الشاب بسام
الشاب بسام


رحلة عذاب الشاب بسام .. من تجار «الكيف» إلى تجار المصحات

أخبار الحوادث

الأحد، 25 سبتمبر 2022 - 09:23 ص

مصطفي منير

  شاردًا يجلس بجوار جسد ابنه داخل غرفة العناية المركزة، لا يملك سوى الدعاء، ومحاولة جلد الذات وعتاب بسيط لابنه على افعال الماضى، يتذكر طفولته والأيام السعيدة التى جمعتهما سويًا، ضحكات وحوارات كانت تجمعهما، يتمنى لو يستطيع إعادة السنوات وتغيير الواقع، لا يريد سوى رؤية ابنه واقفا على قدميه كما كان، لا يتمنى سوى الشفاء العاجل له، والحديث مرة أخرى مع ابنه الساكن على الفراش أمامه بلا حراك، رحلات طارا إليها معا، ولكن الرحلة الاخيرة لابنه كانت مليئة بالعذاب والدموع، حاول «بسام» الهروب من تعاطي الكيف ولكن وجد نفسه يسقط فى يد تجار التعافى الذين لا يعرفون الرحمة ليعيش داخل سلخانة أو كما يسمونها مصحة لعلاج الإدمان.. العذاب والاهانة والخوف كانت السمة لما يلقاه داخل المصحة.. تفاصيل مثيرة حول رحلة بسام يسردها لنا والده.

داخل غرفة العناية المركزة بمستشفى المبرة بمصر القديمة، يرقد الشاب بسام صاحب الـ 22 عاما من العمر، يجلس بجواره والده عم «محمد» الذى تعدى الـ 50 عاما من عمره، الدقائق تمر ببطء ودائمًا دموع الأب تغلبه وتتساقط وهو ينظر لوجه ابنه الشاحب الذي أصبح بين الحياة والموت، حالة من الحزن والخوف تتملكه، نبضات قلبه تتزايد مع أصوات الاجهزة الموضوع عليها الابن الشاب كأنها قيود تحاصر سريره من كل جانب، دائمًًا عيونه حائرة بين فلذة كبده والاجهزة الطبية الموجودة ومتابعتها هو يعلم جيدا طالما تتحرك الخطوط صعودًا وهبوطًا فهذا يعني ان ابنه يتنفس وبخير؛ فالأب يعمل ممرضا بإحدى المستشفيات الحكومية، لذلك يتابع حالة ابنه ويعلم جيدًا دقائق الخطر التى تمر عليه، لا يتوقف عن الدعاء و الحديث مع النفس، دائمًا ما يخرج من الغرفة ليلتقط أنفاسه، فأثناء جلوسه بجوار سرير العناية المركزة النائم فوقه ابنه يحاول السيطرة وكتم انفاسه حتى لا ينزعج المريض، أحيانًا يدخل الاب فى وصلة عتاب بينه و ابنه المريض، يسأله بلغة العيون؛ «ليه وصلتنا لكل ده  يابني؟!» واحيانًا يعاتب نفسه ويقول أكيد انا اللى قصرت.. ولكن دائمًا ما ينتهى به الحديث الداخلي بكلمة واحدة «الحمد لله انها جات على قد كده».

أخبار الحوادث التقت بوالد «بسام» داخل المستشفى لنعرف الحكاية كاملة ويروي لنا التفاصيل الدقيقة التى مرت عليه وعلى ابنه الوحيد، ورحلته من المخدرات إلى مصحة الموت، وتلك الحالة التى قابلنا بها الأب المكلوم.

أزمة نفسية

علامات الإرهاق والتعب تسيطر على ملامح الأب «محمد»، جلس فى هدوء، وبعد لحظات من الصمت بدأ الحديث معنا قائلاً: الحكاية بدأت منذ اسبوعين تقريبًا، عندما فوجئت باتصال هاتفى من ابن خالة «بسام» وقتها كانوا فى مدينة الإسكندرية كباقى الشباب يحاولون تغير جو والخروج عن المعتاد فى الحياة، اخبرنى ان بسام «تعبان» ولا يريد الحديث مع أحد وفشلت كل محاولاتى فى الحديث معه أو تغيير ما هو عليه، وقتها لم أتحمل الانتظار انطلقت سريعًا للإسكندرية، خصوصًا أن ابنى كان يمر بأزمة نفسية صعبة منذ عام فى نفس التوقيت تقريبًا، بسبب مواقف مع اصدقائه شعر وقتها أنهم لا يبادلونه الشعور وأن مواقفه المليئة بالجدعنه ترد بعكسها تماما.

وصلت لابنى وبدأت الحديث معه عن سبب أزمته، وما يشعر به رفض الحديث معى فى البداية ولكن بعد دقائق بدأ يخبرنى عما بداخله افاض لي بالحقيقة المؤلمة؛ انه يتعاطى المخدرات ويريد التوقف عنها، وبالفعل أخبرته فورا لابد من الرجوع للقاهرة، ودخول مستشفى للعلاج.. لم يمانع بل وافق على الفور كان لديه الاستعداد النفسي للعلاج، وبدأنا تحضيرات العودة وبالفعل لم تمر سوى ساعات معدودة ووصلنا لمنزلنا فى شبرا الخيمة، جلست بجواره وبدأنا الحديث، فوجئت به يبكي بشدة، ويقول لي «ليه يا بابا اكون جدع مع ناس والخيانة تكون الرد» وقتها أيقنت أن ابنى يمر بأزمة نفسية، والازمة ليست فى الإدمان فقط كما تصورت، لم أستطع الوصول لحل بمفردي، ولكنى فوجئت بزميل لي فى المستشفى يخبرنى بأنه يعرف مصحة نفسية لعلاج الإدمان، لكنها خاصة وهذا افضل ليتم رعاية بسام، وقتها لم أتردد للحظة اتفقت معه على الذهاب برفقة بسام وإيداعه هناك ليتم علاجه، عدت للمنزل لأخبر ابني بحكاية هذه المصحة، وافق بسام سريعًا، طلبت من والدته إعداد شنطة ملابسه و فوجئت بأنه يساعدها، انطلقنا سويًا وذهبنا لمستشفى «ا» لعلاج الادمان الموجودة بالخانكة، قابلنا وقتها صديقى على باب المستشفى.

رحلة عذاب

يصمت الاب قليلاً بعدما عجز عن أن يحبس دموعه، وبصوت مبحوح تابع قائلا؛ «انا اللى عملت فيه كده»، يعود للصمت لدقائق ثم يواصل الحديث، وصلنا للمستشفى ووقفنا على بابها قليلاً وتحدثنا وقلت له بالنص «لو حاسس انك محتاج تروح دلوقتى ونرجع بعدين مفيش مشكلة»، لكنى فوجئت به «لا انا عايز اتعالج وابدأ حياتى من جديد»، وقتها اقترب مني صديقى وبدأ الحديث بينا جميعًا حول العلاج وأنها مسألة ايام معدودة وسيعود لحياته من جديد ويفعل ما يشاء، واثناء الحوار بيننا فوجئنا بشخص ظهر لنا ويدعى الشيخ «محمد.ا» استقبلنا بهدوء وكلام منمق، كما أخبرنى أن العلاج سيبدأ من لحظة دخوله الغرفة، ولا داعي للقلق، وعندما سألته عن مواعيد الزيارات أكد أن أول زيارة ستكون بعد 10 أيام، لم أمانع وكل هدفي هو مصلحة ابنى «بسام» ولكن فوجئت بأن نجلي ينظر لي ويقول «ما بلاش يا بابا المكان ده» وكأنه يشعر بما سيقابله، اعتقدت أنه خائف من خطوة العلاج ووقت بدء رحلة التعافى، ولكن حاولت بقدر ما أستطيع ان اطمئن قلبه وأننى سوف أحضر له فى موعد الزيارة ولا داعي للقلق.

انطلقت وتركت ابنى وحيدا مع الشيخ كما يلقبونه داخل المصحة، لم أدرك أن ما سيشهده ابنى سيكون عذابًا بكل ما تحمله الكلمة من معان، مرت الـ 10 أيام وكأنها دهر عليّ، لا أستطيع التحدث معه هاتفيًاً أو أسمع صوته للاطمئنان عليه، فما بالكم انني محروم من رؤية ابني.

