مع يوسف شاهين، محاورًا
مع يوسف شاهين، محاورًا


ميرال الطحاوى تكتب: لذة البحث عن العمق

أخبار الأدب

السبت، 17 سبتمبر 2022 - 02:36 م

 

أعرف عزت القمحاوى منذ وطأت قدماى تلك المدينة الكبيرة وربما قبلها، قدَّمنى إليه الصديق يوسف أبو رية، فى جلسات صغيرة صارت تجمعنا بوصفنا بلديات، تمتد جذورنا إلى محافظة اشتهرت باللطف والكرم. تحول التعارف العابر إلى صداقة تنمو بلطف. تتراكم طبقاتها عبر لحظات تشاركنا فيها الآراء، واختلفنا فيها حول أشخاص وكتابات ومواقف كثيرة مرت علينا.


اختلفنا كثيراً، لكن عزت القمحاوى ظلَّ كما هو صديقاً يقف بجانبى فى كل لحظات الإخفاق، يطمئننى ويشجعنى على الكتابة حين أتوقف وأفقد الثقة فى المواصلة، أو تنتابنى لحظات الملل، عزت القمحاوى كان -وما يزال- يملك تلك القدرة على مد جسور الصداقة بين أجيال كثيرة، وعوالم بشرية متعددة وأحياناً متعارضة، لا يجمع بين كل هؤلاء الأصدقاء شرقاً وغرباً ويميناً ويساراً سوى وفائه الدائم لكل من مروا علينا، أو تقاسمنا معهم اللحظات الجميلة.

ومع رحلتى الطويلة التى استمرت 15 عاماً فى هذا المهجر لم ينقطع تواصلنا، تنقطع رسائلنا حيناً لكنها تعود كأنها لم تتأثر بتلك المسافات قط، نتبادل عبرها حديثاً لم ينقطع عن الكتابة، تلك الغواية التى كان مخلصا لها، لا يؤرقه سواها، ولا يشغله بالعالم إلا تجلياتها، الكتابة التى يخلص لها كما يخلص لأصدقائه.


 يملك عزت القمحاوى تلك المهارة فى الانتقال من نص أدبى لآخر بسلاسة، ومن نوع أدبى لآخر بمهارة أحسده عليها، أغدقت عليه مهنته كصحفى مخضرم بنعمة التدفق والحضور والاتصال بالواقع، والسرعة فى الإنجاز والمتابعة لكل جديد، وأنعمت عليه مهنة التحرير الصحفى بالدقة والمرونة والصبر على مخطوطاته وتطويرها حتى تنضج .


وأهدته نشأته القروية زاداً من الذكريات لا تنضب، أهدته طفولته وعوالمها مهارة فى الحكى ومخيلة فطرية قادرة على خلق عالم يخصه وحده، تعكس روايته «بيت الديب» مهارة عرف كيف يطورها وينفذ إلى جوهرها. 
أهدته تلك النشأة أيضاً شخصية هادئة خجولة متصالحة مع العالم وتملك قدراً من الدبلوماسية.

ونجحت تلك الصفات الأصيلة فى شخصيته فى مساعدته على تجاوز معارك ثقافية وهمية وتجنب خصومات ومنافسات وشللية سيطرت حيناً على الوسط الأدبى، فظل ما استطاع مخلصاً لمشروعه، محافظاً على توازنه النفسى، بعيداً عن تلك المعارك، وربما غير مكترث بها، تجاوز بمهارة صراع الأجيال الأدبية وتحولات الحياة الثقافية أو تغير خارطة الكتابة، مغرداً بعيداً عن نجوم البيست سيلر التى صعدت فجأة ثم ميليشيات قراء

صفحات التواصل الاجتماعى، وميليشيات بعض مجموعات القراءة التى فرضت ذوقها واختارت نجومها، لم يكترث بتغير الذائقة بل تصالح مع اختياراتها معتبراً ذلك شكلاً من أشكال الديمقراطية الشعبية وأطلق عليها «صوت القراء الحقيقيين» أو الجمهور الحقيقى للكتاب وهو يعكس بدوره مستوى التلقى، مستوى ثقافة القارئ العادى، اتفقنا معه أو اختلفنا .


يملك عزت القمحاوى الكاتب ولعاً بالقراءة، وقدرة على التذوق، والمتابعة، وموهبة فى اكتشاف النصوص الجميلة، قديمها وجديدها ويملك قدرة على الإنصاف قلما نراها فى غيره، يحتفى بنصوص ينتقيها ولا يتردد فى الاحتفاء بها وبأصحابها بلا حسابات مسبقة، يملك كذلك تلك الثقافة والخبرة الواسعة وقدرة المحرر الأدبى الماهر فى اختبار النص فى أطواره الأولى واكتشاف قوته وضعفه، ويستقبل برحابة صدر نصوص أصدقائه الكثيرين الذين لا يأتمنون غيره على مراحلها الأولى، يستقبلها برفق ويعكف عليها بأناة ويكتب ملاحظاته بمحبة وتجرد قل أن تجدها فى من عرفت من المثقفين، صار عزت القمحاوى مع مرور الوقت القارئ الأول لكل ما كتبت، وربما المحرض الأول لاستمرار الكتابة. أنتظر كلمته الأولى والأخيرة لمخطوطة ما. أكتب وأعتبر رضاه أو تردده الذى أستطيع قراءته من نبرات صوته هو المحدد الأول لميلاد نص جديد . 


فى مشوار عزت القمحاوى الطويل ككاتب وروائى لم يتخل عن غرامه بالبحث عن العمق، عن المعنى العميق لما يبدو للآخرين مفهوماً ومتداولاً: اللذة، الجسد، الموت، السفر وأخيراً الطبخ، يبذل المثقف فى بحثه عن معنى للحياة ولا يكل عن مواصلة حفرياته المعرفية بحثاً عن هذا العمق، يقضى الوقت عاكفاً على مشروعه، مستغنياً عن الشهرة. وعدد الطبعات مشغولاً بفكرة جديدة عادة ما تؤرقه، يختفى من أصدقائه ويعود بمولود جديد يحتضنه برضى ويتركه ليواجه مصيره فى سوق الكتابة، فى مشواره الطويل يقف عزت القمحاوى مع الذين أخلصوا لمشروعهم فى الكتابة بعيداً عن صخب الجوائز ونجومية العرض والطلب، قادراً على التألق والاحتفاظ بمساحة تخصه وحده فى الكتابة الأدبية العربية، تلك المساحة التى اختارها ببصيرة والتى تقع بين السرد والمقال والرواية والسيرة، والتى تعتبر كتابه «الأيك» ثم «غرفة المسافرين» وغيرهما من النصوص الكبيرة نموذجاً مثالياً لتلك الكتابة التى قلَّ أن نجد مثيلاً لها فى الأدب العربى الحديث. 

اقرأ يضا | محمد عبد النبى يكتب : مُدن اللذات

الكلمات الدالة

مشاركه الخبر :

 
 
 
 
 
 
 
 
 

 
 
 

 
 
 

مشاركة