للفنان: رينيه ماجريت
للفنان: رينيه ماجريت


مريم الساعدى تكتب عن حوارات الكاتب مع نفسه: السير فى الحقول الآمنة

أخبار الأدب

الأحد، 18 سبتمبر 2022 - 01:48 م

 

طال الصمت، فلم يعد أحد يهتم بقيمة الكلام. لا أحد يتكلم، «فى الصمت السلامة» كما يتواتر عن الأولين، يتصادق الناس مع التطبيقات الإلكترونية، الألعاب المسلية المذهبة للتوتر والخالقة له والقاتلة للوقت.

من الممكن الآن أن أخرج من هذا المكتب المعتم عديم النوافذ للجلوس فى مقهى مشرق يطل على البحر، أو أن أجلس فى مكانى أفتح ملف الرواية التى لم أعمل بها منذ سنتين وأعاود استكمال الكتابة لعل الشمس تشرق على من هناك.. من نافذة الكتابة. أبحث دومًا عن النوافذ، المكان الذى تدخل منه أشعة الشمس، الشمس التى هى دلالة على استمرارية الحياة.

وأن الكوكب يسير فى الاتجاه المعهود لم يصطدم بأى كوكب ولم تحصل أى كارثة كونية، وأن الأمور بخير والحياة لم تنته بعد، لا زال هناك يوم آخر جديد. ولا زلنا نحن بخير، نحن البشر، نسير على أقدامنا، والأرض أمامنا منبسطة، ونستطيع أن نرى الطريق وما يحتويه. ماذا ينقصنا إذًا كى نشعر بالاكتمال، أو بالاكتفاء؟ 


أبحث دومًا عن إشراق الشمس، أقول حتى تشرق روحى فأستطيع الجلوس للكتابة، والجلوس للكتابة يحتاج أولاً الوقوف للحياة التى تشرق عليها الشمس. ولكن.. ربما يجب أن نعمل ونحفر فى النفق المظلم حتى نصل لإشراقة الروح، بدل الجلوس فى انتظار الشروق قبل العمل. أى ربما حال نجلس للعمل، تتوثب الروح واقفة؟ 


أسئلة كثيرة، لا أمتلك لها أى إجابات لفترات طويلة، كل إجابة عمرها قصير تموت سريعًا حال يتكشف حال جديد، والنفس أحوال. ربما مهمة الإنسان فى الحياة هى أن يكون الآلة المولّدة للأسئلة، وأن أزمته الوجودية تكمن فى محاولات تعطيل هذه الآلة وتجريم كل تلك الأسئلة.


البعض يعمل فى الغروب، لكن هذه أوقات أجواء الخارج، أتحدث عن أوقات النفس، يحصل أن تشرق شمس الروح فى الليل. لكن يحصل -فى خضم الغفلة- أن نعوّل كثيرًا، أكثر مما يجب على أجواء العالم الخارجى، فى حين أن العالم، كل العالم هو فى داخل الإنسان ذاته، فى داخل كل فرد، فى داخلى.. مثلاً.


بعد كل هذه المناورة النفسية أقرر الخروج للنهار، الرواية يمكن أن تنتظر، حتى آتيها بروحى الذاهبة فى الزوايا بحثاُ عن إشراق. فى المقهى المشرق. يجلس جماعة من الأوروبيين، الشقر الملونين، يرتدون ملابس زاهية، يضفون إشراقًا مضاعفًا للمكان. هناك شىء بشأن هؤلاء الناس القادمين من الغرب يجعل الأجواء أكثر خفة.

يجعل الأوقات أكثر رحابة، ربما هالة «الحرية» المحيطة بوجودهم، الهالة التى التصقت بهم من هناك، من تلك الأجواء الباردة الكاشفة لصراعات النفس دون وجل.
إنهم أشخاص نشأوا فى محيط من الحرية واحترام الخيارات الفردية، يفعلون ما يشاؤون، يرتدون ما يحبون، يقولون ما يعتقدون، لا يشعرون أنهم مضطرون لقول شىء عكس ما يشعرون به، مثل أفراد الشرق الساجدين فى محراب الجماعة ليل نهار على مدى قرون هى تاريخ وجودهم.

الأقوال التى ننطقها عكس ما يدور فى عقولنا من أفكار أو فى قلوبنا من مشاعر أو حتى تلك التى نكتمها ونسير بها فى أعماقنا دون أن نمتلك جرأة تحريرها إلى الهواء الطلق، تجعل وجودنا ثقيل، ففى أعماقنا تكمن مقبرة الأقوال المقتولة بدافع الخوف والتردد والرجاء والرغبة فى القبول. تتشكل حولنا هالة سميكة من الثقل.. فتصبح طاقة الأماكن التى نرتادها خانقة. نقول «إنه الحر والشمس» أو «البرد والمطر»، ولكن منذ متى كانت عناصر الطبيعة عدوة لإنسان عرف صداقة نفسه؟!


طال الصمت، فلم يعد أحد يهتم بقيمة الكلام. لا أحد يتكلم، «فى الصمت السلامة» كما يتواتر عن الأولين، يتصادق الناس مع التطبيقات الإلكترونية، الألعاب المسلية المذهبة للتوتر والخالقة له والقاتلة للوقت، «نتفيلكس»، مكتبة مليئة بالأفلام والمسلسلات العالمية، «شاهد» مكتبة مليئة بالأفلام والمسلسلات العربية وغيرها وغيرها.. يصبح الوقت مشغولاً، مأخوذاً، مخطوفاً.

وأنت إنسان مخطوف، لست هنا، لكن هناك، فى اللامكان. فمن يحتاج للكلام مع الناس؟ كلمة قد تخرج فيندم عليها صاحبها، عواقب تلك الكلمة، كل ذلك التفكير فى النتائج والمآلات يجعل الصمت خياراً حكيماً، لكن الصمت يطول ويتراكم ويتكاثف ليتحول إلى خرس.

ويصبح كل الكلام الذى يمكن أن يُقال مجرد دردشة ثقيلة مملة حول الطقس والطعام واللباس وأسئلة «كيف الحال» التى لا تنتظر إجابة. ثم تحيّن الفرصة للتملّص من هذا الكلام السمج بداعى المجاملة والواجب، إلى ونس التطبيقات، وإلى الناس فى الأفلام والمسلسلات، هم أشخاص مألوفون، هم «الأصدقاء»، نعود إليهم كل مساء، أو نلجأ إلى رفقتهم وقت الغداء، هم أهلنا على مائدة الطعام، هم معنا، ونحن معهم، بكليتنا، هم يقولون كل شىء، ونحن نسمع ونضحك ونحزن ونفرح ولا لوم علينا.


نحن فقط جمهور طيب صامت، من يحتاج للرفقة الواقعية؟ قد تقول الكلمة بدون تفكر كثير، مجرد تنفيس ولكن كيف لا يفهمك الشخص الآخر؟! إذا تحدثت يغضب، أو يكتمها فى نفسه، وهذه أشد. يكيد لك، الكيد فى النفوس يصلك، تشعر أن العالم يضيق، لا تعرف بالضبط لماذا، لكن هناك أشخاص ألقيت فى حضرتهم مرة كلمة تعبر عن «رأى» بحسن نية صاروا أعداء متربصين.

العداوة.. تلك الطاقة المجانية المهدرة، طاقة العداء الموجهة نحوك، تصل، تشعر بها، ولا تفهم لماذا كل هذا الشحن النفسى ضد وجودك الذى يمكن ألاّ يعنى أحداً. كنت فقط تريد أن تكون نفسك، لم تكن معنيًا بالإساءة لأحد، لم تفهم أساساً لماذا كل شىء يعبر عنك بشكل طبيعى يمكن أن يُشكّل إساءة لآخر. يبدو الآخر مهمومًا ألاّ تختلف عنه، يهمه أن تشبهه، فى كل شىء سلبى، تشبهه فى العجز عن التعبير عن ذاته.

وفى العجز عن الحياة وفق هواه، فى العجز عن التفوق الذاتى فى الحياة، فى العجز عن الإنجاز وفق رؤيته الخاصة، وليس فى جمال هيئته وملبسه ومأكله ومشربه ومسكنه بالطبع، فى هكذا أشياء يهمه ألا يتفوق عليه أحد، فى أشياء «الظاهر» عليه أن يكون الأجمل والأكمل والأفضل، فـ«الظاهر».

وهو كل ما يمتلك بعد أن أعمل فى باطنه جرّارات المسح البيولوجى النفسى التامّ لكل شىء حى وجوهرى ومتألق، ذلك الألق الذى يتدافع إلى القلب فيملأه بالحب وينعكس فى العيون لمعة حياة أخاذة تنشر طاقة الود والصداقة والمحبة وفضول المعرفة. 

من المهم أن تظل العيون جوفاء، حدقات فارغة من المعنى، «المعنى»! آه.. هذه الكلمة الشريرة، إنها النوع من الكلمات الذى يشذّ عن قاموس المجتمع الطيب الصالح المتآلف على نوعية كلمات معينة محددة ومتفق على معناها منذ الأزل، أن تبحث عن المعنى أى أن تبحث عن كلمات مختلفة عمّا ألفته الأذن الصماء. عليك أن تظل هناك واقفًا بصمت مثل فزاعة حقل؛ كومة أقمشة بدون روح تطرد طيور المعانى الحرة عن الحقول الخرساء الصماء الآمنة. 

اقرأ ايضا | مريم الساعدى تكتب | الإنحياز للنص وحده

الكلمات الدالة

مشاركه الخبر :

 
 
 
 
 
 
 
 
 

 
 
 

 
 
 

مشاركة