بعد مرور الأيام أحضرت والدته الطعام الذي يحبه، وأخذته معي وذهبت مسرعًا لمصحة العلاج، ولكنى فوجئت بالشيخ يرفض الزيارة ويقول لي «هو تعبان شوية» يومين وهكلمك تأتي للزيارة، ولكنى رفضت بشدة وأصريت على رؤية ابنى والجلوس معه حتى لو لدقيقة واحدة، وبالفعل تركوني داخل مكتب الشيخ وجاء ابنى؛ هنا انهار الأب فى البكاء الدموع غلبته وتساقطت امامنا، ويتابع الحديث وهو يبكى قائلاً: «لقيت شابين شايلين ابنى من كتفه، وقدمه لا تستطيع حمل جسمه، حتى أجلساه أمامى على كرسي»، يصمت الأب قليلاً ويتابع حديثه قائلاً: لم اتخيل ان أشاهد ابنى فى تلك الحالة، بمجرد أن جلس لاحظت علامات غريبة على قدميه، اقتربت منه ووضعت يدي على ظهره وأنا اسأله عن حاله، فوجئت به يصرخ قائلا: «شيل ايدك يا بابا مش قادر» ، حاولت التحدث معه ولكن كان هناك شخص يقف خلفى ارى نظرة الخوف فى ابنى كلما نظر اليه هذا الشخص الضخم، لم أتمالك اعصابي وقتها وانفجرت قائلاً: «انتوا عملتوا ايه فى الواد» هنا تدخل الشيخ «محمد» وقال لي انا قولتلك تعالي شوفه بعد كام يوم، هو لسه بيتعالج، وقتها قلت له «كان زمانه بقى جثة»، وقررت وقتها أن آخذه معي خارج المستشفى، رفضوا فى البداية، ولكن بعد الحديث معهم، اكدت لهم اننى سأكشف عليه لنداوي الجروح وسيعود لكم اليوم، وافقوا ولكن ان يخرج معنا الشيخ.

بين الحياة والموت

خرجنا بالفعل وذهبنا لمستشفى قريبة وبعد الكشف عليه فوجئت بالطبيب منفجرًا يقول لنا؛ «ازاى حالته وصلت لكده.. ده لازم يدخل رعاية مركزه دلوقتى»، وقتها اتصلت بأحد زملائي ليخبر الطبيب بحالة ابني واستطعنا بعدها نقله إلى مستشفى المبرة، في هذه الاثناء فوجئت باختفاء الشيخ، تركونى بابنى وهو بين الحياة والموت، حملته سريعا وانتقلنا لمستشفى المبره بمصر القديمة، وبالكشف عليه فى الطوارئ اكتشفنا الكارثة بعد الفحوصات، فابنى دخل المستشفى وهو يعانى من «صعوبة فى التنفس، اصفرار عام في الجسم، وجفاف شديد، ارتفاع فى وظائف الكلى، وخلل فى وظائف الكبد، وارتفاع مستوى دلالات الالتهابات، ونسبة الصفرا في الدم، وانسكاب بلورى بالناحية اليسرى للرئة وكسر بالضلع الايمن» بالاضافة إلى «جروح ظاهرة و كدمات متفرقة بالجسد ووجود سجحات متعددة فى الظهر والذراع الايمن والساقين، و جرح أعلى الحاجب الايمن طوله 4سم».

لم استطع تمالك أعصابي بعد سماع ما حدث لابنى، حررت محضرا رسميا بمركز شرطة الخانكة يحمل رقم 7549 اداري بتاريخ 5 /9/ 2022، حتى لا يضيع حق ابنى وحتى لا يحدث مع شاب آخر كما حدث مع ابنى، فكيف يدخل ابنى وهو يعانى من الإدمان للتعافى ويخرج شبه جثة بين الحياة و الموت.

حياة

يعود «محمد» للصمت ويلتقط انفاسه بصعوبة وهو يحاول السيطرة على دموعه من السقوط، لحظات طويلة مرت وهو شارد النظر وكأنه يجلس وحيدًا، يبتسم ابتسامة هادئة ويتابع الحديث قائلاً: «بسام مش ابنى بس.. ده صاحبي» فى معظم الأوقات يجلس معي ونتحدث فى كل الأمور، فهو الابن الوحيد على شقيقتيه الكبرى متزوجه والصغيرة مازالت تستكمل دراستها، ابني حاصل على دبلوم زراعة، اكتفى بهذا القدر من التعليم وقرر العمل وبدأ بالفعل بالعمل فى محلات كما عمل في مهن اخرى، حتى فوجئت به يتحدث معى انه يريد شراء سيارة ويعمل عليها سائق، لم اتردد لحظة في مساعدته وخصوصاً اننى لاحظت انه يحاول الاعتماد على نفسه، حصلت على قرض من البنك، واشتريت له سيارة بالتقسيط بعد دفع مقدمها، ومن العمل عليها كان يسدد الاقساط فى مواعيدها، لم أشعر انه عبء عليّا إلى ان تعرض لحادث تصادم منذ شهر وظلت السيارة لدى الصيانة، ومنذ ذلك الوقت وجلوسه فى المنزل دون عمل بدأت الافكار تطارده، نفسيته تسوء يومًا تلو الآخر، حتى جاء الاتصال  حدث ما حدث بعد ذلك.

يعود الأب فجأة فى الحديث ويقول؛ كيف يحدث هذا داخل مصحة تزعم أنها تعالج المدمنين، لم أكن أعلم انها غير مرخصة، فقد بدت امامي وكأنها مستشفى ولكنى اكتشفت بعد ذلك أنها غير تابعة لوزارة الصحة، وعندما سألت ابنى قبل دخوله فى غيبوبة «هو انت مكنتش بتاكل.. انا كنت سايبلك فلوس» أجاب قائلاً، «لما انا أكل هما هيكلوا منين»، تلك العبارة كانت آخر الكلمات التى نطق بها ابنى قبل دخول فى غيبوبة، وحتى الآن يعود للحياة لحظات لا يتكلم فيها ولكنه ينظر لي فقط ويعود لغيبوبته مرة أخرى.

>>>

انتهت القصة ولكن لم تنته المأساة بعد.. إلى متى تستمر مصحات الموت تخطف من يسقط في بئر الإدمان دون علاجهم، إلى متى تستمر المصحات غير المرخصة تعبث فى حياة المقبلين على التعافى؟!.. كم من مرة سمعنا خبر وفاة فتاة أو شاب اثناء محاولة هروبه من مصحة لعلاج الادمان، ونكتشف فى النهاية انها غير مرخصة ومخالفة، والأدهى أنه بعد شن الحملات الامنية عليها تتضح لنا المأساة؛ انه عثر بداخلها على ادوات تعذيب وادوية مجهولة المصدر واخرى مخدرة.

د. هشام ماجد: كيف تتعرف على المصحات غير المرخصة؟!

بالحديث مع الدكتور هشام ماجد الطبيب النفسي للأسف تنتشر اماكن علاج الادمان غير المرخصة، والتى يديرها مدمنون متعافون، الذين يعملون فى تلك الاماكن وكأنهم أطباء أو ممرضين حيث يظهر وكأنه المشرف المتابع للمريض، وللأسف هذه المصحات هدفها الربح، وبمجرد وصول المريض يتم حجزه مقابل مبلغ اقل بكثير من الطبيعي.

وفى حالة تهيج المريض أو نوبة تعاطي المخدرات يقومون بربطه وتعذيبه، وهنا نجد الكوارث، وفى حالة تعب المريض أو وفاته يقوم العاملون بالمركز غير المرخص بإغلاق المكان والقاء الجثة فى أي مكان والهروب من مكان المصحة.

فلابد من توافر شروط للمكان المرخص، الأول هي رخصة المدير الفنى وهو الطبيب النفسي المسئول عن المركز وتكون من نقابة الاطباء، ورخصة من العلاج الحر بوزارة الصحة ورخصة المركز القومي للصحة النفسية، أن توافرت تلك التراخيص أطمئن أن هذا المكان مرخص ويعمل بالنظام العلمي بخطة علاجية ويتم التفتيش الطبي عليه من كل الجهات الرقابية، وليس كما يحدث فى الاماكن غير المرخصة.

وهناك أماكن تتلاعب بتلك الرخص فتجد بعد الاماكن تقوم بأخذ رخصة واحدة فقط هي «رخصة المدير الفني» حيث يعرضها على أهالي المريض، الذين لا يدركون أن هذا المركز وبرغم أن طبيب نفسي يديره لا يحق له علاج المدمنين. 

ويجب أن يعلم الراغب في العلاج أو اسرته أن المجلس القومي للصحة النفسية يوفر أكثر من رقم  للاتصال، ومعرفة المراكز المرخصة، والأهم أنه لابد من ثقافة العلاج، وفي حالة اكتشاف المريض أو أهله أن تكاليف العلاج ستكون مكلفة فهناك خط ساخن لعلاج الادمان بالمجان وتحت اشراف وزارة الصحة، لكن هناك من يكون قادرا مادياً فيذهب الى مصحة غير مرخصة، فخوفاً من العار احيانا بعض الأسر تلقي بأولادها داخل مصحة غير مرخصة كل اساليبها خاطئة.

اقرأ أيضأ l سقوط تجار «الكيف» بالساحل والشرابية

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة