أحمد عبد اللطيف يكتب : عن حوارات الكاتب مع نفسه: جاحظ هذا الزمان
أحمد عبد اللطيف يكتب : عن حوارات الكاتب مع نفسه: جاحظ هذا الزمان


أحمد عبد اللطيف يكتب: عن حوارات الكاتب مع نفسه: جاحظ هذا الزمان

أخبار الأدب

السبت، 17 سبتمبر 2022 - 02:50 م

 

تمثّل نصوص عزت القمحاوى حديقة مستقلة داخل الأدب العربى المعاصر، تجاورها حدائق أخرى وصحراء شاسعة. تمثّل نتوءًا أيضًا عن السائد، عن الأرض المستوية. ذلك أنها نصوص لا تتشابه مع نصوص عربية أخرى معاصرة، ولا تتبع إلا مدرسة هو مؤسسها ولم تخلق أتباعها بعد. غير أن هذه النصوص لها مرجعيتها فى الأدب العربى الكلاسيكى، كأنها التطور الطبيعى لها، تأثرًا بالزمان والمكان وجدية الأحداث. ولها مرجعيتها فى الأدب العالمى، المتحرر من التصنيف، الممتزج فيه الأدب بالفلسفة بالأنثروبولوجيا بالعمران بسؤال السلطة. نصوص هى جدارية شاسعة يمكن قراءتها من مداخل مختلفة، ومع كل قراءة ثمة معرفة تثرى الحقل المنطلق منه المنظور. 

فى كتاب «الأيك فى المباهج والأحزان» (المصرية اللبنانية، 2022) ثمة خلاصة لهذا المنهج السردى المشبّع بالتراث العربى والمعشّق بالمنهج الأوروبى فى القراءة المفتوحة للعالم. تذويب لأسلوب الجاحظ فى طرحه لموضوعات تبدو معتادة، برشاقة لغوية وخفة ظل، لنعرف أنها ليست معتادة ولا معروفة كما كنا نظن. انفتاح على سؤال الحب/ العشق/ تعقيدات المشاعر الإنسانية لا يتناص فيه مع ابن حزم فى «طوق الحمامة» فحسب، إنما يضع نصوص المفكر الأندلسى بين نصوصه كدرجة فى سلم سيصعد من خلالها إلى تصور جديد لبنية الحواس وتفاعلها، لتكون الخلاصات القمحاوية مكمّلًا حديثًا للنصوص الحزمية، وانعكاسًا لمجتمع صار أكثر تعقيدًا.

وغدا سؤال الحب فيه أكثر تعقيدًا من سؤال الحياة نفسها. ليبدو القمحاوى بذلك حفيدًا للتراث نفسه، لكن بدلًا من الميلاد فى القرون الوسطى، ولِد فى عصر مكالمات الصوت والفيديو، وما أحدثته من تغيرات فى بث المشاعر وتلقيها. 


 يتناص «الأيك» مع «نواضر الأيك» للإمام السيوطى فى العنوان، لكن هذه العتبة ليست عشوائية، إذ طبيعة الكتاب نفسها أيك من حيث أنه شجرة مثمرة وملتفة وكثيرة الأغضان، ومن حيث طرحه لموضوعات حسية تعيد تعريف الحواس وعملها ووظيفتها، ثم تأثيرها وتأثرها بالكلمات فى حالة السمع.

وبالجمال فى حالة البصر. تتعدد موضوعات الكتاب وتتنوع حتى يبدو الأيك هو البنية وليس العنوان فحسب، فالجذر الذى يمسك الأغصان واحد، ينطلق من أرض المعاصرة وقلق الإنسان اليومى، ليتفرع ما بين العمران والمدينة، الحب والهجر، سؤال الفن والكتابة، وسرد أحداث يومية يبدو فيها المؤلف كمقريزى لا يريد أن يهرب منه الحدث الدال بدون أن يعثر على مدلوله.

 تحتشد فى كتاب من هذا النوع، كتاب فريد فى بنيته وحكمة مؤلفه، كل المعارف الإنسانية الممكنة التى يسعها كتاب يتطلع إلى الوصول إلى عمق الإنسان الفرد. تتراص الكتب الأدبية، وأغلبها روايات عالمية، ليقرأ من خلالها أحد موضوعاته، فتبدو مرجعية أكثر وثوقًا، لا يحتاج إليها المؤلف لإثبات طرحه، بقدر ما يحتاج إليها قارئ يصدق الحكى أكثر مما يصدق المعلومة الجافة أو العبارة التى تقول حكمة فتذهله، لكنه ينتظر تطبيقها على ما يمكن أن يعرفه، سواء فى خبراته الشخصية أو خبرته مع بطل رواية نعرفه ونتعاطف مع مأساته.

 

من شتاينبك إلى ابن حزم، من الطاهر وطار إلى ماركيز، من كازنتزاكس إلى البساطى، ومن عالم الإنسان إلى الحيوان والطيور، ثمة كتب ومعارف تتضافر جميعها، مع مقالات صحفية وتأملات شخصية لافتة، وتسريب أجزاء من سيرة ذاتية، ثمة لوحة هائلة تحتاج إلى التوقف الطويل أمامها لفك هذا الكم الهائل من الألوان والشخصيات والأفكار. وكلها ألوان ابنة عصرنا.


 ورغم أن «الأيك» يولى اهتمامًا ملحوظًا للحواس، بدايةً من وقع الأصابع وأصوات الرغبة إلى سيرة الشهوة ومذاق العفة، وليس انتهاءً بمطارح الغرام، إلا أن العمارة/العمران، تشكيل المدينة وتطور بنيتها، يشغل مكانًا فيه. حد أن «عمارة الريبة» يمثل أحد أفضل فصول الكتاب نظرًا لخلفيته المعرفية والتاريخية الواسعة، بجانب المقارنة بين الماضى والحاضر.

وتغليف ذلك بسؤال السلطة ورؤيتها فى تخطيط المدن، بما يعبّر عنها وعن سياستها. ينتقل القمحاوى من عمارة نابليون لعمارة هتلر وموسولينى، ثم لعمارة عبد الناصر والكومباوندات. ثمة خريطة واسعة يرسمها لكيفية قراءة ذهنية السلطة عبر عمارتها، وقراءة التحولات الاجتماعية كذلك. تتمثل أهمية هذا الفصل فى إضافة عنصر تأملى يخص الجماعة، ميدان يلتقى فيه الجميع إن توافر، فى مقابل أغلب فصول الكتاب التى تنتصر للفرد فى وحدته. هذا الثراء فى التنوع يمكن أن يعكس لنا المكان الذى يتحرك فيه الفرد، الفرد فى القاهرة بالتحديد.

ورغم أن المؤلف يوثّق فيه لتاريخ المدينة، إلا أن الحكاية الأخرى، المتسربة من تحت التاريخى، تخص الفرد نفسه. هذا الاهتمام بالمكان/ المدينة بقدر ما يقترب من فن العمارة والتخطيط العمرانى بقدر ما يتسق مع رؤية المؤلف عن تشابه ساكن المدينة بمدينته. وهو موقف يتسق أيضًا مع التراث العربى الذى أتى منه القمحاوى، وما يلبث أن يعود إليه، إذ المقريزى وابن إياس والجبرتى يولون اهتمامًا خاصًا للمكان، ويرسمونه جغرافيًا، ويطنبون حتى فى طبائع الناس وبنية الشوارع.

 لا يتبع القمحاوى فى هذا الكتاب، ولا فى نصوصه الأخرى المفتوحة، منهج رصد ما يحدث بالمنطق التاريخى، حتى حين يتحدث فى الشأن العام، إنما يحمل هذا الشأن إلى مجمرة التأمل والفلسفة، فيصير «طموح المدينة الحقيقى أن تكون قرية بكل ما يقتضيه هذا الطموح من حيث الحفاوة بالخضرة والميادين المفتوحة»، غير أنه طموح بعيد، وعبر هذا التمنى يقدم المؤلف صورة متأملة بالأحداث ترسم قاهرة قاسية، ليست فقط كمدينة وإنما كسكان. 


 وإذ كنا قد أشرنا إلى المرجعية التراثية فى كتاب القمحاوى، وتناصه مع مناهج جاحظية وحزمية ومقريزية، فالبُعد الغربى فى نصوص مؤلف «الأيك» لافتة، ليس لأنه يتخذ الكتابة الغربية نموذجًا، وإنما لأن رؤيته الفكرية وانفتاحه على العالم وقراءاته الموسوعية مهدت له هذا الطموح وهذا التأمل.

هكذا يكتب القمحاوى نصوصًا تتناول النقد الثقافى وتفتح طرقًا متشعبة بين النص والواقع والخيال، وتشبّك هذه النصوص فى عقد معرفية تقترب فى منهجها مع أومبيرتو إيكو فى العديد من أعماله، منها «ست جولات فى غابات السرد» و«سوبرمان وسائل الاتصال»، وإن كان إيكو ينحو للنقد الأدبى أكثر من القمحاوى، الذى ينفتح نصه على المجتمع أكثر ويربط عناصره باليومى والمعيش.

 

 

 


 لقد كانت الكتابة العربية تفتقد لهذا النوع من الكتابة المخلصة للإلهام والبحث معًا، وتحتاج إلى مغامر يفرض على السوق نصوصًا مفتوحة يمكن أن نسميها تأملات فلسفية أو أدبية أو ثقافية، غير أنها لثرائها تبقى خارج التصنيف، لتحقق بعيدًا عن المنتظر منها متعة فكرية وثراءً معرفيًا. لقد تلقى القارئ المتعطش لهذا النوع من المعرفة، بعيدًا عن التعليب، هذا الكتاب وكتاب «غرفة المسافرين» بما تستحقه الكتابة الذكية المزودة بالمعرفة وخفة الظل واللقطات اللماحة. 

اقرأ أيضا | ميرال الطحاوى تكتب: لذة البحث عن العمق

الكلمات الدالة

مشاركه الخبر :

 
 
 
 
 
 
 
 
 

 
 
 

 
 
 

مشاركة