محمد عبد النبى يكتب : مُدن اللذات
محمد عبد النبى يكتب : مُدن اللذات


محمد عبد النبى يكتب : مُدن اللذات

أخبار الأدب

السبت، 17 سبتمبر 2022 - 02:25 م

مدينة اللذة هى كل مدينة عصرية تتمتع بقدر من الرفاهية، فى الشرق أو فى الغرب، أو هى الحلم الأشد جموحًا لمجتمع الاستهلاك، بعد أن تبوخَ كل متعة أخرى ولا يتبقى إلَّا استهلاك الجسد للجسد الآخَر

«انجُ بنفسِك، لذة هذه المدينة ظمأٌ لا يرتوى، احتراقٌ لا يبرد، ليست لذة، إنها العذاب.. مِن السهل أن تَدخل قصر امرأة شَبقة، ولكن سيُلقى بك فى اليوم الأوَّل من شيخوختك، عاريًا، تعانى بؤس الوِحدة». 
هذه نصيحة شيخٌ لشاب، فى الصفحة الأخيرة من أولى روايات الأستاذ عزت القمحاوى، الصادرة عام 1997 عن إحدى سلاسل الهيئة العامة لقصور الثقافة. 


نصيحة مجرّب لمبتدئ، لمَن أفنته سنوات السَفر ومضغته المغامرة وضعضعه الشبق لفتى لم يزل بخيره ينتظر ويترقب ويتلهف، وإنَّا لا ندرى إن كان سيأخذ الشاب بهذه النصيحة أم سيعيد من جديد سيرة الشيخ ليحوذ ما يجعله جديرًا بنُصح الآخرين فى لحظةٍ ما. 


عند صدور الرواية، كنت فى بداية المرحلة الجامعية، أتابع باهتمام عناوين السلاسل الأدبية المنتظمة. لم أزل أملك النسخة القديمة من الرواية، سعرها خمسون قرشاً بحالها. الآن أتصفحها، ثم أعيد قراءتها بعد نحو ربع قرن من قراءتها الأولى، بعينٍ على الشاب المودّع وعينٍ على الشيخ الوشيك، بصنف خبرة ونصف براءة. أكتشف أننى أكاد أنسى كل تفاصيل العَمل تقريبًا، رغم السِحر الذى أحاطَ بالقارئ الشاب آنذاك. لم أزل أحتفظ فقط بالجو العام ونِتَف أفكار، وبعض المجازات مثل الهلال والسِلاح تعبيرًا عن عضوى الأنوثة والذكورة. 


يخاطبكَ الراوى مباشرةً، بوصفك صديقاً، أو بوصفك قارئاً، أو بوصفك انعكاس مرآة له فكأنما يحدّث نفسه. فى هذا حميمية زائدة عن الحد، تكاد تكون خَطرة. السطر الأخير من الرواية يوحى بذلك، حيث يمكن فى لحظة عابرة وعادية، مثل تبادُل قبلة بريئة على الوجنتين بين شيخٍ وشاب، أن تختلط الأماكن والأدوار والهويات، ويصير الشاب الوافد جديدًا إلى مدينة اللذة شيخًا فانيًا فى لمح البصر: 
«وسيشد على يدك طويلًا ويجذبك أكثر ليقبّلك إذ يتأهّب للانصراف فاحترس، لأنه فى تلك اللحظة قد لا يعرف أيكما هو». 


وفى طبعة أحدث من الرواية نفسها، تتبدّل صيغة العبارة الأخيرة إلى : «لأنه فى تلك اللحظة لن يعرف أيكما هو». متى حدث هذا؟ متى أتى هذا اليقين الحاسِم بأن الشيخ سوف يختلط عليه الأمر، بأنَّ الشيخ لا يريد إلَّا أن يسلب الشاب عذريته وبراءته وانعدام خبرته؟ 

ليس ثمة حكاية بالمعنى المألوف، أو على الأقل حكاية كُبرى تنتظم بداخلها فصول العَمل القصيرة، بل البنية أقرب إلى لوحات سردية متتابعة، متصلة ومنفصلة، على غرار أعمال جميلة سابقة مثل «صح النوم» ليحيى حقى و«وردية ليل» لإبراهيم أصلان. يمت هذا الشكل بقرابة واضحة إلى المتتالية القصصية، لكنه فى اعتماد وتواشج أجزائه معًا أخلص للرواية الحرَّة من أغلال الحَبكة، والطَموح إلى انفتاح رَحب من الحكايات المتجاورة والمتداخلة، بحيث تظل لكل قِطعة قيمتها الجمالية وحضورها المستقل، مهما أوحى البناء الكلّى بشىء مِن تتابُع زَمنى وتحوّلات مصائر. 


الحكايات المؤسسة للمدينة تستلهم التراث الدينى حينًا، عبر قصة سليمان النبى والملك وآمِر الجِن والطير والحيوان، وتحيل حينًا آخَر إلى أجواء من ألف ليلة وليلة، لكنها فى نهاية الأمر تشيد متاهتها الخاصة من الرموز والتأويلات والروايات المتناقلة، فى محاولة تفسير ظاهرة أو أثر أو تَقليد عتيق داخل مدينة اللذة. 


أحيانًا تتفتت بين الأصابع كل تلك التفسيرات هباءً منثورًا، ليبقى اللغز قائمًا كما كان فى أوَّل الأمر. لغز المدينة؟ لغز الوجود؟ مَن يدرى؟ فى مستوى ما من التأويلات، لا يصعب أن نرى ظلالًا مِن صور بعض المدن العربية فى منطقة الخليج، حيث الرفاهية الخرافية مكرسة للذة أهلها، وحيث لا سقف للذة إلَّا حدود الخيال.

ويشتد عودُ هذا المستوى تدريجيًا حتَّى يهيمن تمامًا فى الصفحات الأخيرة، خاصة بعد انتقالنا مع الراوي-المرشد إلى المدينة الصدى، حيث الظلال المحرومة والجائعة، الأقرب إلى الجِن المستَعبدين، وحيث تُطبَخ، إلى جانب طعام السادة، الشهوات الحبيسة فى الصمت والخفاء والعزلة.


يمكن أيضًا أن تكون مدينة اللذة هى كل مدينة عصرية تتمتع بقدر من الرفاهية، فى الشرق أو فى الغرب، أو هى الحلم الأشد جموحًا لمجتمع الاستهلاك، بعد أن تبوخَ كل متعة أخرى ولا يتبقى إلَّا استهلاك الجسد للجسد الآخَر، بكل طريقة ووسيلة وأسلوب. أمَّا العواطف غير الملوثة بالشهوة المجانية فهى تبدو غرابة لا مكان لها، وإذًا فَلا بدَّ مِن أن تُحجَب أو توأد أو تحبَس فى متاهة.

 
قد تكون المدينة أيضًا مجرد حُلم ذُكورى بتحويل جميع مفردات الواقع إلى ماكينة عملاقة لتحقيق اللذة، لا يعكّر صفوه فيه غير وجود شريكة حيَّة له فى تلك الوليمة، شريكة قد تُطالبُ بنصيبٍ من المتعة وقد تتجاسَر وترفض أو تُعرض أو تطلبُ شيئًا غير متوفِر على قائمة رغباته. 


إذًا هى ليست مدينة واحدة للذة، بل مدن للذات، تكاد تكون كل واحدة منها صورة طيفية لطموح ما، حسى أو فِكرى. كل صورة تحيل لأخرى سابقة أو لاحقة، تحيل لذكرى إنسانية أو لشوقٍ مستحيل نحو ارتواء نهائى لا يظمأ بعده المرء أبدًا، شوق لنقطة ختام تكاد تشبه الموت. 

ثمة مدينة لم تَظهر فى كل الصور المعروضة هنا للذة، على الرغم مِن أنها ربما تكون الأصل وراء كل تلك الصور، هى مدينة الكتابة، الكتابة بوصفها لذة، لذة خَلق مِن العدم، أو من الماء والطين، أو من أطياف صور وفتات أفكار وأضغاث أحلام. لذة تسعى للاستجلاء والإبهام معًا، لذة تشيد بقدر ما تقوض، هى اللذة نفسها التى اندفعَ خلفها الأستاذ عزت القمحاوى، فى هذا الكتاب الصغير الجميل.

ومِن بعد ذلك على مدى أكثر من عشرين عامًا تالية، فى مدينة وراء أخرى، وكتاب وراء آخر، كل يعد بلذة مختلفة، لا يكاد يستقر بها على شكل أو نوع أو منزل أو بناء. سَفَرٌ حُر بين أقاليم اللذات وصورها، والجميل أن اللذات فى مدن الكتابة لا تفنى ولا أوّل لها ولا آخِر، فقط لمَن يترك نفسه لها تفعل به ما تشاء.

اقرأ ايضا | عبد الله ناصر يكتب: الكتابة لوجه الجمال

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة