د. ليلى الغلبان
د. ليلى الغلبان


د. ليلى الغلبان تكتب.. حتة طباشير

الأخبار

الإثنين، 19 سبتمبر 2022 - 08:07 م

 

أحفادنا على موعد مع أصواتنا وكلامنا ليعود بهم مثل عجلة الزمن إلى عقود وربما قرون خلت، إلى زماننا هذا ولغتنا هذه وحياتنا هذه وليرسم صورا من دم ولحم لنا ولعالمنا

ها قد جاء اليوم المنتظر، ظللت أراوغه لسنوات، أحب أن أترك الأشياء على ما كانت عليه.. الماضى له وهج خاص وكل مفرداته أعتبرها كنوزا شخصية شهدت فصولا من حياتي، صاحبتنى وصاحبتها.. وكانت جزءا لا يتجزأ منى ومن صورتى فى أذهان من يعرفني..ممنوع الاقتراب..دعى الأشياء كما هي..

قلت فى نفسى حين وجدت نفسى أمام هذا الجزء من خزانة الملابس، حيث تسكن عينة من ملابسى القديمة التى كنت أرتديها منذ سنوات، الحلل التونيكات، التيورات، البلوزات، الجواكت، وغيرها. وقفت لبرهة وقد تملكنى شعور بالتهيب من لمس أو فحص بعضها، كمن يتهيب من فتح حقيبة مليئة بالأسرار. أدركت منذ زمن بعيد أن أهمية الأشياء لا تكمن فى قيمتها المادية، ولكن فى كونها بمثابة آلة الزمن، ذاكرة الجسد والروح والأيام تتكلم عنك، تعود بك إلى ذكريات الأمس.. استجمعت بعض طاقتى ومددت يدى تلمس الأشياء.. اندست أصابعى تستعرض بخفة وسكينة .. ترى هل يمكن أن أرتدى بعضا منها مرة أخرى؟ ..لا أظن.. بعدما امتدت يد الزمن وزيادة الوزن لتجعل حلم ارتدائها مستحيلا.. تركت يدى وعينى يتجولان ..دسست أصابعى أكثر لأجد فى أحد الجيوب حتة طباشير..ياااااه

علا وجهى ابتسامة وغمرنى حنين وتداعت ذكريات الماضي..فى مهنة التدريس..الطباشير اختفى من المدرجات ..الأقلام والداتا شو وغيرها حلت محله.. ولكن حتة الطباشير لها عبق خاص ..ظللت أتفحصها.. أحركها بين أناملي.. هممت أن ألقى بها فى سلة المهملات..ولكن تريثت.. خشيت أن أضيع مفتاحا من مفاتيح الذاكرة وآلة للزمن.. وفى هدوء أعدتها إلى الجيب، لتسكن فيه وتسكن معها ذكريات غالية ..

موعد مع..
تولد بعد يومين من وفاة أبيها تمضى حياتها بدونه .. تشب وتكبر... لم تره ولم تجد من يذكرها به سوى أوراقه وما يرويه الناس عنه. وتمضى السنون وتكون على موعد مع مفاجأة غيرت علاقتها به إلى الأبد؛ إنها الأيرلندية أنجيلين، فقد أرسل إليها أحد الأصدقاء رابطا لهيئة الإذاعة البريطانية بى بى سى القسم الأيرلندى كان يبث مقاطع صغيرة من تسجيلات فى أرشيفهم للهجات فى أيرلندا وكان مقطع منها بصوت أبيها الذى توفى منذ أكثر من أربعين عاما. ونوهت الإذاعة إلى أن مثل هذا الأرشيف الصوتى قد تم إيداعه فى متحف فى أيرلندا وبإمكان من يرغب الاستماع إلى التسجيلات كاملة مراسلة المتحف. تلقفت أنجيلين نسخة من تسجيلات والدها وكانت لها بمثابة كنز لا يُقدر بثمن.

أرخت السمع لصوته وبدأت تتسلل إليها مشاعر لم تعهدها من قبل، فعجائب الصوت البشرى وما يولّده داخلنا من صور وعوالم وأصوات وألوان شكلت المداد والفرشاة والألوان لرسم صورته الجديدة فى مخيلتها وتبدأ صفحة جديدة من علاقتها به.

فشكرا لمتحف الكلام الأيرلندى وغيره من متاحف وأرشيفات الكلام فى العديد من دول العالم على تلك الهدايا النادرة العزيزة ليست فقط لأنجيلين وأمثالها، ولكنها للمجتمع ولغته وثقافته وتاريخه الشفوى .. هل يمكن أن يكون هناك متحف مماثل للكلام المصري؟ نأمل فى ذلك، ومن يدرى عزيزى القارئ فقد يكون أحفادنا وأحفاد أحفادنا على موعد مع أصواتنا وكلامنا ليعود بهم مثل عجلة الزمن إلى عقود وربما قرون خلت، إلى زماننا هذا ولغتنا هذه وحياتنا هذه وليرسم صورا من دم ولحم لنا ولعالمنا.

متحف الطهى المصرى..
أذكر كيف كانت والدتى رحمة الله تعالى عليها تضيف البامية الجافة إلى الحبوب أثناء الطحين كى تعزز طعم الخبز الطيب .. وكيف كانت تصنع شعرية يدوية أو باستا بلغة هذه الأيام تفوق الإسباجتى فى الطعم. كما كانت تؤجر آلة ضخمة من الحديد تسمى دولاب الشعرية لعمل خزين البيت منها، كان خزين الشعرية يمثل جزءا مهما من معاش البيت مثل خزين الأرز والقمح والذرة.. تقوم بتجفيفها تحت أشعة الشمس ثم فى الفرن؛ كى تحفظ الخزين من السوس لاستخدامه من العام إلى العام ..وكانت ربات البيوت يتسابقن فى استئجار هذا الدولاب فى موسم صنع الشعرية بعد حصاد القمح مباشرة. هذا الطقس اختفى من البيوت مثله مثل العديد من الوصفات والأكلات.. ولم يجد من يوثقه أو يحتفظ بأحد هذه الدواليب قبل اختفائها..
أتذكر أيضا طرق عجن الدقيق وما تتطلبه من جهد كبير فى «طب» ولت العجين برفعه إلى أعلى وفرده داخل الإناء بطريقة تجعل الهواء يتخلله. كما لا ننسى الأدعية والذكر المصاحب لعملية العجين والخبز والتخزين ..

تذكرت ذلك أثناء مطالعتى لخبر فريد من نوعه. يقول الخبر إن السلطات الإيطالية قررت إنشاء متحف للمطبخ الإيطالى يوثق وصفات الطهى وأدوات المطبخ عبر العصور.. ويهدف لإحياء الأطباق التاريخية، مثل أول وصفة على الإطلاق لصلصة الطماطم الإيطالية، من أواخر القرن السابع عشر.

أعجبتنى فكرة إنشاء متحف للطهى وفوجئت أثناء بحثى على الإنترنت أن المتحف الإيطالى ليس الأول من نوعه، إذ سبقت إليه بلدان أخرى لديها ولع بتراثها فى الطهى وتناول الطعام. منها تركيا والتى يمثل المطبخ التركى واحدا من عوامل الجذب السياحى المهمة وأيضا لمحبى الطبخ حول العالم.. وهناك عدد من متاحف الطهى فى تركيا.. فى إسطنبول وغازى عنتاب وأنطاكية كما يقدم المتحف التركى دورات للطهى التقليدى..

المطبخ الفرنسى كان أيضا له نصيب.. حيث أقيم متحف الطهى الفرنسى فى مدينة ليون منذ عدة سنوات ضم قوائم طعام ووصفات وأفلاما، فضلًا عن معروضات تفاعلية يمكن من خلالها أن يعرف الزوار المزيد عن أطباق الطعام حول العالم.

وفى العام الماضى تم افتتاح متحف الطهى الكورى فى مدينة أنصونغ بمقاطعة كيونغ كى بغية مساعدة الحالمين بالعمل فى مجال الطهي. كما يقوم المتحف بتسجيل إنجازات الطهاة الذين ساهموا فى تقدم صناعة الطهى فى البلاد.

وفى متحف الشوكولاتة فى كولونيا فى ألمانيا تأخذك العروض باللغتين الإنجليزية والألمانية فى رحلة إنتاج الشوكولاتة بدءا بأشجار الكاكاو الحية وصولا إلى إنتاج الشوكولاتة.

ومن متاحف الطعام الشهيرة أيضا متحف المكرونة «النودلز» اليابانى حيث يوثق مراحل تطورها، ويُعطى المتحف فرصة لزائريه بتجربة طهى المكرونة بأنفسهم والحصول عليها فى نهاية جولتهم.

وتتيح عادات الطهى فى أى مجتمع لنا فرصة لقراءة تاريخه وتفصح لنا عن الكثير من العادات وطرق التفكير والظروف الاقتصادية والسياسية وعلاقة الإنسان بالبيئة والكائنات فى زمن ومكان ما.

وعادات الطهى والأكلات المصرية بما لها من عراقة وتنوع وتناغم مع البيئة وخصوصية تستحق أن تجد لها متحفا يروى للأجيال كيف عاش المصريون عبر السنين ..

الاستعمار طوعا..

فى محاولة لوقف الهجرة إلى أوروبا، وتغافلا للجراح والندوب التى خلفها الاستعمار الأوروبي، واتساقا مع السياسات المضللة والقاسية والعنصرية للدول الأوروبية التى تحاول غسل أيديها من ماضيها الاستعمارى وما خلفه من كوارث إنسانية والتملص من مسئوليتها تجاه اللاجئين وطالبى اللجوء، تفتق ذهن المفوض الألمانى للشئون الأفريقية جونتر نوكى عن حل أثار جدلا واسعا مؤخرا. الحل المقترح ينطوى على وجوب قيام الاتحاد الأوروبي، أو هيئة مثل البنك الدولي، ببناء وإدارة مدن فى أفريقيا من أجل تعزيز خلق فرص العمل والتنمية فى القارة مما سيحسن حياة المواطنين وتوفير صحة وتعليم أفضل وستقدم نموذجا للحكم الفعال وتوفر نوعية حياة جيدة، مما يمنع الناس من الهجرة.

وقال السيد نوكى إن هذا سيعنى أن الدول الأفريقية ستسمح بتأجير جزء من أراضيها لهيئة أجنبية للسماح بالتنمية الحرة لمدة 50 عاما، وأن المدن ستعمل بموجب مجموعة من القوانين المنفصلة عن البلد المضيف.

البعض رفض الفكرة معللا أن رائحة الاستعمار تفوح منها، فيما تحمس البعض لها، واصفين إياها بأنها محاولة حقيقية لضمان استفادة الأفارقة ودول العالم الثالث من تجربة مفيدة.
معارضو الفكرة يرون أيضا أن المناطق الاقتصادية الخاصة لن تفيد سوى الأغنياء، وستخلق مجتمعات مسورة مغلقة على أهلها تعيش فى ظل قواعد منفصلة عن بقية البلاد.
إن الاستعمار القديم بوجهه السافر المتمثل فى غزو البلاد واستغلال ثرواتها لم ولن ينتهي، وهناك أيضا الاستعمار الجديد وقد اتخذ أشكالا ناعمة للفتك بالدول وبمقدراتها مثل : العولمة واتفاقيات التجارة العالمية والإنترنت ووسائل الإعلام والتواصل الاجتماعى والنزعة الاستهلاكية وغيرها..
والسؤال الآن لماذا تصر الدول الكبرى على اللعب بنفس الأوراق القديمة، وتصر بعض الدول على الوقوع فى ذات الفخ ويفتحون الأبواب للاستعمار طوعا بدلا من البحث عن حلول وطنية توائم المجتمعات وتجد فيها حاضنة تذود عنها ؟!!

رئيس قسم اللغة الإنجليزية 
 آداب كفر الشيخ

الكلمات الدالة

مشاركه الخبر :

 
 
 
 
 
 
 
 
 

 
 
 

 
 
 

مشاركة