حجر رشيد وبداية عرضه بالمتحف البريطانى وتهافت الزائرين والباحثين على المشاهدة
حجر رشيد وبداية عرضه بالمتحف البريطانى وتهافت الزائرين والباحثين على المشاهدة


محمد أبو اليزيد يكتب: العرب الأوائل ومحاولة فك رموز الهيروغليفية

أخبار الأدب

السبت، 24 سبتمبر 2022 - 01:41 م

لعب ابن وحشية دورا هاما فى محاولة فك رموز الكتابات المصرية القديمة قبل العالم الفرنسى شامبليون بمئات السنين

اعتبر الجيش الإنجليزى أن حصوله على حجر رشيد أحد المكاسب العسكرية والسياسية والثقافية فى آن واحد.

خلال العقد الثانى من القرن الـ 19 حاول العالم الفيزيائى الموسوعى الإنجليزى توماس يونج بدراسة النص المتعدد الخطوط على حجر رشيد، وقد نجح قبل أى عالم أوروبى فى الربط بين الكتابة الديموطيقية والكتابة الهيروغليفية باعتبارهما لغة واحدة.

يعتبر الكثير من الباحثين أن يوم ٢٧ سبتمبر ١٨٢٢بمثابة يوم نشأة علم المصريات، فهو اليوم الذى أعلن فيه العالم الفرنسى جان فرانسوا شامبليون عبر رسالته الشهيرة إلى مسيو داسيى (أمين المجمع العلمى الفرنسى)، نجاحه فى فك رموز اللغة المصرية القديمة، ومن ثم نسبوا العلم إليه ولقبوه باسم «مؤسس أو أبو علم المصريات». 


بدأ الاهتمام بآثار مصر وحضارتها فى فترة مبكرة، جدًا: أى قبل شامبليون بآلاف السنين، فقد اهتم المصريين القدماء بتراث أسلافهم، وسجلوا قصصهم، ودونوا أسماء ملوكهم، كما قاموا بزيارة جباناتهم والحفاظ عليها، بالإضافة إلى ترميم آثارهم وتجديد الكثير منها وإضافة أجزاء إليها. ثم بعد ذلك قام الرحالة الإغريق بزيارتها والكتابة عنها.

ومن أشهرهم المؤرخ هيكاتيه الملطى (٥٢٠ ق.م) ثم هيرودوت (حوالى ٤٥٠ ق.م)، ثم أفلاطون فى بداية القرن الرابع قبل الميلاد، وبعد ذلك جاء الرحالة الرومان ومن أشهرهم ديودور الصقلى (٥٩ ق.م) واسترابون (٢٥ ق.م) ثم بلوتارخ فى بداية القرن الثانى الميلادي.


ولعب العرب أيضاً دوراً لا يقل بل يزيد فى توثيق البلدان ومعالمها الأثرية، علاوة على إعداد تصور لقراءة رموز اللغة المصرية القديمة. فهم أول من توصلوا إلى أن القبطية هى صورة من صور اللغة المصرية القديمة، وعرف عنهم أنهم كانوا يطلقون على الكتابة المصرية القديمة اسم «القبطية الأولى» وعلى القبطية اسم «القبطية الثانية».

وقد تنافست الدول الأوروبية فى ترجمة واقتناء المخطوطات العربية التى تحمل تصورًا لقراءة العلامات الهيروغليفية، وورد أن العلماء الفرنسيين فى الحملة الفرنسية ١٧٩٨-١٨٠١ كانوا يبحثون عن المخطوطات العربية التى تسلط الضوء على فك رموز الهيروغليفية، وكانت العديد من هذه المخطوطات بين المسروقات التى صادرها الفرنسيون بعد استسلامهم أمام القوات الإنجليزية.


تشير المصادر التاريخية إلى أن أول عالم عربى معروف باهتمامه بالنصوص المصرية هو جابر بن حيان، والذى عاش بين منتصف القرن السابع ومنتصف القرن الثامن الميلادى، واستفاد من أبحاثه العديد من العلماء العرب منهم  ابن وحشية وذو النون المصرى وهو ابن مدينة أخميم، المتوفى فى ٨٥١م، وقد درس الكتابة المصرية القديمة على جدران معبد أخميم.

وقدم قراءة للعلامات الديموطيقية والعلامات القبطية، وله إنجاز غير مسبوق، ألا وهو توصله إلى أن بعض العلامات الهيروغليفية ليست صوراً فقط وإنما حروف ذات قيمة صوتية. والعالم العربى المؤرخ عبد اللطيف البغدادى المتوفى فى ١٢٣١م، صاحب كتاب «الإفادة والاعتبار» والعالم المصرى الكبير الشريف أبو جعفر محمد بن عبد العزيز الحسينى المتوفى فى ١٢٥١م صاحب أقدم دراسة علمية عن الأهرامات المصرية وعنوانها «أنوار علوى الأجرام فى الكشف عن أسرار الأهرام».

ومنهم ابن حوقل الذى ترك لنا خريطة لمصر موضحاً بها موقع الأهرام وفروع النيل، أبو حامد الغراطى الذى وثق منارة الإسكندرية، والهمدانى صاحب كتاب «الإكليل» ، ثم مرتضى العفيفى الذى ترجم كتابه للفرنسية فى ١٦٦٦م.

ومن العلماء العرب البارزين أيضًا أبو القاسم العراقى المتوفى فى ١٣٤١م، والذى وثق لوحة للملك أمنمحات الثانى، وقد أعد دراسة للعديد العلامات الهيروغليفية، مقدماً جدولاً لها، وتوصل إلى قراءة صحيحة لعدد ٤ علامات منهم.


مراجع عربية

أما بالنسبة للمرجع العربى الأهم بلا استثناء فكان للعالم أحمد بن أبى بكر بن وحشية (الشهير باسم: ابن وحشية)، وقد عاش بين القرنين التاسع والعاشر الميلاديين. ويمكن اعتبار ابن وحشية أول عالم مصريات بالمعنى الحديث، فقد أكد ما توصل إليه ذو النون المصرى حول اعتبار عدد من العلامات الهيروغليفية حروفًا ذات قيمة صوتية، كما توصل إلى إنجاز آخر وهو أن المفردات المكتوبة بالهيروغليفية تنتهى بصورة لشكل ما، وهذه الصور لا تعبر عن حرف منطوق، وإنما تكمن وظيفتها فى تحديد معنى الكلمة وتمييزها عن باقى الكلمات الأخرى المشابهة، وهى الصورة التى تعرف حاليًا باسم «المخصص».


لعب ابن وحشية دورا هاما فى محاولة فك رموز الكتابات المصرية القديمة قبل العالم الفرنسى شامبليون بمئات السنين، ويعتبر صاحب أول محاولة جادة لقراءة العلامات الهيروغليفية، إذ أعد دراسة لعدد كبير منها ووضع تفسيرا لها، ونشر أبحاثه فى كتابه «شوق المستهام فى معرفة رموز الأقلام».

وهو الكتاب الذى اهتمت به الدول الأوروبية، وتمت ترجمته بإنجلترا إلى اللغة الإنجليزية فى ١٨٠٦ بواسطة المستشرق النمساوى جوزيف هامر، أى قبل نجاح شامبليون بفترة تصل إلى ١٦ عاما، إلا أن نتائج دراساته لم تكن على مستوى الدقة الذى وصل اليه شامبليون.

ولو كان لديه قطع أثرية شبيهة بحجر رشيد لكان الأسبق فى قراءة الكتابات المصرية القديمة، وربما كانت النتائج التى توصل إليها سببًا فى تعرف الأوروبيين عامة وشامبليون ورفاقه خاصة على خطوات التعرف على العلامات الهيروغليفية.


لم يتم تسليط الضوء على مصر باعتبارها قبلة لعلماء الآثار إلا عندما ظهرت الأجزاء الأربعة والعشرون من كتاب وصف مصر (منشورة خلال الفترة من ١٨٠٩ إلى ١٨١٣) والتى تم إعدادها بواسطة البعثة العلمية التى صاحبت نابليون بونابرت إلى مصر، فهناك عدد من المحاولات، أهمها تلك التى قام بها الإيطالى أثاناسيوس كيرشر (١٦٠٢-١٦٨٠)، صاحب أول محاولة أوروبية لقراءة عدد من العلامات الهيروغليفية، كلمة واحدة منها صحيحة وهى «الماء» والباقى غير دقيق، علما بأنه أول من توصل من بين الأجانب إلى اعتبار اللغة القبطية بمثابة الصورة النهائية للغة المصرية القديمة، وقد قام بنشر ما توصل إليه فى كتابه المنشور فى ١٦٦٤.

 

إنجازات مهدت الطريق 

من الإنجازات الهامة للحملة الفرنسية على مصر، الكشف عن حجر رشيد ، أشهر حجر فى العالم، وذلك فى يوم الثلاثاء الموافق ١٥ يوليو ١٨٧٩، وأطلقوا عليه هذا الاسم نظرًا لأنهم عثروا عليه قرب رشيد. 


حجر رشيد هو الجزء المحفوظ من لوحة كبيرة من حجر البازلت أو الجرانوديوريت، من المفترض أن الجزء العلوى منها ذو شكل مستدير، ويحمل نقشا يمثل الملك بطلميوس الخامس (٢٠٤-١٨٠ ق.م) مع المعبودات، ثم يأتى النص المنقوش فى ثلاثة خطوط، النسخة الهيروغليفية من أعلى.

والنسخة الديموطيقية فى المنتصف النسخة، ومن أسفل تأتى النسخة اليونانية. مما يؤسف له عدم العثور على أية أجزاء أخرى تنتمى لهذه اللوحة. فقد انتهى استخدام الكتابة الهيروغليفية بعد فترة وجيزة من نهاية القرن الرابع الميلادى، ورويدًا رويدًا اختفت المعرفة بكيفية قراءتها وكتابتها. 


قام العلماء العرب، أمثال أحمد بن أبى بكر بن وحشية، الشهير باسم: ابن وحشية- (القرنين التاسع والعاشر) وجابر بن حيان (القرنين السابع والثامن) وذو النون المصرى (متوفى فى ٨٥١ م)، و أبو القاسم العراقى (متوفى فى ١٣٤١م)، ومن بعدهم العلماء الغربيين، أمثال  الألمانى أثاناسيوس كيرشر (١٦٠٢-١٦٨٠م) والفرنسى جوزيف دى جين (١٧٢١-١٨٠٠م).

والدنماركى جورج زويجا (١٧٥٥-١٨٠٩م ) بعدة محاولات لاستعادة القدرة على قراءة العلامات الهيروغليفية. وعلى الرغم من صعوبة الأمر، إلا أن مجهوداتهم لم تذهب كلها هباء، إذ تمكنوا من التوصل إلى عدد من الإنجازات. وبما أن العلم تراكمى بطبعه، فقد قدمت نتائج أبحاثهم عونا كبيرًا وأسهمت فى سرعة قراءة الكتابات التى وجدت على حجر رشيد.

ومن أهم هذه الإنجازات أن العلامات الهيروغليفية تحمل قيمة صوتية وأخرى تصويرية، كما تبين أن الكتابة الديموطيقية هى صورة من صور اللغة المصرية القديمة، وأن اللغة القبطية مرحلة نهائية من مراحل اللغة المصرية القديمة.

حصن قديم

حينما وصلت قوات الحملة إلى شواطئ مصر المطلة على البحر الأبيض المتوسط، اختاروا الحصن المعروف حاليا باسم طابية رشيد مقرا عسكريًا لهم، والحصن فى الأصل عبارة عن قلعة تاريخية شيدها السلطان قايتباى فى عام ١٤٧٠م، واستخدم فى بنائها عدداً من الكتل الحجرية التى تنتمى فى الأصل إلى المعابد المصرية القديمة. تقع القلعة على الضفة الغربية لفرع رشيد بالقرب من مدينة رشيد، وأطلق الفرنسيون عليها اسم حصن جوليان، نسبة إلى أحد شهدائهم، وهو توما بروسبير جوليان أحد مساعدى نابليون فى الحملة على مصر. 


فى يوم ١٥ يوليو ١٨٧٩، وبالمصادفة، أثناء قيام جنود الحملة بالحفر قرب الأساسات بهدف إضافة جزء إلى الحصن القديم، عثر أحدهم من بين الكتل الحجرية القديمة المعاد استخدامها فى بناء أساسات القلعة على كتلة تحمل نص مكتوب بثلاثة خطوط، وعلى الفور أدرك الضابط المسئول عن المشروع بيير فرانسوا بوشار (١٧٧١-١٨٢٢) وجود أهمية ما لهذا الحجر وأخطر قائده جاكيه فرانسوا مينو الذى كان موجودا فى رشيد آنذاك.


فى يوم ١٩ يوليو قدم عضو الحملة ميشيل أنجى لانكرت تقريرا حول الحجر ذكر فيه احتواءه على ثلاثة خطوط مختلفة، الأولى بالهيروغليفية والثالثة باليونانية. وخلال الأسبوع الأخير من نفس الشهر نقل بوشار الحجر إلى القاهرة لفحصه من قبل علماء الحملة، وقبيل عودته إلى فرنسا فى أغسطس ١٧٩٩م، تفقد نابليون بونابرت نفسه الحجر الذى صار معروفا باسم «حجر رشيد». 


وبحلول منتصف أغسطس، تم تثبيت الحجر فى المعهد الفرنسى الذى تأسس حديثًا بالقاهرة. وقد تأكد اعتبار النسختين العلوية والوسطى كنوع من الكتابات المصرية القديمة غير المعلومة آنذاك، فى حين أن النسخة الثالثة الموجودة فى الأسفل، كانت معروفة أنها مكتوبة باليونانية.

وتمكن علماء الحملة الفرنسية من قراءتها، وتبين لهم من السطر الأخير أن الكتابات الموجودة على الحجر تعبر عن ثلاث نسخ من نص واحد، ومن ثم بات من المتوقع أنه يحمل الحجر مفتاح قراءة الكتابة المصرية القديمة وذلك من خلال المقارنة مع النسخة اليونانية، وبات حجر رشيد حديث الصحافة فى مصر والعالم أجمع، وصار محط الأنظار وأحد مقاصد الزائرين.

محاولات إخفاء الحجر

خلال ربيع عام ١٨٠١، وعندما أدرك الفرنسيون سقوط القاهرة فى قبضة الإنجليز، حرصوا على تأمين الآثار التى عثروا عليها وخاصة حجر رشيد، وعند تراجعهم أمام الإنجليز أخذوه معهم إلى الإسكندرية. وعقب استسلام الفرنسيين، حاولوا إخفاء الحجر بكل الطرق لكنهم لم يفلحوا، وكانت النهاية أن انتقلت الغنائم إلى حوزة الجيش البريطانى ومن بينها ٢٢ قطعة أثرية، على رأسها حجر رشيد وذلك طبقًا لبنود معاهدة الإسكندرية ١٨٠١. 


اعتبر الجيش الإنجليزى أن حصوله على حجر رشيد أحد المكاسب العسكرية والسياسية والثقافية فى آن واحد، حيث قاموا بإرساله إلى ملك انجلترا جورج الثالث، آملين أن يكون لهم السبق فى دراسة النص المتعدد الكتابة.

ومن ثم التعرف على علامات الكتابة الهيروغليفية قبل أى بلد آخر. فقد كسب الإنجليز الصراع الثقافى وعادو إلى بلدهم ومعهم الحجر، إلا أن النصر النهائى فى سباق فك الرموز لم يكن من نصيبهم وإنما فاز به الفرنسيون.


وفى فبراير ١٨٠٢وصل الحجر إلى بورتسموث بإنجلترا. وتم إيواؤه لعدة أشهر داخل جمعية الآثار بلندن. وفى يوليو من نفس العام أهدى الملك جورج الثالث حجر رشيد وباقى القطع إلى المتحف البريطاني. ونقش الإنجليز على أحد جوانب الحجر عبارة تقرأ: «استولى عليه الجيش البريطانى فى مصر عام ١٨٠١»، و«قدمه الملك جورج الثالث».


تم عرض الحجر فى الطابق الأرضى بصفة مؤقته، إذ إن أرضية القاعات العلوية لم تكن مؤهلة لحمل كتل حجرية بحجم حجر رشيد. وقد تم إصلاح أرضيات قاعة العرض واستمر عرض حجر رشيد أمام الزوار حتى الآن. ويذكر أن حجر رشيد لم يخرج من العرض إلا لمدة عامين فقط، فيما بين ١٩١٧ و١٩١٩، وذلك تأمينا له إبان أحداث الحرب العالمية الأولى، فقد قاموا بإخفائه داخل مخبأ أسفل أحد المحطات فى هولبورن، على عمق يصل إلى ٥٠ قدماً تحت الأرض.

رسائل ملكية

يعود تاريخ حجر رشيد إلى ٢٧ مارس ١٦٩ ق.م، وهو يحمل رسالة ملكية أو مرسوماً مكتوباً لكافة طوائف الشعب، لذا فهو منقوش بثلاثة أنواع من الخطوط، الهيروغليفى (الكتابة المقدسة الرسمية للبلاد) والديموطيقى (الكتابة الشعبية الدارجة) واليونانى (لغة الملوك البطالمة والموظفين فى مصر).

فمن المفترض أن تكون النسخة الهيروغليفية التى تشغل السجل العلوى هى الأطول مقارنة بباقى الخطوط، إلا أنه لم يتبق منها سوى ١٤ سطرًا، أما النسخة الديموطيقية فهى تشغل منتصف اللوحة، وتتألف من ٣٢ سطرًا، ومن أسفل توجد النسخة المكتوبة باليونانية وتتألف من ٥٤ سطرًا.

والنص عبارة عن مرسوم يؤكد دعم وتقديس كهنة المعبد فى منف للملك بطليموس الخامس، وهو نسخة من عدة لوحات تم توزيعها فى كافة المعابد المصرية، عثر حتى الآن على ثلاثة نسخ من هذا المرسوم، واحدة من الفنتين بأسوان، والثانية من أوسيم بالجيزة، والثالثة وهى الأكثر حفظًا وجدت فى النبيرة بالبحيرة، وهى النسخة المستخدمة فى إعادة تصور لما كان عليه حجر رشيد فى الأصل.


دراسة النص

ويعد الحجر بمثابة نصب تذكارى يعبر عن امتنان الكهنة فى الإسكندرية أو بعض الأماكن المجاورة للملك بطلميوس إبيفانس، وفى عام ١٨٠٣ ظهرت ترجمة أخرى فى باريس للفرنسى أمهيلون.  وبعد الانتهاء من تحديد المعنى الصحيح للنص اليونانى ظهرت الكتابة بالنسخة الديموطيقية بأكبر قدر ممكن من الدقة، ولم تتحول الجهود إلى النص الهيروغليفى.

وإنما تحولت إلى النسخة الديموطيقية، حيث إنها النسخة الأكثر حفظًا من بين النصوص الثلاث، فى حين أن ثلثى النص مفقود فى النسخة الهيروغليفية، كما أن الجزء الأهم أو الافتتاحى للنص والذى يعبر عن الأسماء والتواريخ مفقود تمامًا فى النسخة الهيروغليفية.

و كانت الدراسات الأولى للنص الديموطيقى هى تلك التى قام بها كل من العالم الفرنسى الشهير سيلفستر دى ساسى والدبلوماسى السويدى يوهان ديفيد أكربلاد، ففى عام ١٨٠٢م، بدأ العالم الفرنسى سيلفستر دى ساسى من تحقيق أول محاولة قراءة ناجحة للمجموعات الديموطيقية، انطلاقًا من العلامات داخل الخرطوش.

وتمكن ساسى من قراءة أسماء بطلميوس والإسكندر، وأكمل أكربلاد الجهود وتمكن فى نفس العام باقتدار من تقديم ترجمة لافتتاحية النص وإضافة باقى الأسماء غير المصرية بالإضافة إلى التعرف على مزيد من المفردات والعلامات وأصبح من الممكن التعرف على الإسكندرية واسم المعبودة إيزيس واسم الملك بطلميوس ، ومن ثم يمكن اعتباره أول عالم أوروبى يتعرف على الأبجدية الديموطيقية.

محاولات توماس يونج

خلال العقد الثانى من القرن الـ19 حاول العالم الفيزيائى الموسوعى الإنجليزى توماس يونج بدراسة النص المتعدد الخطوط على حجر رشيد، وقد نجح قبل أى عالم أوروبى فى الربط بين الكتابة الديموطيقية والكتابة الهيروغليفية باعتبارهما لغة واحدة. مستعينًا بما يعرفه عن احتواء الخرطوش على اسم الملك، جنبًا إلى جنب مع عدد من العلامات الأخرى، كما أصبح من أوائل الباحثين الذين أوضحوا كيف أن بعض الحروف الهيروغليفية داخل الخراطيش الموجودة على حجر رشيد تخص أحد الأسماء الملكية، ألا وهو اسم الملك بطلميوس، وتمكن إلى حد كبير من قراءة العلامات التى يتألف منها الاسم فى النسخ الثلاث اليونانية والديموطيقية والهيروغليفية. 


تحديد اسم الملك بطلميوس فى النسخ الثلاث للنص بواسطة الإنجليزى توماس يونج
ويظهر ذلك جليًا فى رسالة أرسلها توماس يونج فى ١٠ فبراير ١٨١٨ يطلب فيها من المستكشف الإنجليزى ويليام بانكس (١٧٨٦-١٨٥٥م) بالبحث عن هذه الأمثلة الهيروغليفية أثناء وجوده فى مصر. والرسالة تظهر إنجازا غير مسبوق فى قراءة العلامات على حجر رشيد وعلى عدد من القطع الأثرية الأخرى، إذ نجح يونج فى التعرف على عدد من الألقاب الملكية.

 

وعلى أسماء بعض الملوك أمثال الملك أمنحوتب الثالث وتحتمس الثالث، وكذلك على اسم بطلميوس واسم الملكة برنيكى، وتعرف أيضًا على أوقات السنة وعلى الأرقام، وقدم قراءة للعلامات المعبرة عن المعبد وعن المعبود والمعبودة بصفة عامة وعن المعبود جحوتى والمعبودتين إيزيس ونفتيس.

وكانت الغالبية العظمى من العلامات صحيحة. وفيما يخص الحروف الأبجدية التى يتألف منها اسم الملك بطلميوس داخل الخرطوش، للأسف لم ينته من التعرف عليها تماما.

شامبليون.. رحلة الطفولة

بالنسبة للنسخة اليونانية من الحجر وفى ضوء السباق العلمى الأوروبى للتوصل إلى مفتاح قراءة النسختين الهيروغليفية والديموطيقية عبر النص اليونانى، ظهرت فى بداية القرن التاسع عشر سلسلة من المقالات.

 وفى عام ١٨٠٢ أعلن القس الإنجليزى ستيفن ويستون أمام جمعية الآثار فى لندن عن أول ترجمة للنص اليونانى، وتبعه مباشرة الفرنسى دوثيل الذى ذكر دور العالم الفرنسى جان فرانسوا شامبليون. 


ولد شامبليون فى ٢٣ ديسمبر ١٧٩٠، وتوفى فى ٤ مارس ١٨٣٢، أى توفى وعمره ٤١ عامًا فقط. كان شامبليون نابغة منذ طفولته المبكرة، فقد اهتم منذ طفولته بالحضارة المصرية القديمة ومحاولة قراءة كتاباتها، وأدرك منذ البداية أن القبطية صورة متأخرة من صور اللغة المصرية القديمة، لذا فقد تعلمها على يد المصرى يوحنا شفتشى الذى كان يعمل كاهنًا للكنيسة القبطية فى باريس آنذاك، ثم تعلم العربية على يد كاهن آخر.

وربما كان ذلك مساعدًا له فى مسيرة جمع حصيلة الكتب والمخطوطات السابقة عن اللغة القبطية أو حصيلة ما ورد فى كتابات العلماء العرب السابقين ومحاولاتهم المتميزة للتعرف على رموز الكتابة المصرية القديمة، إذ ورد أنه كان يتحدث اللغتين بطلاقة.

وفى عام ١٨٠٦م، عندما وصل شامبليون سن السادسة عشرة، ألقى محاضرة علمية أمام أكاديمية جرينوبل بفرنسا ربط فيها بين القبطية واللغة المصرية القديمة. وفى نفس العام كتب إلى أخية رسالة متميزة، وضعها هدفًا أمامه وتمكن لاحقًا من تحقيقه باقتدار، إذ قال فيها: «أريد أن أقوم بدراسة معمقة ومتواصلة لهذه الأمة القديمة (الأثرية). يملَؤنى الحماس، الذى قادنى إلى دراسة آثارهم وقوتهم ومعرفتهم.. ومن بين كل الأشخاص الذين أفضلهم، سأقول بأنه لا أحد عزيز على قلبى كالمصريين».  شامبليون (1806).


وفى سنة ١٨٢٠م، شرع شامبليون بجدية فى مشروعه لفكّ رموز الكتابة الهيروغليفية، وسرعان ما طغت إنجازاته على إنجازات الإنجليزى توماس يونج الذى حقق أولى النجاحات فى مجال فك الرموز قبل عام ١٨١٩م. إذ تمكن من قراءة معظم الحروف أو العلامات التى يتألف منها اسم الملك بطلميوس داخل الخرطوش، لكن شامبليون هو من نجح باقتدار فى تقديم أول قراءة صحيحة متكاملة له. 


واعتمادًا على أسماء الأعلام غير القابلة للتغيير، وبمزيد من الدراسات المقارنة، تمكن أيضًا من التعرف على القيمة الصوتية للمزيد من العلامات. وقد استعان بمعرفته باللغة القبطية وتأكيدًا على ما توصل إليه من خلال محاولته الناجحة عند قراءة اسم الملكة كليوباترا من على المسلة المعروفة باسم مسلة «فيله».

وذلك من خلال مقارنة الحروف المتشابهة بين الاسمين، مثل حروف الباء والتاء واللام و الواو، كما تمكن بنفس الطريقة، ومرة أخرى من خلال معرفته بالقبطية، من قراءة اسم الملك رمسيس على جدران معبده فى أبو سمبل، عندها انطلق مسرعا إلى مكتب أخيه جوتيان لافير وهو يصيح بأعلى صوته «وجدتها». 

جدول يوضح آخر ما توصل إليه كل من توماس يونج وشامبليون 

لحظات حاسمة

فى يوم الجمعة الموافق ٢٧ سبتمبر ١٨٢٢ أعلن شامبليون عبر رسالته الشهيرة إلى مسيو داسيى (أمين المجمع العلمى الفرنسي)، نجاحه فى فك رموز اللغة المصرية القديمة. لذا يعتبر العديد من العلماء تلك اللحظة الفارقة هى ميلاد لعلم المصريات، لأنها نقلت العلم من مجرد وصف للمعالم الأثرية والتحف الفنية إلى كتابة قصص وأسماء وتواريخ.


وقد نشرت الرسالة التى تعد أول عملية نشر علمى وأول أبجدية صحيحة للعلامات الهيروغليفية على حجر رشيد وما يقابلها من علامات ديموطيقية ويونانية على نفس الحجر. كما أعلن فى محاضرة له أمام العديد من الباحثين.

ومن بينهم غريمه الإنجليزى توماس يونج كافة استنتاجاته العلمية التى تضمنت أيضًا كيف أن نظام الكتابة المصرية القديمة كان مزيجًا بين الإشارات الصوتية والرموز، وأن بنية الكلمة فى اللغة المصرية لا تقوم على أبجدية فقط، وإنما تقوم على علامات تعطى القيمة لصوت واحد وأخرى لصوتين وثالثة لثلاثة، كما أكد استخدام المخصصات فى نهاية المفردات لتحديد معانى الكلمات.


وخلال عام ١٨٢٩، سافر شامبليون إلى مصر، حيث قرأ العديد من النصوص الهيروغليفية التى لم تتم دراستها من قبل، ومن بينها قائمة الملوك بمعبد الملك رمسيس الثانى فى أبيدوس، وعاد إلى فرنسا بمجموعة كبيرة من الرسومات الجديدة للكتابات الهيروغليفية. وبعد عودته، حصل شامبليون على درجة الأستاذية فى علم المصريات، لكنه لم يتمكن سوى من إلقاء بعض المحاضرات قبل أن تتدهور صحته التى تأثرت بمصاعب الرحلة إلى مصر، مما دفعه لاعتزال التدريس. ثم توفى شامبليون فى باريس عام ١٨٣٢، ونُشر كتابه حول القواعد النحوية للغة المصرية القديمة بعد وفاته.


وهكذا وضع شامبليون اللبنات الأولى لدراسة اللغة المصرية القديمة. وجاء من بعده المئات من الباحثين الذين أسهموا فى استكمال البناء. وبمعرفة اللغة المصرية القديمة وقد بدأ الغموض ينجلى عن الحضارة المصرية وأخذ علم المصريات يشق طريقه بقوة بين العلوم الأخرى.

رحلة إنشاء مصلحة الآثار المصرية 

كان إعلان شامبليون نجاحه فى قراءة رموز عدد من العلامات الهيروغليفية بمثابة لحظة فارقة لاقت قبولًا واسع النطاق، ولفتت انتباه العالم أجمع إلى بدء مرحلة جديدة فى دراسة آثار الحضارة المصرية القديمة بالأسماء والتواريخ والأماكن والاحداث. فهى الأساس الذى بُنيت عليه جميع التطورات اللاحقة فى هذا المجال، ومن ثم اعتبره العلماء «مؤسس أو أبو علم المصريات».


وتسبب الإعلان فى زيادة الولع بالحضارة المصرية القديمة وآثارها وتنافست الدول الأوروبية فى تقديم المزيد من الدراسات والأبحاث حولها، ووضع الأسسس لعلم الآثار المصرية، وعلى رأسها فرنسا وإيطاليا وألمانيا. ومما يؤسف له، فى تلك الأثناء، أن زادت موجة من أظلم وأبشع فترات نهب الآثار المصرية.

وذلك من خلال انتشار أعمال الحفر العشوائى، والتى كانت تهدف فقط لتجميع القطع الثمينة وبيعها للمتاحف وللأثرياء فى دول العالم الغربى، وهو ما أدى إلى الإنذار بالخطر. وعليه ناشد المتخصصون والعلماء ومن بينهم شامبليون محمد عليّ باشا لإنشاء إدارة تهدف إلى الحفاظ على الآثار المصرية. 


استجاب محمد على باشا للنداءات وأصدر فى ٢٩ يونيو من عام ١٨٣٥م مرسوما بإنشاء إدارة للآثار ودار لحفظ الآثار، وقام بإسناد إدارتهما إلى يوسف ضياء أفندى تحت إشراف رفاعة الطهطاوى، وذلك بهدف حماية الآثار والحد من سرقتها. إلا أن أنشطة هذه الإدارة توقفت فى عهد عباس الأول وقل الاهتمام بالآثار وتجددت أعمال السرقة والنهب.


وخلال عهد سعيد باشا، عادت الأمور إلى نصابها، حيث أمر فى ١٩ يونيو ١٨٥٨ بإنشاء مصلحة الآثار، وأسند رئاستها إلى الفرنسى أوجست مارييت (وهى المصلحة المستمرة فى آداء مهامها حتى الآن ولكن فى ثوب المجلس الأعلى للآثار وزارة السياحة والآثار).

واستمرت رئاسة الآثار حكرًا على الفرنسيين (ماسبيرو ودى مورجان ولوريه ثم ماسبيرو مرة أخرى حتى ١٩١٤ ثم بير لاكو حتى ١٩٣٦ ثم إيتون دريتون) إلى أن تم تمصيرها إبان ثورة يوليو ١٩٥٢، وتولى مصطفى عامر رئاستها بصفته أول رئيس لمصلحة الآثار المصرية فى ١٤ يناير ١٩٥٣، لذا يعتبره العاملون بالآثار عيدا للأثرين المصريين يُحتفل به كل عام.


لعب علماء الآثار الأجانب دورًا هامًا فى توثيق وإضافة المزيد من الاكتشافات وإعداد الأبحاث والدراسات الأثرية، على سبيل المثال لا الحصر روزيليلنى ولبسيوس ومارييت وبروجش وزيته وبترى ونافيل وريزنر وإرمان ومونتييه وجاردنر، ومن المصريين أحمد باشا كمال وسليم حسن وسامى جبره ومحمود حمزة ولبيب حبشى وأحمد فخري.


ومن أهم الاكتشافات الأثرية عبر تاريخ الآثار المصرية هى الكشف عن مقبرة الملك الشاب توت عنخ آمون التى يمر على اكتشافها ١٠٠ عام، وخبيئة الدير البحرى الأولى والثانية وخبيئة الكرنك وخبيئة معبد الأقصر واكتشاف السرابيوم فى سقارة، واكتشاف البرديات فى اللاهون، بالإضافة إلى الكثير من الإكتشافات التى تقوم بها وزارة الآثار المصرية حاليا، على سبيل المثال لا الحصر خبيئة العساسيف وسقارة والغويطة بالمنيا.


أصبح علم الآثار المصرية من العلوم الثابتة الأركان الواسعة النطاق، وأصبحنا نستطيع من خلاله استعراض عصور حضارة مصر القديمة منذ أن ظهر الإنسان واستقر على ضفاف النيل حتى تغلب على بدائيته واخترع الكتابة قبل كافة حضارات العالم القديم.

اقرأ ايضا | احتفالا بفك رموز الكتابة المصرية.. تعرف على السقف الفلكي بمعبد دندرة بقنا

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة