتب بخط واثق الكلمة البديلة، فتشعر كأنها الطوبة المناسبة للجدار. أحياناً يقنص العنوان بمجرد قراءة سطور، وأحياناً ينتظر حتى آخر سطر ليُخرج ماسته من كومة كلمات مشطوبة، أو متناثرة وضعها كبدائل لها، فى بالونات صنعها فى الهوامش الفارغة، على جانبى الصفحة.


بدأت فى تقليده، أنصتُ لكل حرف يقوله، ونفذت ما يطلب منى. لا تبدأ باقتباس، لا تضع علامة استفهام فى عنوان خبر إلا للضرورة. لا تكتب فعلى مضارع متتاليين، ابدأ بالمهم حتى يمكن الاختصار من آخر الخبر، واحرص على أن يكون العنوان من بدايات الخبر حتى لا تختصر النهايات فتختصر معها فحوى العنوان.


لم يتوقف عن إسداء النصح لى بهدوء وبدون رغبة فى الأستاذية. أجلس فى مكتبه منتظراً أن يقرأ ما أكتبه ويبدأ فى تعديل بعض الكلمات وأحياناً التدخل فى العنوان، لكن تدخلاته صارت تقل تدريجياً، وكنت أفرح بشكل حقيقى حينما يترك عنوانى كما هو. لم يكن كثير الثناء، لذلك أصبحت عبارات الإشادة القليلة المتناثرة على سنوات ذات معنى كبير بالنسبة لى، خاصة حينما اختار أن يشيد بعنوان كتبته أمام الأستاذ جمال الغيطانى


كان أمامنا عمرٌ لنقضيه سوياً فى صالة التحرير، لكنى حينما رأيته لأول مرة كنت أفكر فى اللحظة التى بدأ فيها هو طريقه فى الصحافة والأدب.وفى مرحلة الثانوية العامة كتب عزت القمحاوى موضوعات قصيرة تتعلق بالأفلام والمسلسلات والكتب وأرسلها إلى الصحف المختلفة. قابل فى هذه الأثناء معلم اللغة العربية محمد جميل فشجعه على دخول كلية الإعلام.

وكانت هذه هى المرة الأولى التى يعرف بتلك الكلية، خاصة وأنه لم يكن قد مر كثير على إنشائها، إذ بدأت كمعهد عام 70، أى أنه لم يكن قد مضى على وجودها تسع سنوات. يقول: «كان دخول كلية الإعلام خياراً خطراً، الصحافة قد تفيد الكاتب وقد تكون أخطر المهن على موهبته».


التحق بجريدة الجمهورية بمجرد دخوله كلية الإعلام، بعدما كان يراسلها وهو طالب فى الثانوية العامة. أمضى بها سنوات الجامعة، كما عمل كذلك فى جريدة الأحرار، وبعد التخرج التحق بمؤسسة أخبار اليوم. التدريب المبكر مع صحافة كانت نشطة فى هذا التوقيت- منحه بداية قوية، لكن الأثر الكبير فى مسيرته يعود إلى أستاذين. أولهما هو «متصوف المهنة» الأستاذ عبد الوارث الدسوقى: «هو شخصية صحفية وفكرية فذة، أجاد التخطيط للصحف، لكنه زهد فى التوقيع، فلم يوقع باسمه على موضوع أبداً. لم يكن أستاذاً فى المهنة فقط، وإنما أستاذ فى الفكر. استوعب كل الاختلافات».

 


الدسوقى كان من أقرب الناس لشيخ الأزهر والبابا، وهو أول من ابتدع الاحتفال بعيد الميلاد المجيد فى الصحافة المصرية، وأول من منح عزت القمحاوى فرصة لكتابة نص صحفى أقرب إلى الأدب. ترك له صفحة رمضان فى جريدة الأخبار كاملة ليكتب فيها قصصاً إنسانية عن أشخاص تضطرهم ظروف عملهم إلى الإفطار فى القطار، أو فى الشارع، مثل عمال اليومية. اغتنم القمحاوى الفرصة، وكتب تلك القصص بروح الأديب كأنه صاحب خبرة طويلة. أجاد، وسمع الكثير من الثناء.


الأستاذ الثانى هو وجيه أبو ذكرى. يقول القمحاوى: «كل أبناء المهنة يستطيعون تمييز أيام مسئوليته عن صحيفة الأخبار بالعناوين والقصص الإنسانية المميزة فى الصفحة الأولى». كان أبو ذكرى يعيد صياغة المواد ويترك توقيع المحررين عليها.

ومنح عزت القمحاوى مساحة كبيرة للاقتراح والتجريب. كان يضع أمامه الصفحات ويطلب منه أن ينفذ الاختصارات. كان عزت فى ذلك الوقت مخرجاً فنياً، وإذا لم يتطوع بإعادة صياغة كان أبو ذكرى يطلبها منه بأبوية واضحة ورغبة فى التعليم ونقل الخبرة.


لسنوات كان عزت القمحاوى يعمل بين الطابقين الخامس والثامن. فى الطابق الخامس كان مخرجاً فنياً. يمسك بالمسطرة والقلم الرصاص، يحدد مساحة الأخبار والموضوعات ويرسمها، وفى الطابق الثامن يصبح محرراً ثقافياً ومسئولاً فى أخبار الأدب: «العمل فى الإخراج شاق إلى حد ما، المخرج الصحفى جندى مجهول، لكنه مطلوب للعمل دون الحاجة إلى وساطات.

وكان قسماً غير مرغوب، لكنه ناسبنى من زاويتين، أنه يمنحك القدرة على التجديد. كما أن المخرج الصحفى ليس تحت الطلب طول الوقت من مصادره، وكذلك ناسب طبيعتى المحبة للعزلة، بينما يحتاج المحرر إلى علاقات ومصادر. أنا لم أعمل فى أى جريدة إلا وكتبت فيها مقال رأى، أى أننى بدأت السلم من آخره ولم أعمل مندوباً لجلب الأخبار».


أتاح العمل كمخرج فنى لعزت إمكانية الاطلاع على عناوين ومتون الآخرين، كان كل شىء يتم على الورق، تعديل الكلمات والعناوين وشطب الفقرات غير الملائمة. لم تكن المسألة كهذه الأيام تتم على الكمبيوتر، فتخرج الأوراق فى النهاية منمقة وأنيقة، وإنما كانت الصفحات تشبه الخرائط القديمة من كثرة الخطوط الصاعدة والنازلة. كان الأمر أقرب إلى ورشة صحفية، منحت القمحاوى خبرة كبيرة فى وزن الكلمات.


مدرسة الجمهورية لم تكن مختلفة كثيراً عن مدرسة الأخبار. قادها محسن محمد أحد فرسان الأخبار، كما كان كثير من الصحفيين فى الجمهورية خريجى كلية الإعلام من الدفعات السابقة لعزت، وبالتالى تميزت الجريدة بحيوية كبيرة مصدرها عدد الشباب: «الأمر فى الأخبار اختلف قليلاً بوجود أساتذة قدامى، فبالإضافة إلى عبد الوارث الدسوقى ووجيه أبو ذكرى كان هناك جلال الدين الحمامصى الذى كتب فى التنظير للصحافة ما لم يتجاوزه أحد إلى الآن».


البدء من المقال حقق للقمحاوى الرضا: «عندما ترى وأنت فى عمر العشرين صفحة الرأى فى صحيفة يومية مقسومة طولياً بينك وبين أبو الصحافة حافظ محمود فهذا بالتأكيد يشعرك بالتحقق، ومنحنى الفرصة للتأنى قبل الظهور الأدبى. أحسست أنى مولود بهذه الصيغة الصحفية الأدبية». 


جرب القمحاوى النشر فى صحيفة «الأسبوع الأدبى» السورية أواخر عام 87، ثم نشر قصة فى مجلة «الهلال»، ثم قصة قصيرة جداً فى «الأخبار»، ثم كانت المجموعة الأولى «حدث فى بلاد التراب والطين». فى نقده لها كتب الدكتور سيد حامد النساج فى مجلة «إبداع» أنها ليست كالمجموعات الأولى وإنما هى كتابة شخص جاد ومتمرس، ثم عاد وقرأ ما كتبه عنه فى الإذاعة.


أول من شجعه جمال الغيطانى ثم محمد البساطى وعبد الفتاح الجمل أستاذ جيل الستينيات: «الستينيون احتضنونى، منحونى مساحة صداقة كبيرة، ولم يشعرونى بأننى غريب عنهم، ولم يعاملونى بفارق السن. كنت أمازح البساطى بأننى مواليد الستينيات، أى أننى منهم، وكان يضحك ويقول لى: صحيح هم ولدوا فى الستينيات كُتابًا وأنا ولدت فيها».


مد عزت القمحاوى أواصر الصداقة بكثيرين عربياً، والسبب الأساسى ضيقه من اتهام المصريين بالشوفونية، عزت رأى أن هذا الاتهام غير صحيح، وأن هناك سبباً آخر يجعل المصرى لا يهتم بغيره. وهو أن عدد الأعمال المطروحة لأشخاص يعرفهم حوله كبير: «عملت مبكراً خارج مصر.

وسافرت من الأخبار إلى قطر عام 87 ومكثت فيها حتى عام 92، أسهمت فى تأسيس جريدة الشرق، وكنت مسئولاً إلى جانب الإخراج الصحفى للجريدة عن الصفحة الثقافية واستكتبت عدداً كبيراً من أدباء العالم العربى، ومن هناك استكتبت السورى حنا عبود.

وزاملت رياض عصمت الذى أصبح وزيراً للثقافة فى سوريا، وبعد عودتى من السفر كان تأسيس أخبار الأدب كذلك فرصة للتعرف على عدد أكبر من الكتَّاب العرب، فهو إجمالاً كان توجهاً فى ذهنى بالانفتاح، والظروف ساعدت على ذلك».


لا يفرط عزت فى صداقاته أبداً. كل الأخطاء عند الأصدقاء مغفورة طالما لم تدخل مرحلة القصدية والأذى، ولو حدثت هذه القصدية فهو يعتبر أنه لم يقابل الشخص بالمرة: «أغلق الملف وأحترم كل الخبرات الجيدة السابقة».
يهرب عزت دائماً من تجمعات المثقفين، فهو مثلاً لا يعتقد أن الندوات وسيلة لنقل المعرفة، وإنما أهم ما فيها هو اللقاء بعد جلسات المنصات. يشعر فى الندوات بأنه يمسك بـ«سلك عريان».

ولكن تلك اللقاءات قد تقوده إلى السفر ورؤية مدن ومعمار وشوارع جميلة وثقافات مختلفة: «أول ما يمنحه السفر هو التواضع، كما أن رؤية أوطان الآخرين تسقط ثلاثة أرباع الأغانى الوطنية، السفر لا يمنحك التواضع فقط وإنما المعرفة، معرفة أن هناك تجارب أخرى مهمة فى الحياة».


قراءات عزت كانت عشوائية جداً، فطفل الريف بتعبيره ليس لديه فرصة التدرج فى القراءة. ولن يُحضِر له أحد فى عيد الميلاد قصة. كان يقرأ أى كتاب يقع فى يده فوراً وهى العادة التى يتمسك بها إلى الآن. القراءات الأولى لم تكن منظمة أو مخططة، ولم تكن هناك وفرة من الكتب، ولذلك لا يعرف من أين جاءه الولع بالقراءة.


حينما شعر عزت أنه يخجل من الحضور العام اكتشف أن تسعين بالمائة من الكتَّاب يشبهونه، ومن استسلم للصخب تضرر: «كنت طفلاً غير نشط، وأحب أن أكون دائماً بالقرب من الكبار. قدمى لم يكن باستطاعتها قذف الكرة لأبعد من ثلاثة أمتار، وقد ملت للعزلة أيضاً فى بعض الأوقات».


يحب القمحاوى كثيراً من المتعارضات أو الاشياء التى لا يمكن أن تجتمع فى سلة واحدة ولا تشكل ذائقة بعينها: «لا أظن أن هناك كثيرين يجمعون بين حب مارسيل بروست ودستويفسكى، وربما حب المتعارضات حمانى من الأثر المباشر لأى كاتب، سواء هذين الاثنين أو غيرهما. قرأت محفوظ فى سن الثانية عشرة.

وبعد ذلك بسنوات طويلة اكتشفت أنه ليس كاتباً هيناً، وقد بدأت فى الاعتذار له. وأظن أننى سأظل مديناً بالاعتذار له ما تبقى من عمرى، من خلال التقليب فى طبقات أعماله. عظمة محفوظ أنه يعطى كل قارئ ما يريده، فأنا أخذت منه الحكاية فى المرحلة الأولى المبكرة جداً.

والغريب أنه عاش دون رغبة أو فضول لتفسير نفسه، حتى أنه استقبل ببساطة التفسيرات السينمائية لأعماله برضى، لكن مداورة القراءة له تكشف أبعاد وفلسفة أعماله كما تكشف السمات اللغوية لها. على سبيل المثال احتاج الموضوع ثلاث قراءات للحرافيش حتى أصل لحجم استخدام محفوظ للسجع التوراتى».


الصحافة بالنسبة للأدب نوع من السلطة. يصف القمحاوى الصحافة بـ«نمر»، إما تتوازن على ظهره وإما يلقيك على الأرض فتصبح بين مخالبه: «كادت الصحافة أن تأكلنى فى فترة تأسيس أخبار الأدب، بدليل أن المسافة بين أول عملين لى «حدث فى بلاد التراب والطين» و«مدينة اللذة» أكثر من خمس سنوات، ثم شعرت أننى يجب أن أكون واعياً بوقت الكاتب، وطبعاً أخبار الأدب كانت عتبة جيدة، فلم يكن مطلوباً فيها الكتابة بلغة الصحافة اليومية.

وأنا فعلاً ممتن لكل من ضيَّقوا علىَّ فى الصحيفة اليومية لأنهم جعلونى ألجأ لصحافة دولية أكثر عمقاً مثل الحياة. كان مهماً اللجوء إلى صحيفة عربية تراعى من خلالها جمهورك العربى، ففى وعيى استقر أننا فى مصر جزء من أدب أوسع».


أكثر شىء يسعى إليه عزت هو راحته: «أختار أن أكون مهزوماً فى أى صراع، أُقدِمُ على ذلك برحابة صدر حقيقية، فما يهمنى هو توفير الوقت الذى كان سيضيع فى الصراع. أعرف فى كل يوم جديد أن علىَّ أن أقرأ وأن أكتب ولهذا لا وقت للتفاهات، الكتابة فيها وظيفة من وظائف الخالق ولا يمكن إهمالها، حينما أرى شراً يُمارس ضدى أخلع نفسى من المشهد وأشعر أن الأشرار منحونى خبرة كتابة جيدة. التاريخ الأدبى مهم حتى وإن كان غير مكتوب. لقد تيقنتُ مبكرًا من عدم جدوى ركض الكاتب وراء كتابته لفرضها. فى تاريخ الأدب هناك الكثير من المشاريع انحدرت بسبب هرولة أصحابها خلف ما لا يُجدى».

اقرأ ايضا | عزت القمحاوي في ضيافة «ليالي»..الأربعاء 

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة